كيف تنظر العائلة المالكة الى نفسها بعد الحرب

تفاوتت الاحصائيات حول تعداد أفرادها بين خمسة آلاف وسبعة آلاف وعشرة آلاف وأوصل بعضهم الرقم الى عشرين ألفاً. ولكن مهما كان حجمها، فالعائلة المالكة فرضت نفسها كطرف غير منازع في حلبة السلطة، وكان ثمة عوامل عديدة متشابكة قد ساهمت في تعزيز إنفرادها بالسلطة بدأت أولاً من قدرتها في لحظة تاريخية على حشد القوى المتنافرة في منطقة نجد خلف خطاب ديني متعال على النوازع القبلية، فصنع الملك عبد العزيز معنى دينياً فوق قبلي لمشروعه السياسي المحض، وتمكن من الامتداد الاجتماعي لصناعة رابطة عليا مع قبائل نجد عن طريق الزواج، ومنهم شكّل جيشه لغزو المناطق الأخرى، ثم جاء إكتشاف النفط في المنطقة الشرقية بكميات تجارية فخلق ثروة وتحالفاً مع أكبر قوة دولية ممثلة في الولايات المتحدة التي تعهدت بحماية العرش السعودي وحفظ العائلة المالكة ثمناً لتدفق ثابت للنفط.

وبقيت العائلة المالكة تستمد قوتها من تضافر عوامل محلية (القوة والثروة) ودولية ممثلة في إتفاقية الحماية مقابل النفط، غير أن ما جرى إغفاله هو أن هذه العوامل تندرج في قائمة المتغيرات التي لم يكن بالامكان ضمان استمرارها، فالقوة مهما بلغت قد تتحول في ظروف أخرى الى ضعف شديد، وهكذا الحال بالنسبة للثروة النفطية التي كان مقدراً لها أن تنضب في زمن محدد، هذا مع التذكير بأن الثروة النفطية لم يكن بالامكان حمايتها بدون القوة الخارجية، التي بدأت هي الأخرى تنذر بتحولات خطيرة.

العائلة المالكة صنعت لها زخماً سياسياً محلياً ودولياً، وقد خدمت عناصر الثروة والقوة والتحالف الاستراتيجي مع الولايات المتحدة بناء صورة مبالغة في المخيال الشعبي طغت تأثيراتها على سلوك وتفكير ومشاعر القاطنين داخل حدود البلاد، بحيث أفقرت هذه الصورة المتضخمة أجهزة التفكير الشعبية في توليد خيارات سياسية بديلة أو حتى مجرد إطلاق مبادرة نحو تطوير الخيار القائم. في حقيقة الأمر، أن العائلة المالكة بالصورة التي فرضتها وصنعتها في المخيال الشعبي أجهضت محاولات التفكير في مصداقيتها وكفاءتها فضلاً عن مشروعيتها، فقد ملأت المجال العام بحيث لم يكن هناك من يرى في غير العائلة المالكة مؤهلاً للحكم، هذا فكيف بالتفكير في استبدالها.

العائلة المالكة لم تكن فيما مضى بحاجة الى العودة لرعاياها كيما تضمن الحصول على جرعة كافية من المشروعية وكبسولة الاستقرار، فقد كانت قادرة بقبضتها الأمنية الضاربة وشرائها للذمم عن طريق المخصصات المالية، وثالثاً عن طريقة شبكة تحالفاتها الخارجية الاقليمية والدولية (التي كانت تغطي المساوئ والسوءات) من الاكتفاء في تحقيق استقرار سلطانها وتعزيزه وأيضاً تصنيع مشروعية موهومة أغنتها عن المشروعية الحقيقية.

هذه الصورة شديدة الكثافة لوضع العائلة المالكة في سياق متغيرات داخلية وخارجية، ستخضع دون ريب للتبدّل بعد الحرب على العراق. ولا يفوتنا هنا استدعاء الصورة التي اهتزت بعنف خلال حرب الخليج الثانية، مع بقاء العامل الدولي بجانب العائلة المالكة، وهو عامل يتدخل ليس بصورة منحازة فحسب، بل يستهدف إسقاط معادلات جيوسياسية قائمة هي مسؤولة عن صناعة صورة العائلة المالكة واستقرار نظام حكمها.

الحرب والحصان الرابح في العائلة المالكة

ثمة مؤشرات تفيد بأن هناك خطين داخل العائلة المالكة أفرزتهما أزمة العراق مع الولايات المتحدة، وهما خط مناهض للحرب ممثلاً في جناح الأمير عبد الله، وخط براجماتي يميل الى مهادنة الولايات المتحدة والاستجابة لمتطلباتها للحيلولة دون نيلها عقاب ما بعد الحرب، سيما مع التلويح المتواصل بخيار تغيير الخرائط السياسية المزمع فرضها أميركياً.

