السعوديون وسيكولوجيا التغيير

التغيرات المتوقعة للسعودية في مرحلة ما بعد الحرب

لاشك أن ثمة تبدّلات شتّى مرتقبة ستقع بعد الحرب على العراق. فالانهيار الكبير في النظام الاقليمي وربما الدولي على أساس تبدّل صيغ التحالفات الدولية والمصالح السياسية بين الدول وهكذا نظرات شعوب المنطقة الى حكّامها، سيخلق أوضاعاً نفسية مختلفة لها انعكاسات على الوضع السياسي المحلي. بالنسبة لشعب المملكة، تشترك الأوضاع الداخلية الاقتصادية والأمنية والسياسية الراهنة مع التطورات المتوقعة بعيد الحرب في إنتاج حالة سيكولوجية جديدة، أو نحسب الأمر كذلك، قد تكون لها آثار حاسمة في تشكيل وجهات نظر جديدة، وفرض سلوكيات سياسية معيّنة يتوقع لها أن تصنع صورة مختلفة للسعودية في القرن الواحد والعشرين.

سيكولوجية المواطن السعودي تميل الى التبدّل والتغير السريع وربما حدث انقلاب حقيقي في بعض جوانبها خلال العقد الماضي. الصورة النمطيّة عن الإنسان السعودي الكسول، العابث بالثروة، غير المسؤول، والمقتول جبناً من السياسة ومتعاطيها تغيّرت كثيراً، فلم تعد هناك ثروة ولم يعد هنالك خوف من السياسة فقد اقتحمها المغامرون مرات ومرات كانت ذروتها تفجير برجي نيويورك. رموز كثيرة سقطت، وأوهام تلاشت، وتطلعات حبيسة لاتزال تقاوم سجانيها. كيف يرى المواطن السعودي الأمور اليوم وفي الغد القريب؟ كيف يرى العائلة المالكة والقوى السياسية المختلفة؟ وما هي صورة تطلعاته السياسية (الإصلاحات)؟ وما هي الحالة الثقافية وشكل الأمن وعلاقته بالشخصية؟ الإجابة قد تشكل صورة واحدٍ من السيناريوهات التي قد تكون عليها السعودية في السنوات القليلة القادمة.

العائلة المالكة

الصورة النمطية التي فرضتها العائلة المالكة على رعاياها لم تكن منفصلة عن القوة الإكراهية والثروة، أو بحسب الصيغة المتداولة سياسة العصا والجزرة. هذه الصورة ظلت طاغية وتؤكد نفسها بقوة طيلة عقود ماضية، وهذا ما أبقى على استقرار أسس سلطانها. ولكن هذه الصورة بدأت في التبدّل الملحوظ في بداية التسعينيات حين كشفت أحداث الخليج الثانية عن هشاشة هذا النظام وظهرت هذه القوة المزعومة كوهم بدّده وصول القوات الاميركية الى أراضي الجزيرة العربية للدفاع عن النظام إزاء التهديدات المحتملة التي قيل أن نظام صدام حسين قد فرضها.

وعلى إمتداد أكثر من عقد، كانت الصورة النمطية للعائلة المالكة تتمزق قطعة قطعة كلما عاشت البلاد محنة جديدة، فالعقد الماضي كان عقد المحن بالنسبة لها على المستويات الأمنية والاقتصادية والسياسية، وعلى مستوى علاقاتها الداخلية أي بينها وبين رعاياها، وبينها وبين جيرانها الصغار والكبار، وأخيراً بينها وبين حليفها الاستراتيجي الولايات المتحدة.

إنهدام آخر حصن تلجأ اليه العائلة المالكة والمتمثل في دعم وإسناد وحماية الولايات المتحدة، يعني إنكشاف الجبهة الداخلية لحكمها، وقد باتت في مسيس الحاجة الى بدائل موازية من حيث القوة والتأثير والاستمرار تعوّضها في إعادة بناء مشروعيتها السياسية وحتى الدينية التي تآكلت بظهور تيار ديني من داخل حليفها التاريخي يوصمها بالكفر ويطالب باستبدالها.

ما يمكن أن تفرزه أوضاع ما بعد الحرب على العراق لن يكون بالتأكيد لصالح العائلة المالكة، مهما كانت النتائج، ولأنها أفرطت في إهمال دور الشعب في تعويض خسارة حليفها الخارجي، فإنها لن تكون قادرة على تأهيل بديل داخلي شعبي من أجل معاضدتها إزاء تحديات ما بعد الحرب، فهذا البديل لم يعد قابلاً للابتزاز بخاصة في ظل ضعف العائلة المالكة ولن يكون كبش فداء لمن لا يستحق. فالعائلة المالكة التي مازالت لم تبدّل من لهجتها وسياستها وطريقة تفكيرها حتى مع إقتراب الحريق من ثيابها ـ أي أنها غير مستعدة للاستجابة لمطالب أهل الصلاح والإصلاح في مرحلة إختناق الدولة ـ لا يمكن لها أن تثير الشفقة لدى أحد حين يكون السكان قادرين على تحقيق ما يريدون بأنفسهم ودون حاجة لطلب الرحمة ممن لا يملكها حينئذ.

