حتمية الإصلاح السياسي لا تعني القبول الملكي به أو المضي باتجاهه

مؤشرات إنكسار ''الدولة'': إستجابة للتغيير بالمزيد من العنف

حتمية التغيير والإصلاح السياسي في المملكة العربية السعودية مقولة تكرّرت لعقود طويلة من قبل باحثين محليين وأجانب. فالمعطيات العلمية والإحصائية التي كانت بين يديهم تشير الى تلك الحتمية، ولكنّ شيئاً جديراً منها لم يقع ولم يحدث. فهل كانت تلك الدراسات مجرد تخرصات لم تبنَ على معطيات واقعية، وأن العائلة المالكة التي تمسك بزمام الأمر كانت ولاتزال أكثر إدراكاً لطبيعة مجتمعها الذي تحكمه، وأكثر وعياً بمفاعيل التغيير التي قد تكون استعصت على فهم الباحثين بمختلف مشاربهم وتوجهاتهم؟

الآن وقد تكررت ذات العبارة ''حتمية التغيير''.. فإن التاريخ يعيد الى الأذهان كيف أن العائلة المالكة في السعودية نجحت حتى الآن في الخروج من كل المآزق التي مرّت بها، واستطاعت بأساليبها إحباطها المرة تلو الأخرى دون أن تحدث مضاعفات كان يعتقد المحللون بحتمية وقوعها. وأمراء العائلة المالكة يشيرون بين الفينة والأخرى بطرف خفي الى حقيقة لا يمكن نكرانها وهي أن نظام الحكم السعودي تجاوز كل المآزق السياسية الداخلية والخارجية دون أن يقدّم تنازلاً في ثوابته وفي مقدمتها أن السياسة والحكم شأن خاص بالعائلة المالكة وحدها، وأن لا حقّ لأحدٍ أيّ كان خارج إطارها من تعاطيها أو إقحام نفسه في أتونها.

لنستعرض بعض الأزمات التي مرّت بها العائلة المالكة في عقودها الخمسة الماضية لنرَ حدود التأثير الذي صنعته لدى قواعد الحكم في المملكة. تمثلت الأزمة الأولى في غياب الرمز التاريخي الذي صنع الوحدة، وهو الملك عبد العزيز، فقد كان متوقعاً أن تنهار مملكته، ويتشاجر أبناؤه على السلطة فتتبدّد وتنهار الدولة. جاءت وفاة الملك المؤسس بعد عام من قيام الثورة المصرية، وفي ظل عداء مستحكم بين الهاشميين في العراق والأردن وبين العائلة السعودية، وقد كان الهاشميون ـ خاصة في العراق ـ ينتظرون بفارغ الصبر نهاية الأسطورة السعودية التي أخرجتهم من الحجاز، ليعودوا إليه.

لم يكن الملك سعود قادراً على ملء كرسي والده، واستطاعت العائلة المالكة تجاوز خلافاتها على مضض شديد، الأمر الذي جعل مسألة الخلافة تمضي بيسر الى حين.. ومما ساعد في الأمر خاصة في السنوات الأولى لحكم الملك سعود، أن القوى الإجتماعية والسياسية كانت مهيضة الجناح، ضعيفة مشتتة لم يكن بإمكانها حشد أيّ مقاومة تستهدف نظام الحكم أو تتمكن من إعادة مكوناته المناطقية الى سابق عهدها. بيد أن المشاكل تصاعدت بين الأمراء (جناحي الملك سعود وأخيه فيصل ولي العهد) ابتداءً من عام 1956، ولم تهدأ إلاّ بالإطاحة بالملك سعود في عام 1964. وخلال هذه الفترة ظهر تهديد جدّي قادم من مصر تحالفت معه المملكة ابتداءً (في مقاومة الهاشميين الذين تبنّوا حلف بغداد) وفي مقاومة الإستعمار البريطاني حيث دخلت المملكة تجربة فريدة من نوعها في صراعها مع بريطانيا أدّت الى قطع العلاقات بسبب أزمة البريمي. لكن العائلة المالكة ما لبث أن شعرت بأن نظاماً ثورياً مصرياً لا بدّ وأن يأتي على قواعد النظام بالتدمير، خاصة بعد سقوط الهاشميين في العراق عبر ثورة 1958 وتزايد الحركات المعارضة وتصاعد تمردات الجيش الى حدّ الخروج من الثكنات مرددّين: باقي إثنين.. واحد وحسين (أي لم يبق سوى الملك سعود والملك حسين). هنا انقلبت العائلة المالكة في سياساتها ضد مصر وتبنّت مشروعاً أميركياً (الحلف الإسلامي) وحاولت اغتيال عبد الناصر (قصة عبد الحميد السراج) كما حاولت دقّ أسفين في الوحدة المصرية السورية.. وجاءت الثورة اليمنية ومن بعدها الحرب لتجعل خيار السعودية يميل الى الحرب الشاملة داخلياً وخارجياً للدفاع عن نفسها.

