قراءة في خلفيات الوثيقة الوطنية للاصلاح

الإصلاح مدخل وحيد للإستقرار

مذكرة الاصلاح، المرفوعة الى ولي العهد مازالت تجتذب تأييداً متصلاً من قطاعات واسعة، وهي تمثل ميلاداً جديداً لوعي سياسي عام، وحركة شعبية في النضال السلمي يرجى منها تحقيق أهدافها النبيلة والمشروعة.

المطالب الواردة في المذكرة تستبطن تقييماً شاملاً وعميقاً لتكوين الدولة وجهازها الاداري، وترسم ملامح دولة يراد منها إعادة تركيبها على أسس جديدة يتحقق فيها القدر المتيقن والمطلوب من الاستقرار والمساواة والعدل، ولذلك كانت المذكرة ''الوثيقة الوطنية للإصلاح'' ''رؤية لحاضر الوطن ومستقبله'' حسب عنوانها.

لم تكتب المذكرة لتلبية طموحات وتطلعات فئة مهنية أو شريحة اجتماعية أو قوة سياسية محددة، وإنما ترجمت آمال ومطالب طيف واسع ومتنوع من سكان المملكة. وهم، أي الموقعون، في الوقت الذي يمثلون هذا التنوع الكبير والواسع لقوى اجتماعية وسياسية ودينية واتجاهات فكرية ومذهبية يحتضنها تراب الجزيرة العربية وداخل الحدود الجغرافية للمملكة، فهم يؤكدون وبشدة على وحدة التراب الوطني ويتمسكون بالوحدة السياسية تبعاً لوحدة التراب. ويرى الموقّعون على المذكرة أن الوحدة الوطنية تسترعي الملامسة المباشرة لمشكلات ومخاطر مباشرة تواجه الوطن والوحدة الوطنية وتملي المخاوف من نتائجها ضرورة ملحّة لجهة مباشرة اصلاحات جديدة واعادة تشكيل العلاقة بين السلطة والمجتمع على أسس صحيحة.

تنطلق المذكرة من المبدأ الذي قال الامير عبد الله أنه يلتزم به ويلزم من هم دونه به، وهو مبدأ الشفافية على كافة المستويات والقضايا ذات الشأن العام، وخصوصاً فيما يتعلق منها بمشكلات الوطن والمواطن. وانطلاقاً من مبدأ الشفافية يأمل الموقعون أن يعين المبدأ على بلورة رؤية في تدشين مرحلة حوار وطني شامل تستهدف تقديم مراجعة ومعالجة لمشكلات الوطن والمواطن.

لعل أول ما تثيره المذكرة وتؤسس عليه مطالبها هو رؤية موقعيها لتكوين الدولة وأسس مشروعيتها، فالمكوّنان التقليديان للمشروعية في المملكة واللّذان طالما تحدث عنهما المؤسسون وأسلافهم: الأول، وهو الدين مجسّداً في مذهب الشيخ محمد بن عبد الوهاب وفي خطه الفكري والمدرسي، والأساس الثاني هو الحق التاريخي للعائلة المالكة في الحكم. في مقابل او في موازاة هذين المكونين، تقدّم المذكرة تفسيراً قد يرتقي في متابعة استطراداته الى مستوى البديل لأسس مشروعية جديدة، ممثلة في تطبيق الشريعة الاسلامية (دون التقيّد الصارم بطريقة محددة أي عدم التقيد بمذهب محدد) اما الاساس الثاني وهو رضا الناس وقبولهم. والاخير يمثل تأسيساً جديداً وفي واقعه مناقضاً لعقيدة السلطة التي كان يرى مؤسسها وأبناؤه أن ما حققه هو إنما بقوة السيف ولذلك لا يجوز ان يمنح الناس فضلاً أو قراراً فيما لم يشتركوا في إنجازه. كما أن هذا الاساس مخالف لعقيدة المؤسسة الدينية بتركيبتها البطريركية الأبوية والتي يرى رموزها الكبار بأن الناس مازالوا قاصرين إيمانياً وذهنياً عن بلوغ مرحلة يقرروا فيها ما يصح وما لا يصلح.