فشل العائلة المالكة في تأهيل نفسها لظروف من هذا القبيل، لن يفضي الى سوى انعتاق من هم تحت هيمنتها من أي مسؤولية في الدفاع عنها او حتى التباكي عليها، فهي لم تكن جزءا عزيزاً عليهم في يوم ما، وهم بالتالي لا يستشعرون الخسارة حال رحيلها.

الاصلاحات السياسية

بات مألوفاً بأن البلد تكون على موعد مع حركة مطلبية في كل متغير سياسي داخلي أو إقليمي. هذا ما حصل في عهد الملك سعود مع انهمار تيار القومية العربية، وهكذا مع وفاة الملك فيصل وخالد، ومن ثم بعيد احتلال العراق للكويت، وأخيراً خلال التطور الخطير في أزمة العراق مع الولايات المتحدة واقتراب شبح الحرب من المنطقة.

وقد نجحت العائلة المالكة الى حد كبير في إحتواء الحركة المطلبية الداخلية فور زوال مصادر الخطر، ولكن لا ضمانات دائمة بأن تسير الأمور وفق رغبتها، فإن الدائرة باتت ضيقة، إذ ليس هناك ما يمكن وصفه بدعامات للحكم سواء من الداخل أو من الخارج. وهذا يعني أمرين: إختلال المعادلة لصالح التيار الاصلاحي في هذا البلد بما يمنحه فرصة رفع سقف المطالب السياسية الى مستوى تخفيض صلاحيات العائلة المالكة، أو الوصول بالمواجهة الى حد التصادم مع التيار الاصلاحي.

ستكون النفوس مهيئة أكثر للإصلاح والتغيير بعد أن تقرع طبول الحرب، وقد تكون نتائج تلك الحرب وانعكاساتها على الواقع السعودي مشجعاً إضافياً لحثّ الخطى باتجاهه. بمجرد أن يشعر المواطن بالتراجع والضعف في موقف العائلة المالكة، وهو يشعر بذلك الآن وقد يتضاعف هذا الشعور في الأشهر القادمة، فإنه يتقدم بخطوات سريعة للأمام في مطالبه، ويحمل عن أكتافه عبء الخوف والقلق من الإنتقام والقمع، وقد تحفّز المزيد من الأوضاع السيئة الجمهور على تفعيل السخط ضد النظام وتحويله الى برنامج عمل سياسي إصلاحي أو جذري، أو قد تأتي جماعات أو حركات منظمة أو غير منظمة فتشعل السخط على شكل عنف ومواجهة مباشرة مع السلطات. ومثل هذه الحالة تعكس ثقة الجمهور في ذاته مضاعفة، كما تعكس انحطاط هيبة الحكم من النفوس، بحيث يمكن القول في مثل هذه الحالة، أن تأكيد الهيبة بالعنف لن تزيد النار إلاّ اشتعالا.

الأمن

أوضاع ما بعد الحرب ستخلق دون ريب أوضاعاً أمنية مقلقة لدول الخليج بصورة عامة، وللمملكة بصورة خاصة، فالاستقرار الأمني بات تاريخاً لن يتكرر في هذا البلد، ما لم تتظافر الجهود والضغوط الداخلية والخارجية لتحقيق اختراق في مجال الإصلاح السياسي وتوابعه الإقتصادية والإجتماعية. بيد أننا نعلم بأن هذه الجهود مرفوضة ويجري التعبير عن ذلك بأن السعودية ترفض الضغوط الخارجية والداخلية لتحقيق الإصلاح. بلا شك فأن دخول العامل الأجنبي على الخط هو ما تنبذه وبشدة العائلة المالكة الآن أكثر من أي وقت مضى، لأنه يعادل مصيرها الذي سيكون الى زوال فيما لو سمح للعامل الأميركي أن يدخل في معادلة الحكم، وقد تكشف معارضتها للحرب على العراق بأن ذلك بالنسبة لها البوابة التي ستهب منها عاصفة اميركية للاطاحة بالخارطة القائمة.

