حملة إعلامية مدفوعة بمشاعر الذنب السبتمبري

تركي الفيصل يكرر خطاب المستبدين

كنا نعتقد بأن السفير السعودي في لندن الأمير تركي الفيصل قد قرأ تجربة من سبقه في 'تسويق' حكومته في الغرب، وبخاصة حين يتعلق الأمر بموضوعات مثيرة للجدل في بلادنا، ولكنها باتت في حكم المسلّمات في عالم الغرب، كما في مثال الديمقراطية. فقبل عشرين عاماً كان الجدل حول مواءمة الاسلام والديمقراطية يعتبر مقبولاً الى حد ما في الفضاء الفكري الاسلامي، بناءً على المساحات المفتوحة لكل منهما في سياق الجدل المفهومي حول الاسلام والديمقراطية. الا أن اللجوء مجدداً الى مفردات لغة الجدل القديمة في تبرير نظام توليتاري شمولي في بلادنا يعتبر معيباً ومثيراً للسخرية في وقت واحد، وبخاصة حين يوضع في لغة دينية مدقعة.

منذ وصوله الى لندن والأمير تركي الفيصل يخوض غمار حملة إعلامية مدفوعة بمشاعر الذنب السبتمبري، الذي يمثل الأمير نفسه أحد ضحاياه، من أجل إعادة رسم صورة المملكة في الخارج وخصوصاً في المناطق التي تشوّهت فيها هذه الصورة مثل لندن وواشنطن.

فمهمة الأمير كما يشرحها في ندوة دعائية موّلتها الحكومة وبرعاية وزارة التعليم العالي في السعودية تنطلق من الشعور بضرورة تصعيد مستوى الدفاع عن سمعة حكومته. يقول السفير الأمير 'نحن في المملكة قصرنا في شرح أنفسنا للآخرين'، مما ساهم في خلق 'فجوة ثقافية' بين السعودية والغرب. وهو في حديثه عن الفجوة لا ينوي حصر توجيه اللوم في الغرب وحده بل يعتبر أن هذه الفجوة ناجمة ليس عن 'خطأ إرتكبه الاعلام (الغربي) فقط، بل أيضا خطأ المملكة' في التقصير في شرح قيمها ونظامها وثقافتها. والخطأ كما يشرحه الأمير بصورة مكثّفه أن 'المملكة صارت مجتمعاً أكثر إنفتاحا مما مضى' في اعقاب احداث الحادي عشر من سبتمبر.

ما يثير في لغة السفير الأمير أنها تتسم بالطلاقة ولكنها ضحلة وضعيفة الحجة، وهي لغة دفاعية تبريرية ولكنها ليست مقنعة، ولعل تشابك الأدوار الذي لم يحسم بعد بين السفارة والاستخبارات يحول دون بلورة مواقف صالحة للمكان الذي تنطلق فيه هذه التصريحات. علاوة على ذلك، فإن الأمير الذي يتحدث الانجليزية بطلاقة مازال مسكوناً بهواجس المهمة الأمنية السابقة وكأنه يخاطب جمهوراً من أنصار حكومة طالبان أو جمهوراً من المتعاطفين مع بلاده في شبه القارة الهندية. كان السفير السابق الدكتور غازي القصيبي (الوزير حالياً) أكثر إتقاناً ودراية لعقل الغرب ولغته بل ولغة العصر، فرغم حرصه على 'تلميع' صورة المملكة في الغرب الا أنه لم ينزلق الى مستوى الإسفاف في استعمال لغة دفاعية بالية ومستهلكة منذ زمن بعيد.

الأمير تركي الفيصل بتجربته الأمنية الطويلة والمهجوس بتورطه في دعم المتهمين في هجمات سبتمبر، يسعى الى قلب الصورة التي تكاد تفرض نفسها على الاعلام الغربي بكون السعودية أحد المراكز الكبرى لتصدير التطرف والإرهاب، وأنها البلد الأشد انغلاقاً على العالم الخارجي. هذه الصورة كان الأمير نفسه أحد المساهمين في رسمها عن بلده يوم كان يدير جهاز الاستخبارات الخارجية ويقدّم الدعم لجماعات أفغانية وعربية متشددة.