الموقعون على الوثيقة أعادوا في الاساس الثاني حقاً كان الناس محرومين منه منذ نشأة الدولة، وهو حقهم في اختيار شكل السلطة وانتخاب الحاكم، مستعيدين فحوى العقد الاجتماعي كما تقرر في نموذج الدولة الحديثة الذي أخذت به المملكة ولكن بصورة انتقائية ومشوّهة.

وفي تواصل مع تحقيق توازن القوة، ونقل بعض ما احتكرته السلطة الى المواطنين، ترى الوثيقة الوطنية للإصلاح بأن عملية احتكار السلطة او الجزء الأكبر منها بيد فئة قليلة من الناس، ممثلة في العائلة المالكة وبعض أفراد القبائل الحليفة لها إضافة الى طبقة رجال الدين من أتباع المذهب الرسمي، بأنها ـ أي عملية الاحتكار ـ أفضت الى اختلال ميزان العدل، وانتقاص الحقوق، وأن تصحيح الاختلال وارجاع الحقوق الى أصحابها لا يتم الا بعملية تكسير السلطة الى اجزاء وتوزيعها بين قوى وسلطات متنوعة وغير متخاضعة، أي لا تخضع أي منها لسلطان الاخرى وبالعكس.

وتكسير السلطة لا يبدأ في نظر الموقعين من أسفل، أي في المؤسسات غير ذات الصلة بعملية صناعة القرار السياسي، كما يحاول بعض اقطاب النظام إغراء دعاة الإصلاح به وإيهامهم بأن حقبة الاصلاح قد بدأت وأن حجر الأساس لدولة القانون قد وضع.. بل يلزم توجيه الجهود من أجل تحقيقه من أعلى، أي من حيث تكون السلطة التنفيذية غير قادرة على الانفراد بقرار يمس مصير الوطن والمواطنين.

الموقعون رأوا بأن مشروعية السلطة وتحقق العدل يبدآن من وضع أساس متين وعميق لمبدأ الشورى في صورتها ''الملزمة''. ولكن لا تفترض الوثيقة الوطنية للإصلاح ان مجرد القبول النظري بمبدأ الشورى يكفي لتحقيق المشروعية والعدل، بل ثمة حاجة لتأسيسات ضرورية تكون صمام أمان لضمان تطبيق الشورى واستقرارها وتجذرها ودوامها، وذلك بالبدء بتدشين دولة المؤسسات القائمة على أساس دستوري. وهذا التدشين يتطلب ضرورة قيام مؤسسات، والفصل بين السلطات الثلاث الضامنة للحقوق الاساسية للمواطنين في العدالة والمساواة وتكافؤ الفرص، بحيث يضمن بصورة أكبر تحقيق الشورى النيابية لجهة تجسيد المشاركة الشعبية ومبدأ التعاقد الاجتماعي، واعتماد قاعدة التراضي والاختيار الحر والتعاون كأساس في العلاقة بين السلطة والمواطن.

مبدأ الانتخاب: علامة فارقة في الاجندة الاصلاحية

خلت عرائض السنوات المصاحبة لأزمة احتلال الكويت (اغسطس 1990) وما بعدها من ذكر لمطلب الانتخاب من كافة القوى الايديولوجية والسياسية. ولكن هذه الوثيقة كباكورة ربما لعرائض لاحقة تمثل افتتاحاً مشجّعاً، فقد شدد الموقّعون على هذا المبدأ في مواقع عديدة.

