نذر الفتنة.. لمصلحة مَن تُوقدُ النار؟

د. محمد الحضيف

لم يكتو أحد بنار (العنف) كما اكتويت! فقدتُ زهرة قلبي، وفجعتني (قبضة) العنف يوم اجتثت قسيم أحلام الطفولة، وعبثها، وبراءتها. اغتالت آمالي، وحزّت عضداً، طالما اتكأت عليه. فأنا منذ رحل (عبدالله).. فؤادي هواء. حيثما التفت وجهه أمامي، وصوته في أذني. أراه في عيون أطفاله.. في الحبر الذي أسكبه، وقد صار بلا معنى بدونه.

في الكلام الذي أقوله، وقد غدا بلا روح.. بعد أن غيبه العنف في غيابته! وأسمعه في (عويل) قلبي المفجوع! كيف (أهرب) منه، والشجى يبعث الشجى؟ كيف يهرب الإنسان من رائحة (الموت) إذ يغتال الأحلام، ويصادر الفرحة من عيون الأطفال؟! ويوقفه على شفير المجهول و(التطرف)؟!

لم يعان أحد من (عنف) الأجهزة الأمنية مثلما عانينا! أنا.. والدي.. إخواني.

مارست تلك (الأجهزة) ضدنا صنوف الأذى والإذلال النفسي والجسدي.. وعانت أسرنا، وأطفالنا تشتتا، وندوباً نفسية عميقة لم تبرح آثارها بعد!

تجربتنا مع الأجهزة الأمنية، كانت استخداما مفرطا للعنف الجسدي والنفسي. ومعاملة قاسينا منها طويلا، ومازلنا (نصارع) تداعياتها!

أكره دائما.. أن أعود إلى تلك (الصفحات) من (كتاب) علاقتي بالمؤسسة الأمنية في بلدي!

أكره ان أطل بعين (ذاكرتي) على ذلك (القاع) المملوء (عنفا) ووجعا.. وممارسات شرخت الإنسان في داخلي، وطال توحشها أفراد أسرتي!

ممارسات.. صرختُ طويلا محذرا من عواقبها! لماذا أعود إليها إذن؟! لماذا أنكأ الجروح؟ لماذا أعود للصفحات وللقاع، فأطلع على ممارسات (استلبت) معنى الإنسان؟!

أعود بعد أن تصاعدت وتيرة العنف في بلدي.. جاءت حادثة استراحة الشفاء، ثم الحادث الذي وقع في حي المصيف، ليقرع أجراساً في (قلوب) الغيورين على هذا البلد، قبل أسماعهم: إننا أمام ممارسات غير مسبوقة، لم نعتد ان تكون لغة الحوار بيننا هي لغة الرصاص!

مهما كانت الدوافع، فان اطلاق النار بحجة (الدفاع) عن النفس: نذير شر! ليس هناك مبررا ان تزهق روح، او ان تسيل دماء ابناء المجتمع الواحد.. المسلم، مواطنا، او رجل أمن بغير وجه حق!

لقد تكررت حوادث العنف، التي لا تصنف ضمن الأعمال (الإجرامية) التقليدية! من نوع تلك المواجهات التي تدخل في مفهوم (العنف السياسي). وهي تحديداً مواجهات بين جهاز المباحث، وبين شباب الجهاد.

أريد أن أقرر ابتداء أن العنف كريه.. وأنه مرفوض أياً كان مصدره.

و أريد أن أؤكد أن أي تبرير يسوغ اللجوء إلى العنف، في حال التباين والاختلاف.. إنما هو تبرير يمنح (كل طرف) شرعية اللجوء للعنف.

إن سياسة (الضرب بيد من حديد) على المخالفين تجد لها (تسويغاً) شرعياً بالردّ المضادّ، ومن جنس العمل!

كما أن شعارات (الإقصاء)، وفتاوى (التكفير)، وإهدار دم المخالف تثير الرعب، ليس لدى الجهات الرسمية، والمؤسسات الأمنية فقط، بل لدى عموم الناس!

لماذا العنف كريه ومرفوض؟

لأن العنف (دوامة) مخيفة لا تتوقف.. تأكل الأخضر واليابس!

إن عملية الإصلاح، والتغيير الحضاري، تتطلب وضعاً مستقراً، يسمح للصوت العاقل أن يستمع له، بعيداً عن ضجيج المآرب الفردية، والأهداف الخاصة، التي تتستر بالفوضى، والتي يصنعها العنف. فكم من (هوى) فردي ركب مطية العنف، وذهب ضحيته أبرياء؟!