في سياق هذه الأجواء الملبّدة حول المملكة، يتصدى السفير والأمير تركي لترميم صورة بلاده. في تعقيب للأمير تركي على مداخلات مؤتمر 'السعودية والغرب: أثر 11 سبتمبر' الذي نظمه 'معهد الدراسات العربية والاسلامية' التابع لجامعة اكستر بجنوب غربي انجلترا بالتعاون مع وزارة التعليم السعودية في مارس الماضي جاء بأن 'المملكة صارت اكثر انفتاحا بعد أحداث الحادي عشر من سبتمبر (ايلول) 2001 التي دفعت الولايات المتحدة الى مزيد من الانغلاق على نفسها '. وحول الإصلاح السياسي زعم تركي بـ 'أن المملكة حريصة على اجراء اصلاحات ضرورية نابعة من الداخل' مشدداً على 'أن القيادة السعودية كانت دوما في مقدمة العاملين على تطبيق هذه الاصلاحات'. ثم عاد الأمير وكرر ما سبق وأشار اليه في ندوات سابقة بأن 'الاصلاح في المملكة ليس خياراً، بل ضرورة لا بد منها'. وأردف أن 'القيادة السعودية كانت دوما في طليعة الحريصين على إجراء هذا الاصلاح'.

كنا نتوقع بأن الأمير يملك حافظة قوية بما لا توقعه في تناقضات صريحة ليس بين ما قاله في هذه الندوة وندوة أخرى سابقة، بل يكاد يناقض نفسه في الندوة الواحدة. فالإصلاح السياسي في السعودية يخضع دائماً لشروط ومواصفات خاصة، ومع ذلك فهو ـ الاصلاح السياسي يمثل لدى الأمير ضرورة وليس خياراً، ويتم دائماً وفق إرادة عليا، وليس إرادة الشعب المعني بالإصلاح، ومع ذلك فإن القيادة السعودية أو بصورة دقيقة العائلة المالكة وعلى رأسها الملك هي دائماً مفتونة بالإصلاح.

ثمة ما يدفع لاستجلاء موقف الأمير تركي الفيصل من الاصلاح السياسي، خصوصاً وأن هذا المصطلح يخضع لتفسيرات مفتوحة قد تسهّل على الأمير كما العائلة المالكة الهروب من المسؤولية دون أن تخلّف وراءها دليل إدانة.

في 23 فبراير الماضي كان السفير الأمير على موعد مع الجمهور الغربي في مقابلة إذاعية مباشرة مع راديو بي بي سي وورلد سيرفيس. طرح المذيع في المحطة سؤالاً حول تصريح لأخيه الامير سعود الفيصل وزير الخارجية حول الديمقراطية وكونها غير متوائمة مع الاسلام، فأراد السفير الأمير توضيح مضمون التصريح المثير للجدل، فقدّم تفسيراً ساذجاً للتعارض الموهوم بين الديمقراطية والاسلام، حيث إعتبر بأن الديمقراطية تتعارض مع سيادة الله في الشريعة وهذا ما يجعلها بالضرورة متعارضة مع الاسلام. ولسنا بحاجة للقول بان هذه التوضيحات الساذجة تكشف عن أن الأمير مازال يتغذى على مواد ثقافية قد إنتهت صلاحيتها منذ زمن بعيد.

المثير للدهشة، أنه في إستبساله في التشديد على التعارض بين الاسلام والديمقراطية، تحدث مطوّلاً عن المسيرة الطويلة التي مرّ بها الغرب من زمن ماجنا كارتا حين رفع علية القوم في إنجلترا خطاباً الى الملك يدعوه فيه الى وضع صيغة متطورة للحكم تقلل من احتكارية السلطة في يد الملك وتفتح الطريق أمام أهل الرأي للمشاركة في القرار السياسي للدولة، وحتى الوصول الى الديمقراطية في زماننا الحاضر، تماماً كما هو حديث أخيه وزير الخارجية الامير سعود الفيصل عن تطور القوانين والممارسات في الولايات المتحدة قبل الوصول الى النموذج الحالي من الديمقراطية.