وحين يثار موضوع الانتخاب، يفتح ملف مجلس الشورى كتجربة شهدت دورات ثلاث من عمرها ولم يكتب لها الدخول ضمن سجل التجارب السياسية الشعبية او تضاف الى الميراث السياسي الأهلي. ولذلك ظل مجلس الشورى أحد الملفات الساخنة بين السلطة والمجتمع، بل مثّل المجلس أحد تمظهرات الأزمة بين المجتمع والسلطة على امتداد عقد من الزمن، كما أن تسويتها تعتبر مؤشراً ايجابياً على خط الاصلاح الصحيح.

على خلاف ما تقرر في نظام مجلس الشورى وما جرى تطبيقه في الدورات الثلاث في مسألة وصول الأعضاء الى المجلس، طالب الموقعون بتشكيل مجلس شورى منتخب، تكون مواصفاته المباشرة اختيار المواطنين لمرشحيهم عن طريق الاقتراع الحر المباشر عبر صناديق الاقتراع، وأن يكون المجلس ممثلاً لجميع المواطنين، وهذه اشارة الى أن المجلس الحالي رغم مبدأ التعيين المعتمد في اختيار اعضائه، الا أنه يفتقر التمثيل العادل لكافة المواطنين. ولأنه كذلك، لا يصدق عليه صفة أهل الحل والعقد والرأي، أي التحوّل الى سلطة تشريعية مكتملة الصلاحية، بعد الكتاب والسنة.

وكيما تتحقق في هذا المجلس شروط ومواصفات إجماع الامة، لا بد من حيازته على صفة التمثيلية العادلة، والصلاحية الكاملة، أي بكونه سلطة تشريعية حقيقية ''لكي يتمكن المجلس من مزاولة المهام التشريعية والرقابية المنوطة بمثله تجاه السلطة الاخرى''.

وما يصدق على مجلس الشورى، ينسحب وبنفس القدر على مجالس المناطق من كون إختيار أعضائها يتم عن طريق الانتخاب الحر المباشر، وأن يتحقق فيها مفهوم اللامركزية في ادارة الشؤون المحلية وممارسة دور الرقيب على الاجهزة التنفيذية في كل منطقة.

القضاء: أزمة الاستقلال والتمثيل

لم تقدّم المذكرة إيضاحاً وافياً لشرح أزمة استقلال القضاء في المملكة، والمخاطر الحقيقية المصوّبة لصلاحياته والمهام المنوطة به، الا أنها بلا ريب لامست جوانب رئيسية في القضاء كمؤسسة يراد منها أن تكون سلطة مستقلة مضاهية في تأثيرها للسلطتين التنفيذية والتشريعية، بل تمثّل الضامن الأقوى لتطبيق صحيح للقوانين.

الوثيقة الوطنية للإصلاح أكدت على مبدأ استقلال السلطة القضائية، واعتبرت توسيع صلاحياتها وإشرافها ''على جميع أنواع القضاء الاستثنائي كاللجان شبه القضائية في بعض الوزارات وإشرافها على التحقيق مع المتهمين وأوضاع المساجين ووضع هيئة الإدعاء العام أيضاً تحت سلطة المجلس الاعلى للقضاء أو رقابته، وازالة النصوص والتدخلات التي تحد من استقلال القضاء أو فعاليته أو تحد من حصانة القضاة، ووضع آلية لمتابعة تنفيذ أحكامه، لدى السلطة التنفيذية، بما يكفل هيبته واحترام احكامه، والاسراع بتدوين الاحكام وتوحيدها، وتقنين التعزيزات، لأن ذلك يضمن العدل والمساواة والانضباط في تطبيق الاحكام، وتوسيع صلاحيات محكمة التمييز، وتوسيع وتعميق برامج إعداد القضاة قبل توليتهم، بما يجعلهم أكثر قدرة على حلول عملية للمشكلات المتداخلة المستجدة''.. اعتبرت الوثيقة الوطنية كل ذلك من أسس الإصلاح القضائي الذي سينعكس على جوانب أخرى في الحياة السياسية والإجتماعية في المملكة. وعلى أية حال، فإن ثمة حاجة ستبدو لاحقاً لمزيد من الايضاحات حول هذه النقطة سيما مع المخاوف المتكررة من سقوط السلطة القضائية لعمليات إبتزاز من السلطة التنفيذية، وحيث أن السلطة القضائية مازالت خاضعة تحت تأثير اتجاه تفسيري موحد وغير قابلة لاستيعاب اتجاهات تفسيرية اخرى.

