ورحل ماجد بن عبد العزيز

سيرة حياة أمير مختلف

لم يرثِ الحجازوين أميراً مثلما رثوا الأمير ماجد، ولم يسكبوا حبراً على ورق مثلما فعلوا في الصحافة المحلية. ولم نرَ تنوّعاً وتعدداً في الكتابات عن شخصية الأمير الراحل في تاريخ العائلة المالكة مثلما حدث الشهر الماضي حين جاء خبر وفاة الأمير. الكثيرون من الكارهين لنظام الأسرة المالكة ورجالها، لم يترددوا في كتابة مقالة أو إرسال تعزية وكأنهم يريدون أن يقولوا بأن هذا الرجل الأمير لم يكن شخصاً عادياً، أو أميراً من الأمراء الذين يعرفهم الناس ببطلان الفعل وسوء السريرة. لم يمنعهم كرههم لنظام الحكم من قول كلمة حق في رجل خدمهم وأخلص لوطنه وشعبه، وضحّى بمناصبه وامتيازاته ليكون قريباً من الناس، مدافعاً ـ قدر ما استطاع الدفاع ـ عن حقوقهم التي أضاعها أمراءٌ غيره.

الأمير ماجد كان يعني الشيء الكثير للحجاز وأهله، وللمملكة لو أراد الأمراء المستبدون بالحكم اليوم إعطاءه حقّه. كان نسخة مختلفة عن (كوم) الأمراء الذين نعرفهم من خلال لصوصياتهم وحرصهم على الإعلام وقول ما ليس فيهم. الأمير ماجد لم يكن عييّاً ولا مختالاً ولا متكبراً على بني قومه. لم يكن منافقاً ولا سارقاً ولا صامتاً عن الحق. لم يكن يعنيه من ملك آل سعود شيئاً إلا الحفاظ على وحدة المملكة، ورعاية خصوصيات شعبها المتنوعة، ومعالجة الأمور بالحكمة لا بفرق الجيش والأمن والقمع.

رنّة الأسى والحزن التي سكبها الحجازيون في مقالاتهم ومطولاتهم وبرقيات عزائهم لها ما يبررها، رغم أن الرجل مضى الى ربّه دون أن يكون لديه منصب .. مضى وهو غاضب على أوضاع المملكة وعلى من يدعون رعايتها، ومضى وهو مغضوب عليه أيضاً من كل أجنحة الحكم التي ما اتفقت على شيء سوى اتفاقها على إزاحته من موقعه. جهلاً منهم بقيمته ومكانته التي بناها في القلوب، وإزاحة لسدّ كان يقف لتعدياتهم بالمرصاد في أرض الإسلام وموئله.

لماذا كان كل ذلك؟ ومن هو هذا الرجل الأمير الراحل؟

لم يعرف المواطنون الأمير ماجد سوى أنه كان وزيراً للبلديات، وفي مطلع عام 1980 كلف وزير جديد، وتوارى الأمير الى الظلّ. قيل أنها كانت إقالة ارتبطت بتداعيات أحداث الحرم الشريف ومظاهرات المنطقة الشرقية، ولكن الأحداث كشفت فيما بعد أن الأمير ماجد استقال من منصبه كوزير للشؤون البلدية والقروية بعد أن أمضى في الوزارة نحو خمس سنوات (1975-1980) اعتراضاً منه على السرقات الكبيرة للأراضي الحكومية من قبل كبار الأمراء، وبالخصوص سلطان وفهد وأبنائهما، وهو أمرٌ لم يكن يقبل به، ولا أن يحمّل مسؤولية المساهمة فيه، أو في التقصير الكامن وراء الخدمات البلدية، والتي قيل انها كانت أحد أهم الأسباب التي أدّت الى تذمّر المواطنين في المنطقة الشرقية. قيل ـ حسب مصادر مطلعة مقربة من العائلة المالكة ـ أن ماجد احتدّ مع فهد وقال: (تريدونني في الوزارة مجرد مدير مكتب عقاري يتابع أملاككم ويخلّص إليكم الأراضي. هذا لن أقبل به).

استقال الأمير ماجد وقبل الملك خالد استقالته ولكنه حاول بعدئذ أن يجد لماجد موقعاً حكومياً يوازن به الأجنحة المتنافسة داخل العائلة. عُرضت على ماجد وزارة الصحة ليأخذ مكان الدكتور حسين الجزائري، فرفض، وسارع الى الملك خالد ليبلغه رفضه ويمنعه من التوقيع على المرسوم الملكي بذلك، وبعدها غادر ماجد الى جنيف وبقي لعدّة أشهر.