الغريب أن السفير الامير يغفل الفرق بين الرفض المبدئي والتطور الاجتماعي، فهو حين يتحدث عن الديمقراطية في سياق علاقتها المتنافرة مع الاسلام يشدد على التعارض المبدئي بينهما، ولكن حين يتحول النقاش الى إمكانية الوصول الى مرحلة الديمقراطية في بلده يشدد على ضرورة العبور بالمسار التاريخي الذي مرّ به الغرب. هذا الفشل في التفريق بين الرفض المبدئي والتطور الاجتماعي يكاد يعكس نفسه في مواقف الأمير من كافة الموضوعات المطروحة للنقاش. فحين يسأل عن حقوق المرأة يرمي باللائمة على التقاليد الاجتماعية ويبرىء ذمة الإسلام والعائلة المالكة والحكومة، أما بخصوص الديمقراطية فهو يتبنى موقفاً مضاداً بإسم الاسلام والعائلة المالكة. الغريب أن الأمير يرفض إقامة حكومة بديلة في العراق بناءً على أن شكل الحكم هو إختيار شعبي، في حين يدعو وزير الخارجية أو يزعم بأن بلاده لا تمانع من عراق ديمقراطي!

لقد ولّدت الإجابات المزدوجة في مسألة الديمقراطية والاسلام سؤالاً مفحماً أثاره المذيع أمام ضيفه السفير قائلاً: كيف تطالب الشعب العراقي بأن يختار حاكمه وأنت ترفض أن يختار الشعب في السعودية حكامهم فيما لو رفضوا العائلة المالكة، فقدم السفير الأمير إجابة في غاية الغرابة والسخرية، حيث قال بأنه قد حصل ورفض الشعب حاكمه في عام 1964 وأزال الملك واختار ملكاً آخر هو والده الملك فيصل. فقال المذيع بأن ما تم كان بقرار من العائلة المالكة، ولا دخل للناس في ذلك.

كانت إجابة السفير مخيّبة ومخالفة للياقة الذهنية وللتاريخ، فالتفسير الذي قدّمه حول عزل عمه لا يحتمل أكثر من معنى واحد، وتكاد المصادر التاريخية قاطبة والأمراء أنفسهم بما في ذلك عمه الأمير طلال بن عبد العزيز أحد أبطال تلك القصة على أن ما جرى كان خارج دائرة السكان، وكان محصوراً في داخل العائلة المالكة وحتى العلماء لم يتم إشراكهم في الصراع الا بما يقوّي جناح فيصل ضد أخيه الملك سعود، بإيعاز من بعض الأمراء.

لغة السفير الأمير الدفاعية تكاد تفقد توازنها في طريقة التعامل مع المسائل ذات الحساسية الخاصة سواء كانت سياسية أوحتى دينية. فقد سأله المذيع عن إمكانية بناء الكنائس في السعودية، أسوة ببناء المساجد في بلدان الغرب، وعن السبب في منع بناء كنائس للمسيحيين العاملين في السعودية، فلجأ الأمير الى أسلوب غريب في التبرير حيث قال بأن الخشية تكمن فيما سيقال في هذه الكنائس عن الاسلام والرسول () بناءً على حادثة منفردة وقعت في الولايات المتحدة بعد هجمات الحادي عشر من سبتمبر وتكشف عن رد فعل موتور من ضلوع أناس مسلمين في تلك الهجمة حيث وجّه أحد قساوسة الكنيسة في الولايات المتحدة هجوماً قاسياً على رسول الاسلام (ص) واصفاً إياه بالارهاب. وكان يفترض من الأمير أن يلوذ بلغة أخرى لأنه يعلم تماماً أن المؤسسة الدينية في بلده تتحمل جزءاً هاماً من المسؤولية عما قيل ويقال عن الاسلام بسبب السلوك المتشدد تجاه أتباع الأديان الأخرى.

لا يبدو أن لغة كهذه تبعث على التفاؤل في تطور خطاب سياسي سعودي يستلهم من إخفاقات الماضي ويتطلع الى وضع أسس جديدة للعلاقة ليس بين السعودية والغرب بل بين السلطة والناس الذين مازالوا يأملون بأن تستوعب الحكومة ما يدور حولها من تجارب إنقاذاً لمصيرها.

الصفحة السابقة