حلال على السلطة حرام على غيرها!

إعادة المعاني المسروقة الى المفاهيم الوطنية

كل أدوات التقسيم باتت محتكرة بيد الدولة من الهوية الى الايديولوجيا الى التركيبة الادارية والى الاضابير القانونية. ولكن ليس هناك من يجرؤ على اتهامها بأنها دولة تحمل نزعات انفصالية.. كيف وقد وحّد مؤسسها أجزاء واسعة من الجزيرة العربية تحت سلطة موحدة، ولكن مع ذلك كل أدوات الدولة تشجّع على تقسيم المجتمع. ولكن الدولة بهذه الادوات التقسيمية تقدّم نفسها في أرقى صور الوطنية، بل وتدخل في مجابهة مع كل الشرفاء والوطنيين كيما تزايد عليهم في الوطنية، بل وتصمهم بالانفصالية وتهديد الوحدة الوطنية حين يطالبون بحق المساواة كعنصر أصيل في مفهوم المواطنة، وحينئذ تتحول المساواة الى دعوة انفصالية أو تقسيمية، لأنها ليست جزءا من خطاب الدولة ولا في قائمة أدواتها.

أنت إذ تطالب بالتمثيل العادل في السلطة، والمشاركة السياسية، والتعددية الحزبية، وحرية الصحافة والتعبير، واحترام حق المرأة السياسي.. تكون متهماً في ولائك للدولة، وربما تتهم لاحقاً بكونك ''فاسد المعتقد'' وقد تدور عليك دوائر أهل الحكم وأهل العلم (الشرعي طبعاً) فتصبح في قائمة المنسيين شنقاً أو رمياً بالرصاص.

الدولة تواجه رعاياها بقيم مستعارة، فهي تستعمل كل المبادىء الكبرى: المواطنة، الوطنية، العقيدة السمحة، التقدم، التنمية، الانفتاح، والشورى.. طالما أنها مبادىء لن يتم اختبار صلة القرابة بينها وبين الدولة لدينا، وطالما انها لن تخضع للفحص والرد من قبل الرعايا. صعوبة الامر تكمن فيما لو برز من بين الرعايا من يضع الاشياء في أماكنها الصحيحة، فيعيد المعاني المسروقة الى تلك المفاهيم.. وحينئذ تصبح المفاهيم ملتحمة بمصاديقها، وليس كما قرر معانيها أهل الحكم.

بلا شك فإن المواطنة، على سبيل المثال، في عرف أهل الحكم لدينا لا تعدو اكثر من الامتثال لقوانين الدولة وإظهار الولاء للسلطة، والبراء من خصومها الداخليين والخارجيين. ولكن حين يتم تعريف المواطنة تعريفاً علمياً صحيحاً يتعارض مع النزوع التسلطي لدى أهل الحكم، تصبح المواطنة كمضمون نقيضاً موضوعياً لتكوين السلطة وأساسها الايديولوجي. فالمواطنة كما تعرّفها المراجع العلمية تفترض: المساواة في الحقوق الاقتصادية والاجتماعية، واخيراً الواجبات المتبادلة بين الحاكم والمحكوم. وبلا شك فإن تعريفاً كهذا ليس مرفوضاً فحسب، بل ومحارب أيضاً.. والانكى اشتراك طائفتين في هذه الحرب على مضمون كهذا للمواطنة وهما: الامراء والعلماء.

نفهم خلفية معارضة العلماء للمواطنة باعتبارها مناقضة مضموناً لتكوينهم الايديولوجي ورؤيتهم الدينية، ولكن معارضة الامراء تبدو ممقوتة خصوصاً حين يرددوا هذا المصطلح ويشهرونه أحياناً كسلاح في وجه من أرادوا تسقيطه أو نبذه أو معقابته.

فأن تخالف الدولة كل شروط المواطنة، وأن تضع عملياً محددات مفبركة للمواطن الصالح والمواطن الفاسد أو اللامواطن بناءً على عقيدة رجال الدولة في تصنيف الرعايا، الاقرب فالأقرب، فهذا الأمر يعتبر جائزاً في عرف الدولة وأجهزتها، ولكن ان يرفع دعاة الاصلاح مطالب بإرساء مبدأ المواطنة بصورة صحيحة والغاء تلك القيود والشروط المفروضة على مواطنة السكان، فحينئذ تنقدح كل مبررات القمع ضد هؤلاء الاصلاحيين.

ليس هناك اختلاف بين الحكومة والمعارضة على العناوين العريضة، ولكن الاختلاف يكمن ويتزايد في المضامين والمصاديق، حيث تنشق مساحة واسعة بين الطرفين في المناظرة حول ماذا يعني هذا المفهوم وماذا يشتمل ويتضمن ذاك المفهوم. للحكومة مقاصدها من تلك المفاهيم وللمعارضة خلافها، وفي كل الاحوال يبقى الحَكَمُ في مدى إقتراب كل فهم وغرض من المعايير العلمية.

ولأن الحكومة تحتكر وسائل القوة والقدرة من اعلام وجيش ومؤسسة أمنية، فإنها تراهن على استعمال هذه الوسائل في فرض مفاهيمها الخاصة، وإن جاءت تحت عناوين ومثل عليا، ولكن حين تأتي لحظة اختبار مصداقية تبني الدولة، تفقد المفاهيم حضورها لحساب السلطة التي تصبح وحدها القيمة العليا.

إطبع الصفحة الصفحة السابقة