لا يمكن إغفال تأثير الظروف السياسية الخارجية في الأوضاع الأمنية الداخلية للمملكة، تماماً كما لا يمكن إغفال تأثير انهيار الاوضاع الاقتصادية والاجتماعية في تصدع البنية الأمنية. وخلال العقد الماضي شهدت المملكة أسوأ مرحلة في تاريخها على المستوى الأمني، إذ تحولت من جزيرة آمنة الى شديدة الاضطراب بفعل حوادث العنف ذات الأحجام المختلفة وزادت وتيرة الحوادث الأمنية منذ أحداث الحادي عشر من سبتمبر، ثبت خلالها العجز الذريع لأجهزة الأمن في ضبط الأوضاع الداخلية، فالفشل في القبض على الضالعين في هذه الأحداث يقدّم دليلاً إضافياً على أن التدهور الأمني المتسارع فاق قدرة الدولة على تطويقه كما يقدم دليلاً آخر على أن البلد مرشحة لمزيد من التدهور الأمني.

ثمة ما يدفع للقول بأن البلاد مرشحة لأن تشهد أوضاعاً أمنية مضطربة، وهناك من العوامل ما يشجّع على تصاعد وتائر العنف، اقتصادية وسياسية وإجتماعية، وبلا شك لا يمكن إغفال أوضاع ما بعد الحرب، فمكانة المملكة كقوة إقليمية وتحظى بدعم دولي ستفقدها ريثما تتزحزح مراكز الجاذبية أو تخضع لاستبدال جوهري، في حال تم تنفيذ الخرائط السياسية الاميركية التي جرى إعدادها سابقاً.. هذه المكانة تعني حتى الآن إسناداً دولياً لجهود الحكومة في محاربة الجماعات المتطرفة، واستعمال تدابير صارمة وإن تضمنت اختراقات فاضحة لحقوق الانسان والحريات الفردية للقضاء على ما يسمى بالارهاب وحفظ النظام، ولكن إختلال هذه المكانة سيفضي الى انحسار التأييد الدولي وربما تحوّله الى مراقبة دولية بما يتيح فرصة لانفجار الأوضاع الأمنية بطريقة غير مسبوقة، بالنظر الى وجود ما يكفي من مبررات الانفجار الأمني.

العلاقات الداخلية

ذكرنا في العدد الثاني بأن ليس هناك مجتمعاً سعودياً موحداً بناءً على مشتركات تجمعه ثقافية وتاريخية وايديولوجية وسياسية واجتماعية، بل الصحيح أن هناك مجتمعات تعيش ضمن وحدة سياسية، لم تبذل الدولة جهوداً حقيقية وكافية من أجل صهرها وتوحيدها لجهة صناعة مجتمع موحد. من جهة أخرى، فإن علاقة الدولة بهذه المجتمعات لم تكن على درجة واحدة وإنما للدولة روابط ومصالح ومواقف متفاوتة مع كل مجتمع، فالمجتمع النجدي بالنسبة للدولة يمثل مركزها وقلبها وإبنها المدلل، ثم تأتي المجتمعات الأخرى بحسب ولائها وقربها من السلطة وإمتثالها لإملاءاتها وتحقيقها لمصالحها.

هذا التفاوت في العلاقة بين العائلة المالكة والمجتمعات المنضوية بداخل الدولة السعودية عكس نفسه أيضاً على العلاقة بين المجتمعات نفسها، بحيث باتت الروابط والمصالح والمواقف هي الأخرى متفاوتة بين مجتمع وآخر داخل هذا البلد، فالعلاقة التي تربط المجتمع النجدي بالمجتمع الحجازي تختلف بصورة واضحة عن العلاقة بين المجتمع الحجازي ومجتمع أهل الجنوب مثلاً، وهكذا المجتمع في الشرقية في علاقته بالمجتمع النجدي يختلف هو الآخر عن علاقة المجتمع في الشرقية عن المجتمع الحجازي، وبلا شك فقد ساهمت سياسة الفرز التي إتبعتها الدولة في علاقتها مع المناطق قد خلقت حساسية تجاه المنطقة الأثيرة، وتحديداً نجد التي كانت تحظى بمعاملة خاصة في مخصصات الدولة وفي مناصبها وخدماتها بالمقارنة مع المناطق الأخرى.

وبطبيعة الحال، فإن الظروف السياسية التي ستنشأ عن مرحلة ما بعد الحرب لن تكون في صالح الدولة، بل ستفضي في الغالب الى إضعافها وبالتالي إضعاف الأطراف الأثيرة لديها تبعاً لذلك، وهناك روح ستنفخها أوضاع ما بعد الحرب تستحث المجتمعات المقهورة في هذا البلد للافادة من هذه الظروف لتحقيق تعويض حقيقي أو حتى نفسي كما ظهر في المقالة التي نشرتها وول ستريت جورنال في الشهر الماضي حول ما تأمله الطائفة الشيعية في المنطقة الشرقية من أوضاع قد تخدمها في تحسين أوضاعها الداخلية.