أقنع الملك خالد بعدئذ أخاه الأمير ماجد بأن يتولّى إمارة مكة المكرمة خلفاً للأمير فوّاز، وهكذا عاد ماجد أميراً لمكّة.. تلك العودة لم ينشرح لها صدر السديريين، وكانوا كثيراً ما يسخرون ممن يسمونه (الأمير السويسري) ملمحين الى حقيقة أن ماجد أمضى شطراً طويلاً من حياته مع عائلته في جنيف بعيداً عن أجواء الحكم، إضافة الى ما يكنّه السديريون من نظرة استخفاف دائم لكل إخوتهم الذين لا ينحدرون من أمهات (قبيلية) وبينهم ماجد وغيره، ويعتبرون أنفسهم ليس فقط أحق بالحكم، بل والإستحواذ عليه.

ربما كان من حسن حظ العائلة المالكة أن عُيّن ماجد أميراً لمكة، فقد كان الرأي عند الملك خالد وعدد من الأمراء، أنه الأقدر بين الأمراء على تفهّم عقلية (الحجازيين) فهو شخصية منفتحة، وقد طوّر صداقات عديدة وشخصية مع عدد كبير منهم، فضلاً من أنه ووالدته أمضيا من الوقت في الحجاز أكثر مما أمضياه في نجد نفسها (أمضى الأمير نحو 28 سنة من عمره في الحجاز)، وتصوّر هؤلاء أن ذلك التعيين سيقلّص من تذمّر الحجازيين الذين بدأ نجمهم بالأفول ومواقعهم للتصفية منذ مطلع الثمانينيات وحتى اليوم. لكن ما من أحدٍ توقّع أن يقلب الأمير ماجد وفي سنوات قليلة المزاج الشعبي خاصة في مكة لصالحه بسرعة غير عادية، وإن لم يخفف ذلك كثيراً من نقمة السكان على السديريين وعلى الحكم السعودي بشكل عام.

يقول بعض المكيين ممن عاصروا شطراً من حكم آل سعود، أنهم لم يعهدوا في تاريخ آل سعود أن تولى إمارة منطقة مكة أميرٌ مثله. ويشيرون الى العديد من القصص التي يحتفظون بها للأمير ويستدلّون بها على معدنه.. من بينها أن أعزّ أصدقائه الخاصين وهو السيد المرحوم عبد المنعم عقيل (ابوسعود) وهو حجازي توفي في مكة 1419هـ، كان (ياوراً) للملك سعود ثم أصبح رئيساً للمراسم الملكية ثم وكيلاً لوزارة الداخلية، وقد غضب عليه الملك فيصل باعتباره من أتباع الملك سعود فكان مصيره المنفى سنين طويلة كان الأمير ماجد يتواصل معه خلالها وكانا كثيراً ما يشاهدان معاً في الخارج. وما أن تولى الملك خالد الحكم بعد مقتل فيصل، حتى توسط لصديقه وتمكن من إعادته الى وطنه بعد طول منفى، وصحبه ماجد بنفسه على متن طائرة أقلّتهما معاً من بيروت الى جدّة.

ما أن حطّ الأمير رحاله في دار الإمارة، حتى فوجئ بقضية اعتقال أحد كبار شخصيات الحجاز، وهو المرحوم حسين جستنيه والذي كان يبلغ من العمر نحو 85 عاماً، والسبب كان تافهاً وإن كان عظيماً بنظر الوهابيين وعصبتهم وحلفائهم من الأمراء. السبب هو أن الرجل طبع كتاباً عن (المولد النبوي) في مكة، والإحتفال بالمولد الشريف أو الدعوة له أو تأييده، شرك بنظر جهلة الوهابيين. لم يشفع لجستنيه دوره الكبير ونشاطه الدائب لسنوات طويلة في ديوان (النيابة العامة) في الحجاز بعد احتلاله، حين قرر الوهابيون اعتقاله. استثير الحجازيون غضباً وحنقاً من صدمة اعتقال جستنيه، وكانت لماجد وقفة غضب فأمر بإطلاق سراحه فوراً، وقال قولته المشهورة لمدير عام مباحث المملكة (عبد العزيز المسعود): (إنكم باعتقال الرجل تؤكدون أن: الملوك إذا دخلوا قرية أفسدوها وجعلوا أعزّة أهلها أذلّة).