ورغم أن الادارة الاميركية لم تبد حتى الآن موقفاً يشي بميولها نحو جناح محدد داخل العائلة المالكة، بل هناك ما يؤشر أحياناً الى أن العائلة المالكة باتت بكاملها خارج المزاج السياسي الأميركي الجديد.. لكن يجب دائماً التذكير بأن العائلة المالكة تمثل الجهة الوحيدة المعلومة والمضمونة للادارة الاميركية في مقابل جهات غير متبلورة ومجهولة وفي بعض الأحيان محكومة بالشكوك المتولدة من أحداث الحادي عشر من سبتمبر والتطورات اللاحقة لها.

نشير هنا الى أن العائلة المالكة حاولت منذ أن بدت مؤشرات تفوق الخيار الاميركي على الخيار الثلاثي الفرنسي الالماني الروسي المعارض للحرب على العراق، أن تبدّل على وجه سريع خط سيرها وتخفف من لهجتها المتشددة حيال الحرب، ظهرت أول مرة في استعدادها لتقديم تسهيلات ذات طابع إنساني مثل فتح مطارات الشمال أو استقبال الجنود الاميركيين تحت ذريعة تقديم المساعدات الانسانية في حال تدفق اللاجئين بعد إندلاع شرارة الحرب، الا أن ما يجب الالتفات اليه أن قيمة هذه التسهيلات جاءت بعد إنغلاق الجبهة التركية في الشمال واضطرار القوات الاميركية لاستبدال خططها العسكرية، وهذا ما فتح المجال للعائلة المالكة كيما تساوم سياسياً الادارة الاميركية من أجل الحصول على ضمانات ما بعد الحرب.

وقد أفادت مصادر خبرية عديدة رسمية وشبه رسمية ومحايدة الى أن ثمة استعدادات بدأت في المطارات المدنية والعسكرية السعودية وهكذا القواعد الجوية، وتظهر بشكل كبير حضور قوات أميركية بأعداد كبيرة وأن هذه المطارات باتت جاهزة لانطلاق الطائرات العسكرية الاميركية لتنفيذ ضرباتها للأهداف الاستراتيجية داخل العراق، وليس الإعلان عن اغلاق مطار عرعر أمام الطائرات المدنية سوى مؤشر على تحويله الى مطار عسكري. بل وهناك أخبار تفيد بوجود قاعدة سرية أميركية في الأراضي السعودية، وإن صحت هذه الاخبار فهي تضاف الى ما يفيد بأن العائلة المالكة تدرك الآن بأن مصلحتها الخاصة تقتضي تسهيل المهمة الأميركية حتى لو تطلب الأمر السماح ببناء وليس فقط استخدام قواعد عسكرية خاصة بالولايات المتحدة، وهو إن لم يكن قد حدث اليوم فهو بالقطع سيكون واقعاً قائماً في الغد، حين تكون أوراق اللعبة السياسية بأكملها في اليد الأميركية.

لقد خفت الهجمة الإعلامية الأميركية منذ بضعة شهور، هي عمر الإتفاق السرّي بين السعوديين وأميركا بشأن استخدام القواعد العسكرية السعودية (تقريباً أهم القواعد: مثل قاعدة حفر الباطن على الحدود العراقية، وقاعدة الأمير سلطان في الخرج التي يدار منها المعركة، وقاعدة الظهران، إضافة الى القواعد والمطارات الشمالية المنتشرة بالقرب من الحدود مثل تبوك). لكن الصمت الأميركي عن الحليف السعودي قد لا يعدو مرحلة مؤقتة ستلحقها مطالب أميركية وضغوط حادّة بعد إسقاط الحكم في العراق. ومع أن الأمراء توصلوا الى لعبة مكشوفة باستخدام خطابين مزدوجين: للداخل ضد أميركا والحرب، وللخارج تقديم كل ما طلبه الأميركيون، فإنه ليس هناك كما يبدو من يمكن وصفه بالأثير لدى البيت الابيض أو من يمثل خياراً أميركياً داخل العائلة المالكة، ولكن قد يكون هناك لاحقاً من سيحاول تقديم نفسه في صورة الحصان الأميركي داخل السعودية.