لم تكن التهديدات الداخلية والخارجية في مجملها تستهدف (إصلاحاً) تدريجياً بقدر ما كانت تميل الى إسقاط النظام السياسي نفسه. شيئاً من هذا لم يحصل. فالذي حصل ـ ربما نتيجة هذه التهديدات ـ هو محاولة تدعيم أجهزة الدولة وتقويتها في جوانبها العسكرية والأمنية والى حدّ ما الإقتصادية (مع تذبذب في هذا الأمر) إضافة الى تنشيط السياسة الخارجية السعودية وتوثيق التحالف مع الولايات المتحدة والإندماج شبه الكامل في سياساتها واستراتيجياتها في الشرق الأوسط ضمن ما سمي بـ (الحلف الإسلامي) و (مكافحة الشيوعية).

رافقت الأزمة الخارجية للمملكة والدافعة باتجاه إسقاط النظام والمدعومة بامتدادات تنظيمية داخلية (بعضها مسلحة)، أزمة أكثر خطورة وتمثلت في الصراع المرير والذي استمرّ قرابة سبع سنوات بين ولي العهد فيصل وأخيه الملك سعود حيث امتدت بين عامي 1958 و1964. تلك الأزمة كان من المفترض أن تفضي الى إصلاحات داخلية تؤسس الى تغيير تدريجي في نظام الحكم. لكن الغالبية الساحقة من الأمراء كانت ترفض الإصلاح السياسي لسببين:

الأول: أنها لا تعتقد بأحقيّة أحدِ من الشعب في المشاركة في الحكم.

والثاني: لم تكن العائلة المالكة في وضع نفسي لأن تظهر ضعيفة أمام الضغوط المحلية والخارجية فتستجيب لدعوات الإصلاح السياسي والتي لم تتعزّز إلا بوجود أنصار لها بين الأمراء أنفسهم.

قاد الأمير طلال دعوة التغيير ابتداءً لصالح فيصل في مارس 1958 مستفيداً من أخطاء الملك: محاولة اغتيال عبد الناصر والوحدة، واستعداء إخوته وإزاحتهم عن مناصبهم وتعيين من يريد من أبنائه في الوزارات والعسكر، خاصة بعد محاولة الإنقلاب عام 1956 حيث أسس الحرس الملكي وأنشأ الجيش الأبيض (الحرس الوطني فيما بعد) وعهده لأحد أبنائه (خالد). اتفق عشرة من الأمراء في 22 مارس 1958 على أن يتولّى الأمير فيصل دفّة السلطة وتعديل نظام مجلس الوزراء، كما اتفقوا على اقتراح (مشعل وطلال وبدر) بوضع دستور للبلاد، وتفعيل مجلس شورى الحجاز القديم ليكون مجلساً تشريعياً حقيقياً لكل المملكة، إضافة الى وضع نظام للمقاطعات. ورضخ سعود وتعيّن فيصل رئيساً للوزراء بصلاحيات كبيرة فأدار البلاد لمدة عامين تقريباً بشكل أفضل، لكن طلال عاد مرة أخرى ودعم الملك سعود لإستعادة صلاحياته ضد فيصل لأن الأخير لم ينفذ ما اتفق بشأنه في مجال الدستور ومجلس الشورى الأمر الذي أدى الى إقالة فيصل من الوزارة في 21 ديسمبر 1960، وتأسيس وزارة جديدة سميت بوزارة الشباب تولى طلال فيها وزارة المالية والطريقي وزارة النفط وإبراهيم السويل وزارة الخارجية (كانت هذه المرة الأولى والأخيرة التي يتولّى وزارة سيادية شخص من العامّة).