ثمة استبطانات داخلية لدى المجتمعات خارج منطقة نجد تميل الى تغيير المعادلة الداخلية أملاً في الحصول على مكتسبات لم تكن قابلة للتحقق بطواعية من الدولة، فهذه المجتمعات ترقب بانشداد الى إنكسار السلطة كيما تعيد تشكيل علاقتها بها وبالمجتمع الأثير لديها، وبمجمل العلاقات الداخلية.

الحالة الثقافية

بوادر الحالة الثقافية الداخلية تظهر حتى الآن موقفاً مبدئياً وشجاعاً سواء على مستوى معارضة الحرب الاميركية على العراق، وإن كانت المعارضة تستجيب لموقف الحكومة، ولكن ثمة خطاً جديداً يرسل إشارات قوية يسعى الى تأكيد نفسه من خلال الإبقاء على حيوية المطالب الاصلاحية إعلامياً وثقافياً.

هناك بلا شك حالة ثقافية مناهضة للحرب الأميركية على العراق وهي تعبير عن خط المنافحة التلقائي لدى التيار الثقافي العام محلياً وعربياً، ولكن السؤال الذي سيفرض نفسه بعد الحرب، لا سيما مع زوال نظام صدام حسين وخضوع العراق بل والمنطقة بأكملها لسيطرة الولايات المتحدة، السؤال هو: هل ستكون الحالة الثقافية إنهزامية، استسلامية، مستقيلة، دفاعية، أم أنها ستكون مقاومة، تحريضية، نضالية؟ قد يكون هناك إصرار على ترجيح الجواب الثاني بإعتباره يتوافق مع روح ومبدأ وظرف ما قبل الحرب، بيد أن ما تحمله الجعبة الأميركية من خطط وسيناريوهات تبطن الإذلال للمنطقة وتعيد إحياء سيرة الاستعمار في صوره القديمة والذي يعني ـ في ترجمة مباشرة له ـ الاستعباد بكل معنى الكلمة. نتساءل وفق هذا: كيف ستكون الحالة الثقافية، هل ستظهر حركة ثقافية نضالية تحرّض على مواجهة الاستعمار الجديد وستطالب بخروجه وإجبار الحكومة على تبني الاصلاح السياسي من أجل بناء جبهة شعبية واسعة لمناهضة مشاريع إرتهان المنطقة وشعوبها واختطاف نفطها؟ أم أن شعور الهزيمة قد يلقي بظلاله على الحكام والمحكومين، فيجري الإستسلام لمشاريع أميركا القادمة؟

رؤى القوى السياسية والاجتماعية

لم يعد سراً وجود طيف واسع من القوى السياسية والاجتماعية السرية والعلنية الطامحة الى تغيير الأوضاع الداخلية لجهة إما استبدال النظام الحالي بنظام آخر، أو إصلاحه بإجراء تغييرات جوهرية في النظام عن طريق دمقرطته. هناك فترات تنشط فيها هذه القوى في البوح ببرنامجها السياسي وأجندتها الإصلاحية، وهي فترات ضعف الدولة أو انشغالها بأوضاع سياسية محلية أو إقليمية.

في حال كهذه، ستشجع أوضاع ما بعد الحرب القوى السياسية والاجتماعية داخل الحدود وخارجها سواء بسواء على الانخراط الشجاع في العمل المطلبي، وخوض النضال السلمي من أجل الديمقراطية، وهذا لا يكشف سراً بالنسبة للحكومة، فقد أدركت في ظروف مشابهة سابقة بأن ثمة فرص تستحث هذه القوى على استغلالها بطريقة تسمح لها بقول كلمتها في نظام الحكم المنشود، فقالتها في حرب الخليج الثانية وستقولها أيضاً في حرب الخليج الثالثة حتى تذعن العائلة المالكة الى أن الاصلاح السياسي وحده الكفيل بإزالة الاختناقات السياسية الداخلية.

الشيء الجديد هذه المرّة، هو ليس في رفض آل سعود المتوقع للطروحات الإصلاحية، بل في توافر البدائل التغييرية، فلأول مرّة يصبح خيار تقسيم المملكة موضوعاً جاداً وحقيقياً، ولأول مرّة يطرح هذا الخيار كبديل لفشل الإصلاح السياسي السلمي الديمقراطي. ولأول مرة تعلن بعض الفئات الإجتماعية عدم ممانعتها بالتقسيم الذي يحفظ حقوقها إذا ما فشل خيار (الوحدة والإصلاح) وهو الأحتمال الأقرب حدوثه بناء على المعطيات الحاضرة.

بكلمة أخرى، فإن الإستثمار السياسي ليس معلقاً على الإصلاحات السلمية الديمقراطية، ولا على رفض العائلة المالكة لها، بل هناك استثمار حقيقي في مجال تفكيك الوحدة الى عناصرها القديمة.

إطبع الصفحة الصفحة السابقة