إن العنف الذي قد يمارسه أفراد من الأجهزة الأمنية، ليس مسوّغاً أن يجعل البعض (العنف) منهجاً وأسلوبا في التعامل.

لقد قلت يوماً (لأحدهم)، حينما أعاد إلى ذهني (تجربة السجن) ومعاناتها: إننا حملة رسالة، لا وجود لـ ''عقلية الثأر'' ونزعة الانتقام في أدبياتنا.

إنني إذا كنت سأمارس (عنفاً) ضد (الجهاز) الذي عمد إلى إيقاع (عنف) من أي نوع بي، فإنني لا أحمل (رسالة) من أي نوع، ولا أختلف عنه، في كونه أداة قمع!

إنه من خلال القراءة العميقة والمحايدة لنمو ظاهرة العنف السياسي في بلدنا، نستطيع أن نتلمس عدداً من الأسباب:

أولاً، سيطرة الهاجس الأمني على سلوك (المؤسسة الامنية) في تعاملها مع الشباب الذين يتبنون نزعة جهادية. إن تصاعد هذا الهاجس يوتر العلاقة بين الشباب وأفراد المباحث!

ثانياً، (العنف الحكومي غير المبرر:) رأيت أثناء التجربة الماضية كيف أن الإفراط في استخدام العنف ضد (الموقوفين) في قضايا تافهة، مثل توزيع منشورات، أو إلقاء كلمة في محفل عام أو خاص.. ساهم في تحويلهم إلى (متطرفين)!

ثالثاً، يؤدي بطء الإجراءات (القضائية) إلى إطالة أمد الفترة التي يقضيها الشاب رهن الاعتقال، مع حرمانه من رؤيةأهله، وكثير من حقوقه.. وبالتالي إلى تعميق الكراهية للأجهزة الأمنية.. والسلطة القضائية. هذا الوضع يجعله تلقائياً مهيأ لتيارات الفكر التكفيري!

رابعاً، أدت ممارسات الأجهزة الأمنية، التي لا تخلو من انتهاكات لحقوق الإنسان، إلى تشكل (صورة ذهنية) مخيفة عنها، يجعل اللجوء إلى العنف، حلاً مثالياً في نظر الشباب، للإفلات من قبضتهم.. وعدم التعرض للابتلاء والتعذيب!

خامساً، فقدان الشباب ثقتهم في حياد القضاء، بسبب غياب الإجراءات التي تكفل للمتهم حقه في الدفاع عن نفسه. كما إن اختلاط الفكري بالأمني، خلق حالاً من الغموض والضبابية، لا يمكن فيها للمتهم أن يحكم على (شفافية) الحكم و(عدالته)! إن الحالة (الجزائرية) المخيفة ماثلة أمامي. إني وإن كنت أؤمن إيمانا جازما أن بعض الجهات، في المؤسسة العسكرية هناك، ضالعة بشكل رئيس في الممارسات الإجرامية، وحمام الدم الذي يجري هناك.. إلا أن بعض التجاوزات لبعض شباب الجهاد، استخدمت ذريعة لإطالة أمد الاحتراب المخيف، الذي دمر ذلك المجتمع العربي المسلم، وأراق دماء بريئة.

لا اظن (عاقلا) في هذا البلد، مهما ادعى (الإخلاص) أو زعم (التقوى)، يقبل أن تنتقل (الحالة الجزائرية) إلينا! أتمنى أن نفكر جميعنا، أن ما نحتاجه هو الخوف من الله أولا، أن يكون أحدنا مسؤولا عن إضرام شرارة الفتنة، ونار الاحتراب الداخلي.

كما أتمنى أن ندرك جميعنا، أن مجتمعا بلا أمن، لا يستقيم فيه الأمر لفرد ولا لسلطة! إن نشر الخير، والدعوة إليه بالحسنى، يحتاج (أمنا)، ليقول (الداعي) كلمته، ويستمع (المدعو)! كما أن استتباب (الأمن) يتطلب أن تكون السلطة قادرة على زرع الثقة، من خلال التعامل الهادئ، وبالطرق الشرعية، والاحترام المتبادل.. مهما كانت درجة الاختلاف!

لم تكن (قوة) الأجهزة الأمنية يوما بديلا عن الشعور بالأمن داخل النفوس، وبالتالي المحافظة عليه!

و لم يكن العنف يوما أسلوبا صحيحا لنشر (الكلمة الطيبة) أو الدعوة إلى الخير.

بل إنه من السنن الثابتة أن الدعوة كثيرا ما يساء فهمها ولا تتمكن إلا من خلال (المجاهدة) والابتلاء والصبر على الأذى، من اي جهة صدر!

(عن منتدى الوسطية)

إطبع الصفحة الصفحة السابقة