العائلة المالكة التي سعت الى إيصال رسالة شديدة الوضوح للادارة الاميركية في حربها ضد الارهاب والجماعات المتطرفة داخل بلادها، بشن حملات اعتقال في أوساط جماعات يشتبه في إنتمائهم لشبكة القاعدة، لن تتردد في أوضاع ما بعد الحرب من تشديد قبضتها إن اقتضى الأمر من أجل تحقيق شروط التحالف الاستراتيجي مع الولايات المتحدة، فالتهويل من خطر الديمقراطية على بلد كالسعودية كونه يمهّد السبيل لجماعات متطرفة في الوصول الى السلطة، هو ذات المنهج الذي ستستعمله العائلة المالكة لاحقاً فيما لو فكرت الادارة الاميركية في فرض الديمقراطية على دول المنطقة. نشير هنا الى أن العائلة المالكة تمتلك من أدلة الاقناع ما يكفي لدرء خطر الديمقراطية عنها، فهي قادرة على نقل رسالة مشوّهة حتى عن دعاة الاصلاح من ليبراليين وديمقراطيين بأنهم يحملون نوايا عدائية للولايات المتحدة بدليل كتاباتهم الموتورة. وفي غياب قنوات تواصل بين القوى السياسية المحلية والقوى الدولية ذات التأثير السياسي على العائلة المالكة، تصبح الأخيرة قادرة على فبركة رؤى وروايات حول خصومها ولتمديد وتأكيد صلاحيتها للحكم، والحكم بالطريقة التي تحفظ المصالح الحيوية لحلفائها الدوليين وفي مقدمتهم الولايات المتحدة.

ولكن السؤال يبقى هل يمكن الحديث حينذاك، أي بعد نهاية الحرب على العراق، عن صقور وحمائم داخل العائلة المالكة؟ وهل يمكن أن تشهد العائلة المالكة تبدّلاً بنيوياً ووظيفياً؟

الحديث عن صقور وحمائم مازال حديثاً عن غرف مظلمة، فالحدود داخل العائلة المالكة غير قابلة حتى الآن للفرز بصورة دقيقة ونهائية بحيث يمكن الاطمئنان الى التصنيف التقليدي: صقور وحمائم. ثم صقور تجاه من وماذا وحمائم تجاه من وماذا أيضاً؟ هذا التصنيف قد يغري بعض الطامحين للعثور على خيارات حل من داخل العائلة المالكة، ولكنه قد لا يتطابق بالضرورة مع حقيقة التركيبة والتوجهات السياسية داخلها. قد يظهر الأمير عبد الله مثلاً على أنه رمز لصقور العائلة المالكة، ولكن ما يلبث أن يظهر في صورة العاجز عن تخطي صقور أخرى مثل سلطان ونايف، ويقال لك أحياناً بأن لا تحملوا تصريحات وزير الدفاع الأمير سلطان على محمل الجد لأنها لا تمثل الموقف الرسمي للدولة، ويقال لك أيضاً بأن الأمير نايف لم يكن يحظى بتقدير تام من الملك فهد وكان دائماً يعيب عليه مبالغته في الاستجابة لاملاءات زوجته، ولكن تحت سلطة هذه الصقور ما يكفي لتعطيل أي قرار سياسي أو إنجاحه. وتبعاً للمعادلة شديدة التعقيد والفوضى العارمة التي تحيط بعملية صناعة القرار داخل العائلة المالكة، فإن إنفراز الصقور والحمائم صعب حتى الآن.

أما السؤال عن إمكانية حدوث تبدّل بنيوي أو وظيفي للعائلة المالكة، فالاجابة كما يبدو تتصل بإمكانية ولادة إتجاه جديد داخل العائلة المالكة، ولنفترض من الجيل الثالث، يكون قادراً على الافادة من ظروف ما بعد الحرب وتقديم نفسه كبديل أفضل في تحقيق السلم الداخلي مع تلبية متطلبات المرحلة القادمة، وخصوصاً ضمان تدفق النفط للاسواق الدولية والأميركية تحديداً. ولكن لا يبدو حتى الآن أن هناك ما يشير الى إمكانية ظهور إتجاه جديد يتولى مهمة إنقاذ العائلة المالكة من مأزق قادم ويكون قادراً على إقناع الداخل والخارج بجدارته في الحكم.

في الواقع كل البدائل التي إنفرزت من داخل العائلة المالكة بدءا من الامير طلال وأشقائه، وإنتهاءً بالأمير تركي وإبنه الأمير فيصل بن تركي لم تفلح في تقديم ''نموذج مختلف'' عمن هم في الحكم، فهؤلاء أمراء في السلطة وهؤلاء أمراء خارجها، وجميعهم يتفقون على أن الحكم وراثي موقوف بناء على قاعدة ''ملك الآباء والأجداد''، فالخلاف بين من هم خارج السلطة وداخلها ليس أكثر من خلاف على الحصص ليس إلا، وقد يستغل بعضهم الشعب كورقة ضغط على طاولة المفاوضات بين المتنافسين من العائلة المالكة.