تبع هذا تشكيل لجنة وضعت دستوراً مكوناً من 220 مادة، ونظام مقاطعات، ولكن الملك سعود عاد وتنكّر للإصلاحات، فانهارت وزارة الشباب بعد ثلاثة أشهر من تشكيلها وعاد فيصل الى موقعه كرئيس للوزراء من جديد، فقذف بالطريقي الى خارج الحدود، وأقام طلال في الخارج محاولاً تشكيل جبهة وطنية ضد ولي العهد فيصل الذي أعاد تشكيل الوزارة بشكل يناسبه، فيما كان الملك سعود يتنقل من بلد الى آخر من أجل النقاهة والإستشفاء، وما أن يعود حتى يطالب من جديد بالحكم ويقصي فيصل ليعود هذا الأخير مرة أخرى ليحجم الملك ويشكل وزارة أخرى في سبتمبر 1962. وهكذا دواليك.

لم يحسم الأمر إلاّ في عام 1962 حيث قررت العائلة المالكة مدعومة برجال المؤسسة الدينية أن يكون الملك سعود ملكاً إسمياً بدون سلطات، وأن يتولى فيصل كل شؤون الدولة. كانت فتوى العلماء في 29 مارس 1964 ووقع عليها المفتي محمد بن إبراهيم آل الشيخ، وعدد من كبار العلماء بينهم مشايخ من آل الشيخ إضافة الى الشيخ ابن باز ومحمد الحركان وعبد الرحمن بن فارس وسليمان بن عبيد وعبد العزيز بن صالح.

بعد هذا تم تجريد الملك سعود من كل صلاحياته وقواه العسكرية حيث تمّ حل الحرس الملكي وسحب من قصر الناصرية الذي يقيم فيه سعود، وسحب الحرس غير النظامي من القصور الملكية، وخفضت مخصصات الملك وعائلته من 170 مليون ريال سنوياً الى 24 مليون ريال فحسب. ولكن الأمور لم تحسم الصراع فكان لا بدّ من عزل الملك سعود بدعم من المشايخ وبإجماع من العائلة المالكة تقريباً وذلك في نوفمبر 1964.

لم تكن المعارضة الداخلية لتحصل على فرصة أفضل من تلك لفرض رأيها وشروطها على العائلة المالكة لتقوم ببعض الإصلاحات، لكنها فيما يبدو كانت ضعيفة، أو أنها في الحقيقة كانت تتجه الى العمل السري المدعوم من الخارج (النظم الثورية في العراق ومصر وسوريا) الذي يستهدف إسقاط النظام على الأرجح عبر انقلاب عسكري. ربما كان يدور بخلد المعارضين أن الإصلاح بالتحالف مع أمراء العائلة المالكة (الأمراء الأحرار) غير كافٍ أو لا يمكن أن يتمّ اختياراً بدون ضغط عنفي أو شعبي على الأمراء. التجربة تلك برهنت على حقيقة أن العائلة المالكة في السعودية أكثر من أي عائلة ملكية أخرى، أشدّ تمسّكاً بما تعتبره حقها المطلق في الحكم وبدون أن يكون هناك أدنى مساهمة من الشعب فيه. أيضاً برهنت أحداث تلك الفترة أن الصراع بين أمراء العائلة المالكة وفي ظل تهديدات خارجية إقليمية لم يكن كافياً لإجبار الأمراء على قبول التغيير، لأنه جاء في سياق التهديد بإسقاط النظام وضمن امتداد إقليمي أُمكن مقاومته بتحالف أقوى بين العائلة المالكة والولايات المتحدة الأميركية التي تعهدت بحماية النظام السياسي السعودي.

ما أثمرت عنه مرحلة الصراع تلك المزيد من تطور أداء جهاز الدولة وتضخم في الجهاز الأمني والعسكري، وإشراكاً ملحوظاً لعدد أكبر من العامّة في الجهاز الإداري في أرفع مستوياته كوزراء ووكلاء وزارات، حيث تم توسيع مجلس الوزراء وإضافة وزارات جديدة.

بعد تولي فيصل الملك، أجبر سعود على قضاء ما تبقى من عمره في المنفى (أربع سنوات) قضى أكثرها في اليونان وحاول أثناءها استعادة حكمه بالتعاون مع جمال عبد الناصر قبل أن تنكب الأخير نكسة حزيران 1967، حسبما أفصح عن ذلك رئيس الإستخبارات المصرية آنئذ صلاح نصر في مذكراته التي نشرت عام 1986.