الحقوق والحريات العامة

يوازي الاهتمام الشديد بموضوع الانتخاب التأكيد على مجمل الحقوق والحريات العامة في شكليها الفردي والجماعي. ولعل ما أشار اليه الكاتب والمفكر السعودي الدكتور تركي الحمد حول تقديم الحقوق والحريات العامة على الانتخاب يحمل دلالة هامة، فالانتخابات ما هي الا تمظهر وتجسيد لما تم سلفاً انجازه في مجال الحقوق والحريات. وفي واقع الأمر، إن أهم محنة عانى منها المواطنون في أرجاء هذا البلد كانت الحرية في صورها المتنوعة والمشروعة، ونقصد تحديداً حرية الرأي والتعبير والتجمع، كحق أصيل من حقوق الانسان. يعبّر دعاة الاصلاح وأصحاب القلم والرأي عن سخطهم بلغات اعتذارية أحياناً، وفي أحيان أخرى يكتبون بلغة السخط والحزن على وضع بات من غير الممكن احتماله، لأن الكلمة الحرة باتت مخنوقة حتى قبل ولادتها أو حين تولد خارج الحدود، كما في قصة الاستاذ زهير كتبي الذي يحاكم على ما كتبه ونشره في مصر.

عشرات بل مئات الأشخاص صودرت حقوقهم الاساسية في الكتابة والتأليف لأنهم يحملون ''رأياً مختلفاً'' ويكتبلون بلغة غير متصالحة مع الحاكم، وآلاف أخرى من المواطنين فقدوا وظائفهم وسجنوا أو حرموا من عيش هادىء بسبب جبروت الأجهزة الامنية. وهناك العشرات من الموقعين على الوثيقة الوطنية ممن اعتقلوا أو حرموا من وظائفهم أو صودرت كتبهم ومنعوا من التحدث والكتابة. وقد أشارت العريضة الى ضرورة إعادة المفصولين الى أعمالهم وإعادة الإعتبار المادي والمعنوي إليهم.

كتب د. محمد الحضيف في منتدى (الوسطية) مؤخراً قصته مع هذه الاجهزة فقال:

''لم يعان أحد من (عنف) الأجهزة الأمنية .. مثلما عانينا: أنا.. والدي.. إخواني.

مارست تلك (الأجهزة) ضدنا صنوف الأذى والإذلال النفسي والجسدي. و عانت أسرنا، و أطفالنا.. تشتتا، و ندوباً نفسية عميقة..لم تبرح آثارها بعد!

تجربتنا مع الأجهزة الأمنية، كانت إستخداما مفرطا للعنف الجسدي والنفسي، ومعاملة قاسينا منها طويلاً، و مازلنا (نصارع) تداعياتها!''

ويضيف لاحقاً: ''أدت ممارسات الأجهزة الأمنية ، التي لا تخلو من انتهاكات لحقوق الإنسان، إلى تشكل (صورة ذهنية) مخيفة عنها''.

هذا التأوه الذي يترجمه أحد ضحايا الجهاز الامني يلتقي مع تأوهات عدد كبير من ضحايا الأجهزة الأمنية التي مارست ومازالت انتهاكاً سافراً في مجال حقوق الانسان وفي القلب منها حق التعبير والرأي.

