هدف النشاط الدبلوماسي السعودي المحموم

حل الأزمة السعودية مع أميركا لا الأزمة العراقية

هل هو دفاع عن العراق، عن العالم العربي، عن النظام في العراق، عن الإسلام والمسلمين، أم هو دفاع عن النفس.. ذلك الذي تبادر اليه وتسعى من أجله سياسة المملكة الخارجية؟

هل هي حمّى نشاط سياسي سعودي جاء بعد غفوة عشر سنوات أو أكثر؟

هل وكّل أحدٌ عربي الهوى أو عراقي الإنتماء لتصنع السعودية لهم إنقلاباً على صدّام، وتعدّ خطّة تنشرها على الملأ؟

هل استشارت المملكة، وأخذت صكوك الوكالة من أحد، ليطير سعود الفيصل الى واشنطن المرة تلو الأخرى باحثاً كما يقال عن (سلام) ثمنه (تطفيش) صدام حسين وإخراجه من العراق كليّة، مطالباً بمتسع من الوقت ليحقق ما يصبو إليه حتى وإن أعلن مجلس الأمن الحرب على العراق؟

عن من تتحدّث المملكة، وباسم من، ولأجل ماذا، وما هو الثمن؟

لماذا الإجتماع في واشنطن وليس في الرياض بين الرؤساء العرب؟ لماذا لا يجلسون الآن قبل أن تبدأ قمتهم في المنامة في مارس القادم، حيث تشير كل الدلائل الى أن الوقت سيكون حينها متأخراً أمام العرب جميعاً لاستصدار ولو قرار ورقي يضاف الى إضبارات الجامعة العربية المعتقة.

المملكة تتصرّف وكأنها وكيل العالم العربي بقضّه وقضيضه فيما يتعلق بالقضية العراقية؛ الوكيل الذي لم يوكّله أحد، والوكيل الذي يبادر الى سياسات لم يتفق بشأنها بين العرب؛ والوكيل الذي ضعفت مكانته السياسية منذ اكثر من عقد خليجياً وإقليمياً وإسلامياً ودولياً؛ والوكيل الذي ستنطلق منه ومن جواره رُسُل الموت الى العراق.

السعودية لا تبحث عن حلّ للأزمة العراقية بالمعنى الحرفي للكلمة. بل الى حلّ أزمتها مع الولايات المتحدة الأميركية.

لا شك أن المشكلة السعودية متداخلة مع نظيرتها العراقية، ولهذا فالسعوديون يعتبرون أنفسهم ـ صدقاً أم كذباً ـ معنيين أكثر من بقية جيران العراق بما يجري. فبدائلها في العلاقات الدولية تكاد تنضب نظراً لاعتمادها المفرط على علاقات متميزة مع أميركا، جعلتها تشعر بأن تلك العلاقات تغنيها عن كل أحد.

والمملكة في هذه الأزمة ليست طرفاً محايداً. من الناحية النظرية هي معنية بالعراق، ومع العراق، اعتماداً على مبادئ العروبة والأخوة الإسلامية ومواثيق الدفاع المشترك التي ضمنتها الجامعة العربية. ونظرياً هي معنية لأنها دولة مجاورة قد تكون أشد المتأثرين سلباً بنتائج الحرب القادمة (اقتصادياً وسياسياً).

ولكن من الناحية العمليّة هي مع أميركا.. مع استمرار للصداقة القديمة وديمومتها من أجل تفادي الأسوأ القادم من الصديق الأميركي. هي مع الأمم المتحدة التي تعلو مبادؤها على مبادئ الأخوة في العروبة والدم والمصير المشترك، كما تسمو مبادؤها على مبادئ الجامعة العربية ومقرراتها.

هذا هو ملخّص أزمة السعودية.

والحلّ من المنظار السعودي تغيير النظام العراقي سلماً بأقل الخسائر على السعوديين: إخراج صدام وعائلته من العراق، أو بانقلاب أبيض من المؤكد أنها غير قادرة على تحقيقه في المستقبل، ولو كانت قادرة لفعلت.

وليكن هذا المجهود السعودي مساهمة لأميركا في الحرب على العراق.