امتدّ حكم الملك فيصل بين عامي 1964 و 1975 عاشت خلالها المملكة حقبة مضنية من القمع المنظّم والحادّ لكل القوى المعارضة في الداخل. كان النظام مستقراً، ولم يكن متوقعاً والحال هذه أن يقدم على أية إصلاحات سياسية. على العكس من ذلك، فقد جرى تجريد الصحافة المحلية من هامش الحرية الذي كانت تتمتع به في عهد الملك سعود، وتمت تصفية المعارضة بدموية قلّ نظيرها تحت غطاء محاربة الشيوعية الداخلية. تلك المعارضة حاولت عابثة تصفية النظام نفسه عبر محاولات انقلابية كان أهمها انقلاب القوات الجوية عام 1969م الفاشل.

النهاية التي آل إليها الملك فيصل، إغتيالاً بالرصاص في مكتبه وعلى يد أحد أبناء أخيه في مارس 1975م، اعتبر مؤشراً لبداية مرحلة انفتاح. غير أن الحقيقة هي أن المعارضة الداخلية المنظمّة لم تكن قادرة على استثمار الوضع، في حين كانت فلولها في الخارج (العراق وسوريا) تنتظر بفارغ الصبر صدور قرار عفو يعيدها الى وطنها بعد طول تشرّد. الأمير فهد (الملك الحالي) وقد أصبح الرجل القوي الأول في الدولة، تولّى تسويق وعود الشورى والإصلاح السياسي والدستور التي كان (الفيصل الراحل!) يزمع اتخاذها. ثم توالت التصريحات ولكن شيئاً لم يحدث. في الحقيقة، المملكة كانت قد بدأت حينها سنيّ ما سمي بالطفرة الإقتصادية بسبب ارتفاع مداخيل النفط، فكانت النخبة مشغولة عن الإصلاح السياسي بالتعويض الإقتصادي أو المالي، وقد أدّت الوفرة الإقتصادية الطاغية ـ كما كان مخططاً لها ـ الى تأجيل الإصلاحات السياسية وترحيلها الى المستقبل، لأن ضغطاً حقيقياً من الشارع باتجاهها كان شبه معدوم بحيث لم يكن كافياً لإجبار العائلة المالكة على التقدم باتجاهها ولو كان بخطوة صغيرة. أكثر من هذا فإن الضغط السعودي آنئذ كان واحداً من الأسباب التي أدت الى انهاء التجربة الديمقراطية الوليدة في البحرين عام 1976م، وكان لدى الأمراء السعوديين متسعٌ من الوقت لبذل المزيد من الضغط على الكويت لتحقيق ذات الغرض.

في نوفمبر 1979م حدث اقتحام المسجد الحرام عسكرياً من قبل جهيمان وجماعة الإخوان، وقامت في نفس الوقت انتفاضة جماهيرية حادّة ساخطة في المنطقة الشرقية، وكان النظام في وضع شديد السوء، وكعادته في كلّ مرّة قدّم بعض الوعود بالإصلاح السياسي التي درج على دغدغة العواطف بهما كلّما تعرّض لهزّة من نوع ما، وقد تكررت الوعود في الأشهر الأولى من عام 1980 وعلى لسان أعلى المسؤولين. ثم وفي صيف عام 1982م، بعيد وفاة الملك خالد، عادت الوعود من جديد وجرى تجاوزها كسابقاتها، وهكذا ايضاً تكررت الوعود خلال عقد الثمانينات في مناسبات مختلفة الى أن وقع غزو العراق للكويت، فكان للأزمة الداخلية السعودية طعمٌ آخر.

اضطرت العائلة المالكة بفعل الأزمة السياسية الداخلية والتي دخل اللاعب السلفي فيها معارضاً لأول مرّة، إضافة الى الأزمة الإقتصادية التي بدت آثارها تعمّ كل شرائح المجتمع، ونمو أنوية الديمقراطية في أكثر الدول العربية المجاورة.. اضطرت الى إطلاق الوعود ولم تستطع التنصّل منها، فأعلنت في مارس 1992 أنظمة الحكم الثلاثة (نظام مجلس الشورى، ونظام المناطق، والنظام الأساسي). وتشكل على أثر ذلك مجلس الشورى بالتعيين، وكذلك مجالس مناطق. بعد عشر سنوات من هذه الخطوات صار واضحاً لدى الجميع بأن شيئاً لم يتغيّر في المملكة من الناحية السياسية والإدارية. الإستبداد السياسي متواصل والشعب مغيّب عن صناعة القرار، والأزمة الإقتصادية تسير من سيء الى أسوأ.