مؤسسات المجتمع المدني

تخبرنا التجارب والأبحاث الأكاديمية بأن الديمقراطية لا تنمو ولا تترعرع إلاّ في وجود وتنامي مؤسسات المجتمع المدني كوسيط ضروري تستكمل فيه الديمقراطية شروط نشوئها ومقومات استقرارها وحمايتها من غدر السلطة والانقلاب عليها لاحقاً، إذ لا يمكن ضمان ديمقراطية او حريات او انتخابات بدون وجود مؤسسات مجتمع مدني تنعكس فيه وفيها الممارسة الديمقراطية والحرية والانتخابات على المستوى الشعبي أو لنقل غير الرسمي قبل بلوغها المرحلة السياسية أي لحظة ترجمتها الى فعل في حلبة المنافسة على المناصب السياسية، كما تستهدف هذه المؤسسات تدريب العاملين فيها على عملية صناعة القرار في المستويات الدنيا قبل الوصول الى مرحلة صناعة القرار السياسي.

مؤسسات المجتمع المدني هي التعبيرات العلنية لتوجهات المجتمع وثقافته في تنوعها وثرائها وهكذا لمناشطه في اشكالها المختلفة المهنية والاجتماعية والرياضية والاقتصادية، مثل النقابات المهنية الصحافية والطبية والعمالية والجمعيات الثقافية والنوادي الادبية والرياضية والجمعيات الخيرية والنسائية.

من هنا شدّدت الوثيقة الوطنية للإصلاح على ضرورة إفساح المجال لمثل هذه المنظمات بأن تقوم وتتمّ حمايتها بالقانون.

المشكل الاقتصادي

الاوضاع الاقتصادية السيئة التي يعاني منها المواطنون لم تعد موضوعاً قابلاً للترحيل والتأجيل، فالأرقام الرسمية بوحدها كفيلة كيما تعكس الصورة القاتمة لأحوال المواطنين الاقتصادية. فالدين العام المرتفع بمعدلات مضطردة والبطالة المتزايدة وتعثر المشاريع التنموية وتوقف الخطط الخمسية الانمائية، في مقابل انتشار الفساد المالي والافراط في اهدار المال العام من قبل أفراد العائلة المالكة، وتفشي الرشوة، واستغلال السلطة للتعدي على ممتلكات الغير مالاً وعقاراً.. كلها تتطلب استراتيجية إصلاحية شاملة وصارمة.

الموقعون الإصلاحيون وضعوا المشكل الاقتصادي محورهم الثاني في المذكرة ويتقوّم هذا المحور على رؤية في العلاج تستند على مبدأ العدالة في الخطط الاقتصادية وتوزيع الثروة بين المناطق، ووضع آليات ضبط الانفاق وترشيد استهلاك المال العام، ووضع قائمة أولويات تحدد المخصصات المالية حسب الحاجة، وصولاً الى مكافحة الفساد المالي.

وبطبيعة الحال، فإن هذا المقترح لا يكفي بمفرده للوصول الى حل نهائي، بل يتطلب حضوراً فاعلاً للأجهزة الرقابية. وهذا أيضاً يستلزم كما جاء في المذكرة الوطنية ''تقوية وتفعيل أنظمة ومؤسسات الرقابة والمحاسبة كديوان المراقبة العامة، وربطها بمجلس الشورى''. وفي الأخير اشارة واضحة الى أن الرقابة يجب ان تستقوي من خلال مؤسسات منفصلة عن إطار تأثير السلطة التنفيذية المسؤولة دائماً عن اختلال الاوضاع الاقتصادية والفساد المالي والرشاوى.