وعلى أية حال فإن ما تبقّى من الابناء الأربعة والأربعين للملك عبد العزيز يتقادمون في العمر ويحثون الخطى نحو نهاية آجالهم الطبيعية، وهذا يفسح الطريق أمام دخول أحفاد الملك المؤسس الى حلبة الصراع على السلطة، وبالتالي فإن تكسير السلطة سيكون في المرحلة القادمة ضرورياً من أجل انتزاع فتيل تصدع ملك آل سعود، كما أن نظام التوارث الحالي لن يكون صالحاً في حال دخول أفراد من آل سعود ولكن من خارج بيت المؤسس الملك عبد العزيز، وهذا سيترك تأثيره على شبكة التحالفات داخل الاسرة المالكة.

ما يمكن تلخيصه هنا هو أن ثمة صورة جديدة للعائلة المالكة في طور التشكّل، وهي بلا شك تختلف كلياً عن الصورة النمطية التي هيمنت على المخيال الشعبي، وأن اهتزاز الصورة أو انقلابها لا ينحصر فقط في ظروف الحرب الحالية، بل تعود الى عوامل عديدة داخلية وخارجية وتتصل بدرجة أساسية بالعوامل التي سبق وشكّلت تلك الصورة ورهنتها أيضاً لمتغيرات هذه العوامل. اليوم لم يعد محتوى وقوة مشروعية العائلة المالكة كالسابق، فمنسوب المشروعية يتضاءل بدرجة سريعة تبعاً لتضاؤل قدرتها على تعويض ما تخسره في الداخل مترجماً في مشكلات أمنية واقتصادية وسياسية واجتماعية وما تخسره في الخارج في هيئة تمزّق لصورة نمطية في المحافل الدولية عن الجزيرة الآمنة ودولة الرفاه والاستقرار والاعتدال. وفيما تتقلص خيارات العائلة المالكة في إعادة تأهيل نفسها لمرحلة ما بعد الحرب تكون ولادة إتجاه تصحيحي من داخلها مشكوكة.

صَلَف القوّة

شعور آل سعود بالضعة والضعف والمهانة والخوف أمام أميركا، يقابله استئساد واستعراض للعضلات والمزيد من القمع في الداخل، وكأن ما يجري في الداخل انعكاس لطبيعة العلاقة مع أميركا والغرب أو أحد منتجاته. لم يعر الأمراء أهميّة كبيرة للسخط المحلّي، ولا للمطالب الإصلاحية، وكأنهم يريدون القول بأنهم قادرون على التحكّم باللعبة الداخلية رغم أن الأنظار الخارجية تحدّ من حركتهم.

لهذا لم يهتم الأمراء بالعريضة الإصلاحية، ويحتمل أن تموت بمجرد أن تبدأ الحرب على العراق، أو تتصاعد المطالب الإصلاحية ويتمّ تجاوزها من قبل فئات أكثر راديكالية ترى بأن الإصلاح لن يكون إلاّ بالقوة، أو هو مستحيل ولا مناص حينئذ من تقسيم المملكة والدعوة الصريحة لذلك. فقلق الأمراء خارجي بالدرجة الأولى، أما الداخل فهو مجرد امتداد له، أو يوفّر له ذلك الخارج الغطاء المناسب لكي يتمدد وينمو ويستعلن نفسه على السطح.

ما يبدو ظاهراً حتى الآن أن هناك ثقة ملكية بأن آثار الحرب على العراق وتداعياتها يمكن التحكّم فيها بالوعود الإقتصادية أو بالعصا الغليظة أو بكليهما. أما الإصلاحات فهي لن تتم إلاّ إذا بدأ الأميركيون بالضغط بعيد استقرار الوضع في العراق، وحتى ذلك الحين، فلا أحد ينتظر شيئاً في هذا المجال.

غير أن الخطر الكامن من هذا الإستخفاف بالجمهور وبتطلعاته قد ينقلب بأسوء العواقب. فما هو مقبول الآن من حلول دنيا قد لا تكون مقبولة أو كافية فيما بعد، والمتسع من الوقت الذي كان أمام العائلة المالكة لكي تصلح وضعها الداخلي، سيتضاءل أمام دفع داخلي وخارجي، يجبرها على التنازل السريع بشكل قد تفقد معه القدرة على التحكم بإخراجه إعلامياً، أو قد لا تستطيع القيام به. وفي هذه الحالة قد يسمع الأمراء من الحليف الأميركي ومن شعبهم أنهم باتوا غير مرغوبين في بقائهم كحكام: أي أصلحوا أو ارحلوا، وطالما أنكم لم تصلحوا فعليكم بالرحيل، وإذا لم يكن هناك منفذ للإصلاح فليكن التقسيم.

إطبع الصفحة الصفحة السابقة