لقد نجحت العائلة المالكة فعلاً في الإلتفاف على مطالب التغيير، وهذا ما يجعلها جديرة بالإدّعاء أنها مرّت بأزمات سابقة استطاعت التغلّب عليها. فقط يلزم الأمر شيءٌ من الصبر بالنسبة للقيادة كما قال الأمير نايف لجريدة السياسة.

ولذا فإنّ ما يعتقد أنه حتميّ الوقوع اليوم قد لا يقع فعلاً، حسب بعض التحليلات والحسابات التي يطبخها مطبخ العائلة المالكة. فما الذي يجعل من التغيير السياسي في الظروف الراهنة أمراً حتمياً؟

ترى النخبة المثقفة في المملكة أن الضغوط الداخلية الشعبية اليوم باتجاه الإصلاح (معززة بوعي الشبكة العنكبوتية والقنوات الفضائية وأجهزة الإتصال الحديثة) هي أقوى مما كانت عليه في أي فترة سابقة من عمر الدولة السعودية القصير. ويتوقع أن يكون تصاعد الأزمة الإقتصادية التي لا يبدو أنها ستحل خلال عقد من الزمان، الوقود المستمر المحفّز للضغط، ليس بأشكاله السلمية، بل قد يبدأ بالعنف ولا ينتهي بالضرورة بالإصلاح بل بإنهاء الدولة نفسها.

ويرى هؤلاء أن العائلة المالكة كانت تتحصّن ضد الإصلاح بالترس الأميركي، في حين أنها اليوم واقعة تحت الضغوط الأميركية بعد أن استنفذت معظم أغراضها منها، وستكون مساهمتها في إنهاء الحكم في العراق الغرض النهائي المطلوب منها تأديته قبل أن يتحول كامل الضغط باتجاهها. فالإصلاح السياسي الداخلي لم يعد هدفاً شعبياً بل أميركياً أيضاً.

يضيف هؤلاء أيضاً أن نظام الحكم في المملكة والرؤية التي يحملها (دينية وسياسية) أصبحا العنصر الشاذّ في مجمل المنطقة الخليجية وربما العربية أيضاً.. العنصر المتميّز بالتخلّف والتعالي والكثير من الرعونة، ومثل هذا النموذج لا يمكنه المقاومة بل مصيره الكسر إن عاجلاً أم آجلاً.

مسألة أخرى يضيفها المثقفون السعوديون الى تحليلهم وهي حقيقة أن المملكة مهددة إما بإصلاح نظامها السياسي أو أن تتمزّق الى دول متعددة. والجميع يعلم أن دوافع الإنفصال موجودة وربما تكون حادّة في بعض المناطق، وإذا ما تبيّن سواء لدى الغربيين أو للقوى المحلية ذات النغمة الوطنية أن الإصلاح غير قابل للتنفيذ في المستقبل القريب والقريب جداً، فإنها ستعمد الى خيار التقسيم وقد يكون بأسرع مما تتوقعه العائلة المالكة، مدعوماً في ذلك بدفع خارجي يجد صداه عند نفوس توّاقة إليه ولكنها تبحث عن المزيد من المبررات حتى تشرع بالدعوة والعمل العلني لتحقيقه.

هذا المأزق الحادّ الكامن في خيارات صعبة، يعطي تصوراً بأن العائلة المالكة ـ وكأي حكومة تملك شيئاً من الوعي بالمخاطر وتدرك محدودية الخيارات ـ لا بد وأن تستجيب للمطالب الشعبية التي هي واضحة كل الوضوح ويجري التعبير عنها بصور شتى في الصحافة المحلية باستخدام مفردات غير ملتوية: الإصلاح السياسي، مجلس الشورى المنتخب، تعزيز الهوية الوطنية، ترسيخ مبدأ المساواة والمواطنة وإلغاء التمييز، احترام حق المرأة، مكافحة الفساد، وضع نظم وقوانين جديدة، الحدّ من دور الوهابية في مؤسسات الدولة، إصلاح القضاء..الخ.