أثارت المذكرة موضوع الدين العام، وهذا يعتبر ذا دلالة قوية على المشاعر الوطنية لدى الموقعين كما يعكس روح المسئولية الجماعية التي يحملونها. الدين العام منذ إعلان وزير الاقتصاد الوطني عن حجمه قبل نحو عامين أثار فزعاً عاماً وقلقاً على مستقبل الاوضاع الاقتصادية والمعيشية لمن هم الآن على قيد الحياة ومن هم في الأرحام ولأجيال لاحقة، فالرقم كما أعلن يومذاك كان 670 مليار ريال سعودي أي ما يعادل 180 مليار دولار وهذا يعني ان السعودية تحولت الى أكبر مدين في الشرق الاوسط. غير ان ما يخفف الأثر قليلاً أن هذا الدين داخلي، ولكن ما يُغفل عنه في هذا السياق أن هذا الدين بحجمه الضخم تعبير صادق عن فشل الأداء الاقتصادي للدولة. ولعل واحدة من تعبيرات الفشل هو الركون الى مصدر وحيد للدخل، حيث مازال القسم الأعظم من الموارد المالية لهذا البلد يعتمد على النفط، وهو مصدر طبيعي مآله النضوب.

المذكرة تقترح تنويع مصادر الدخل، وتشجيع الاستثمار الوطني والاجنبي، أي بمعنى آخر تحرير النشاط الاقتصادي من قبضة الدولة، وهذا بدوره يتطلب سن تشريعات وقوانين تكفل حقوق المستثمرين وتحول دون شعورهم بتهديد الدولة لهم في أي لحظة بفعل قدرتها أو قوانينها الموضوعة في الأساس لخدمتها.

العلاقة بين السلطة والمجتمع

المذكرة تشير من زوايا عدة الى ضرورة إعادة تأسيس العلاقة بين المواطن والسلطة من منظور الحقوق والواجبات، ووفق المدوّنات الدستورية العالمية والتي لا تتعارض مضامينها مع أصول مقررة وعامة في الشريعة الاسلامية. يرى الموقعون بأن تماسك الجبهة الداخلية تكفله إشاعة ثقافة حقوق الانسان ممثلة في ''التسامح والانصاف والعدل واحترام حق الاختلاف، ودعم الوحدة الوطنية، وإزالة عوامل التفرقة والتمييز، مذهبية كانت أو طائفية أو مناطقية أو اجتماعية''. وفي النص الاخير ما يستحق وقفة تأمل طويلة من قبل المسؤولين ودعاة الاصلاح لأن فيه تكثيفاً لأزمة الوطن في هذا البلد، هذا الوطن الذي لم يولد بعد لأنه لم يلد مواطنين حتى الآن، بما تحمل المواطنة من معنى حقوقي.

الأمر الآخر الذي أشارت اليه المذكرة يتعلق بموضوع الخدمات العامة الاساسية التي غالباً ما تكون المهمة الاساسية للدولة، والخدمات الاساسية ترتبط أصلاً بالحياة اليومية للمواطن مثل السكن والعمل والتعليم والصحة وما شابه. ويقال إن فشل الدولة في الاضطلاع بتلبية هذه الخدمات تحديداً يعني الاصطدام بسيادتها، لأن السيادة لا تعني السيطرة فحسب، بل تعني شيئاً آخر يقوم على اقناع من تسود بقدرتها على تلبية احتياجاتهم.

وبلا شك أن تزايد أعداد العاطلين عن العمل يعني أن ثمة فئة من السكان لم تعد الدولة قادرة على اقناعها بسيادتها عليها. ولذلك تقترح المذكرة حل مشكلة البطالة المتنامية، وهكذا حلحلة ما يتعلق بأمور العمل والعمال من أجور وإعاشة للعاطلين والمتقاعدين والعاجزين.

دور المرأة السعودية

الموقف السلبي الرافض للمشاركة الاجتماعية والسياسية للمرأة حتى الآن محصور في التيار الديني السلفي، وهذا الموقف يلتقي مع اتجاه في السلطة لا يفرّق بين المرأة والرجل كونه يرى السلطة امتيازاً خاصاً بالعائلة المالكة. ولكن هذا الموقف بات الآن في طريقه للانكسار، فالوعي الذكوري بحقوق المرأة يتزايد الآن في عملية إعادة تصحيح للحسابات الخاطئة القديمة، وعي مؤسس على حقيقة كون المرأة نصف المجتمع ليس على أساس نوعي فحسب بل وعددي أيضاً، وهو وعي مؤسس كذلك على نصوص شرعية واضحة تؤكد على دور المرأة وحقها في المشاركة الاجتماعية والسياسية وتفعيل دورها في الشأن العام.