إن لم يحدث هذا وبدأت الحرب، فالسعوديون قد أعطوا موافقتهم التامة لاستخدام قواعدهم وأجوائهم ضد العراق، هذا ليس تخرّصاً بل حقيقة. وستبرر المملكة ذلك بأنها حاولت الوصول الى حلّ سلمي، ولكن العراق ـ وليس أميركا ـ لم يقبل أطروحتها! وما أعلن عنه سعود الفيصل في زيارته لأميركا في آخر يوم من يناير الماضي، يفيد بأن ما تطلبه السعودية هو أن تعطي أميركا موافقتها للسعوديين حتى مع قيام الحرب أو إعلانها لكي تتصرّف المملكة في استثمار المجهود العسكري الأميركي لإقناع الرئيس العراقي بالإستسلام والخروج.

المملكة لا تريد انهياراً صاعقاً لنظام الحكم في العراق، بل تريده انهياراً متدرّجاً يحقّق أمرين أساسيين:

1 ـ إبقاء جهاز السلطة الحالي فاعلاً بدرجة ما. أي أن لا يكون التغيير راديكالياً شاملاً للجهاز ورموزه، ومعنى ذلك سيطرة جهات على الحكم لا تكن لها المملكة سوى الريبة، وتبادلها تلك الجهات الكراهية.

2 ـ حدوث تراخي في الزخم الأميركي العسكري حتى لا يغري ذلك الأميركيين بتكرار التجربة ضدّ السعودية نفسها. وكأن المملكة تريد أن تقول بأن السياسة قادرة على التغيير المتدرج والهادئ وتقبل أنصاف الحلول، في حين أن العسكرتاريا تميل الى الإنتصار الساحق الشامل على الخصم الذي يؤدي في أحيان كثيرة الى المغامرة في معارك أخرى، قد تكون السعودية هي التالية.

أزمة السعودية مع أميركا هي المحرّك للجهد السياسي السعودي الخارجي اليوم. هي ليست قلقة من موضوع تقسيم العراق، فذلك لن يحدث من وجهة النظر السعودية. لكن ما سيحدث هو أن السعودية ستكون الأقلّ نفوذاً في العراق بين كل جيرانه.

السعوديون يواجهون خيارين: الوقوف الصريح مع المجهود الحربي الأميركي وتحمّل التبعات الداخلية، على أمل تقليص الخطر الأميركي اللاحق لتغيير نظام الحكم العراقي. الخيار الآخر الوقوف ضد الحرب وإن كان ذلك الخيار سيغضب أميركا على السعوديين أكثر، ولكنه سيوحّد جبهتهم الداخلية، ويعزّز بعضاً من شرعية حكمهم الآخذة بالإنحدار.

يظنّ كثير من المراقبين، خاصة العرب منهم، أن السعوديين اختاروا الثاني، والصحيح أنهم حسموا خيارهم باتجاه الأول، ولكنّهم لطّفوا المشهد، ويحاولون إخراجه بإتقان.

لقد ابتدعوا خطّاً ثالثاً، وهو الحديث عن حلّ إنقلابي (عسكري) يعلمون أن أحداً لا يشتريه منهم، فإمكانات السعوديين محدودة، ولو كان الإنقلاب ممكناً لقامت به أميركا منذ سنوات. فما كان منهم إلاّ التقاط (تتمّة) المشروع الأميركي، وهو إجبار صدّام على الإستقالة تحت طائلة السلاح.

هذا هو المخرج السعودي الوسطي الذي سيبرر لهم الإنخراط في الحرب الى جانب أميركا إن لم تتحقق الإستقالة. والحجّة طبعاً: تجنيب العراق وشعبه الحرب، أو المزيد منها، وهوكلام حق يراد به باطل.

السعودية تبحث عن حل لأزمتها مع أميركا، حاول الأمير عبد الله أن يهدّئها بمبادرته للتطبيع مع إسرائيل قبل عام في مؤتمر بيروت، أي على حساب القضية الفلسطينية. لم يفد هذا العرض كثيراً، فتقدّم السعوديون بمبادرة جديدة ولكن على حساب العراق، ولا نظّن أن هذا سيفيدهم كثيراً أيضاً. وقبلها فعلوا الأمر نفسه مع نظام طالبان الذي كانوا (الى جانب الباكستان والإمارات) الوحيدين المدافعين والمعترفين به.

ولربما إن تطلّب الأمر في المستقبل، وجد آل سعود لهم قضيّة جديدة يبيعونها لصالح الولايات المتحدة.

من يدري، قد يكون ذلك مشروع عبد الله الجديد حول المشاركة السياسية في العالم العربي، الذي قيل انه سيقدمه في المؤتمر القادم في البحرين، انسياقاً مع مبادرة الشراكة التي عرضها كولن باول في ديسمبر الماضي حول تعزيز الديمقراطية في الشرق الأوسط.



إطبع الصفحة الصفحة السابقة