بيد أن العائلة المالكة، ورغم مرور أكثر من عام على زلزال سبتمبر، قدّمت من إشارات القمع أكثر منها إشارات الإنفتاح، وقدمت التضحية بالدولة على قيامها بالإصلاح. وإذا كان التغيير صار ناضجاً وحتمياً، فإن السؤال هو: تغيير ماذا؟ وما هو الثمن؟ هل هو تغيير النظام السياسي عبر الإصلاح المتدرّج، الذي لايزال مرفوضاً، أم هو الإعصار الذي يزيل الدولة السعودية من الوجود؟

البوادر غير مشجّعة حتى الآن.. فلم يظهر تصريح واحد من كبار الأمراء يعد بإجراء إنتخابات لمجلس الشورى أو المناطق، أو إصلاح الدستور وتفعيله، أو يلمّح مجرد تلميح الى إشراك المرأة في الشأن العام، أو ينتقد وضع القضاء، أو يعترف بعمق الأزمة الإقتصادية، أو يقدم على خطوة واحدة باتجاه مكافحة الفساد ومعاقبة المفسدين ولو من باب ذرّ الرماد في العيون. الذي نراه في السلوك السياسي السعودي يشير الى الأسوأ والى مستقبل قاتم.

فبدلاً من تقليص دور القمع وبالضرورة دور وزارة الداخلية ووزيرها، نرى عكس ذلك تماماً فجوازات سفر دعاة الإصلاح والمثقفين تُسحب منعاً لهم من السفر، والأوامر الصادرة من وزير الداخلية وجهاز المباحث التابع لها تعمّم على الجميع محذرة من الحديث الى القنوات الفضائية (وليس قناة الجزيرة فحسب) وسواء كان في موضوع يخص السعودية أو غيرها. وطوابير من أساتذة الجامعات مُنعوا من التدريس لنشر دراسة او اعتراض على مسلك غير وطني كان آخرهم: أستاذ العلوم السياسية المقارنة في جامعة الملك سعود الدكتور متروك الفالح، والدكتور محمد الحسن الذي مُنع قبل ذلك من الكتابة في الصحافة المحلية. هذا غير المعتقلين الذين تستضيفهم السجون، والتحقيق في وزارة الداخلية وجهاز المباحث والتي طالت أكثر الكتاب والواجهات الوطنية.

لقد أصبح وزير الداخلية الرجل الأقوى في النظام، فهو يتدخل في كل أمرٍ تقريباً، بما في ذلك القضاء والإعلام والحج والأوقاف والدعوة والتعليم والعمالة، إضافة الى السياسة الخارجية حيث افتعل وزير الداخلية أزمات مع أطراف خارجية لتغطية سوءات وزارته وفشلها الداخلي (مثل هجومه العنيف على الإخوان المسلمين، ودفعه لبعض كتاب وزارته بالمزيد من الهجوم على قطر، وضد المعارضة العراقية بمختلف فصائلها، بل وتشديد النكير أحياناً وبلحن طائفي ضد الشيعة داخل المملكة) وهذا لا يشير الى تقدّم نحو الإصلاح، بل الى تصلّب وعنف. والمؤسسة الدينية بما فيها الجناح السلفي المتشدد، مُنحت صلاحيات خلال العام الماضي في الإعلام وغيره وتضخمت بما يفيد أن التوجّه الغالب في الدولة حتى الآن يميل لصالح التشدد ليس إلاّ.

يأتي هذا كله في غياب أي تصور لوضع البلاد الإقتصادي والسياسي، وعدم وضوح في العلاقة مع أميركا، وفي ظل صراع مزمن بين أجنحة الحكم، وبدل أن تلتحم هذه الأجنحة لمواجهة الأزمة، بحيث يمكن القول أن في المملكة حكومات متعددة وليست حكومة واحدة، والقرار لم يعد مركزياً، ولم يعد باستطاعة ولي العهد ـ حتى وإن أراد ـ أن يغيّر من مسار السفينة المتجهة الى أعماق المحيط بربابنة متنازعين.

آمال الإصلاح لاتزال قائمة، بل هي مؤكدة الوقوع، شاء الأمراء السعوديون أم أبوا. والعنف لن يؤخر الإصلاح أو يعيقه بقدر ما يكون محفّزاً له، ومغيّراً لاتجاهاته السلمية الى العنف المضاد. كما أن تأخير الإصلاحات لن يفيد في تناسيها، بل هو يكرر تجربة الإتحاد السوفياتي، فحين ضاعت فرصة خرتشوف، جاءت إصلاحات غورباتشوف المتأخرة لتنهار الدولة أمام تحدياتها.

إطبع الصفحة الصفحة السابقة