مبادرات اصلاحية: امتحان صدق الحكومة

تنادي الوثيقة الوطنية للإصلاح والتي قدمت لولي العهد أواخر شهر يناير الماضي الى أن تقوم الحكومة بمبادرات إصلاحية من أجل إعطاء رسالة موافقة ضمنية على نواياها الاصلاحية، وكمؤشر إيجابي على جديّة الموقف الرسمي من العملية الاصلاحية مثل: إعلان عفو عام عن المعتقلين بتهم سياسية أو محاكمتهم محاكمة علنية عادلة؛ وإعادة الحقوق المادية والعنوية المنتهكة لدعاة الاصلاح المضطلعين بالشأن العام مثل أساتذة الجامعات ورجال القضاء وإعادتهم الى أعمالهم التي طردوا منها، وكثير منهم حرم لسنوات من الوظيفة أو جرى تهميشه وظيفياً أو صدرت في حقه قرارات بالفصل النهائي من الخدمة، وكثير منهم عانى من مضايقات وقيود في حركته ونشاطه بما أثّر على إستقراره العائلي.

وفي نفس السياق طالب الموقعون بتوفير الحريات المشروعة لأولئك العلماء والمثقفين لمناقشة الشأن العام المرتبط منه بتقصير الدولة ودون حيف الاجهزة الامنية، وحسب المذكرة ''وايقاف القيود على إبداء الرأي في الشأن العام، كالمنع من السفر، والتهديد بالسجن، او الطرد من العمل، وكتابة تعهدات بالامتناع عن إبداء الرأي، والمنع من النشر''.

مؤتمر وطني للحوار خطوة نحو المصالحة الوطنية

ويأمل الموقعون على الوثيقة الوطنية للإصلاح أن تنطلق العملية الاصلاحية من قاعدة حوارية تتمثل في دعوة الحكومة لحوار وطني عام يستهدف مناقشة المشكلات الاساسية التي تعاني منها الدولة، ويكون اطاراً تمثيلياً لجميع المناطق والفعاليات وجميع الاطياف الثقافية والاجتماعية، بصرف النظر عن اتجاهات الايديولوجية والسياسية، وتشترك فيه نخبة من أهل الرأي المهتمين بالشأن العام من أجل تشخيص المشكلات والتحديات التي تواجه الدولة والمجتمع، وصولاً الى وضع تصوّرات حل مستندة على أساس جديد للعلاقة بين المجتمع والدولة، أي حسب المذكرة ـ الوثيقة ''وضع أساس دستوري لبناء الصيغة التعاقدية لدولة المؤسسات''.

إن التقييم الاجمالي لمحتويات الوثيقة الوطنية للإصلاح والموضوعات التي أثارتها وعالجتها يظهر بأنها تصلح أن تكون أساساً صلباً لبدء مرحلة جديدة يكون فيها الاصلا ح الشامل مدخلها الوحيد. وهذه الوثيقة الوطنية قد تعقبها مذكرات وعرائض اخرى وقد تلقى قبول العائلة المالكة او بعض أفرادها وقد يكون العكس، أو قد تلجأ العائلة الى عادتها المألوفة في المماطلة والتأجيل والمساومة على هذه النقطة وتلك، وقد تخفض مستوى المطالب الى ما دون تطلعات الناس، ولكن في كل الاحوال، فإن عقداً من السنوات كفيل بتعليم الجاهل قبل العالم، فإن ما أعقب اعلان الانظمة الثلاثة في مارس 1992 من خضّات أمنية وثقافية وسياسية دليل على أنه لا يصح الا الصحيح.

إطبع الصفحة الصفحة السابقة