بحكم تربيته وبقائه خارج المملكة مدداً طويلة، تحرّر الأمير ماجد من النزعة النجديّة التسلّطية، ورأى أن الحجاز أكبر من أن تهضمه المعدة النجدية وتذوّبه في ثقافتها الخاصة، وتبعاً لذلك ـ وخلافاً لرأي معظم أفراد الأسرة الحاكمة ـ رأى أن بقاء الأسرة السعودية حاكمة مسيطرة لن يكون مضموناً إلا بخروجها عن التأطير المناطقي والقبلي والطائفي، أي تكون فوق التقسيمات، لا أن تنشدّ إليها أو تتحيّز لأحدها، فهنالك يكمن مقتلها. وقد عبر عن هذا الرأي مراراً وتكراراً في مجالسة وفي كلمات نشرتها الصحف السعودية في المناسبات.

ففي الاحتفالات المئوية لتأسيس المملكة، أشار ماجد الى أن البلاد تدخل مرحلة 'الكشف العام، لسحب جيوب الترهل... وقطع الزوائد المرضية... حتى يستعيد الجسم حيويته وترتد على الأمة صحتها'. وحذّر من أن 'الكيانات تزول إذا اعتراها ما يعتري الأمم وأنظمتها التي زالت' ملمحاً الى إمكانية زوال المملكة كنظام سياسي إذا استمر الفساد ينخر فيها واذا ما استمرت الفوارق بين السكان، وقال أن العبرة 'أن لا نرتد الى الجهالة التي حاربها (المؤسس) والعصبية التي قضى عليها.. فلا نرتد الى القبلية والجهوية والعنصرية'. وشدّد على ضرورة 'أن يصهر جميع السكان بنسيج جديد يقوم على نظام الأمّة الواحدة في الدولة الموحدة الواحدة، المواطنون فيها سواسية'.

هذا الوضوح وتلك الصراحة سببت لماجد الكثير من المتاعب، خاصة وأنها جاءت من داخل البيت خشية أن يقع على أصحابه، ويكون الخاسر الأكبر الأمراء أنفسهم، مع أنهم كانوا أكثر المتضايقين من الشفافية المحدودة التي نطق بها الأمير. في الوقت الذي لقت فيه مثل هذه الآراء ارتياحاً كبيراً لدى قطاع واسع ممن يقرأ بين السطور، كان آل فهد والمنتفعون (البرامكة) يرون أن الحجازيين قد سيطروا على الأمير ماجد فجعلوه يهوّل الأمور، ويكشف بعض المستور الى العلن عبر الحلقات الخاصة، مما ينذر بتذرّر هيبة السديريين الذين أشاعوا الفساد في كل ركن امتدت اليه أيديهم.

فإمارة منطقة مكة كانت دوماً تفتح شهيّة الأمراء الكبار والصغار على حد سواء، فهي مركز تجاري وديني غير عادي، نظراً لاستقطابها مشاريع الإعمار والتجارة المترافقة مع استمرار توافد الحجاج والمعتمرين. وإذا كانت المناطق التي أدنى منها شأناً قد سُرقت أراضيها ونهبت مشاريعها، فما عسى أولئك أن يفعلوا بمكة وأهل مكّة؟.

كان الأمير ماجد يعلم أن من الصعب عليه قطع يد الملك فهد وأبنائه وإخوته، وخاصة نايف وسلطان، من الإعتداء على المال العام ومصادرة الأراضي وفرض (الخوّة!) والشراكة على تجار الحجاز، بل والتعدّي على الأملاك الخاصة للمواطنين، كما هو دأبهم في كل منطقة. لكنه رأى أن يدفع الضرر عن المواطنين قدر استطاعته، وحاول وقف التعديات، مما أثار غضب السديريين عليه، فسعوا للتخلص منه، مع أنه لم يستطع إلا دفع القليل من الضرر، بحكم صلاحياته القليلة خارج نطاق الأمن.

ومثلما ترفّع على العصبيات القبلية والمناطقية والمذهبية، لم ينجر ماجد الى الفساد، ولم يمد يده الى المال العام. كان في حياته العامّة شديد الإلتزام بدوام العمل، والتزامه بالمواعيد كان دقيقاً خلاف أكثر الأمراء. فهو ينام باكراً (الحادية عشرة والنصف) وبعد صلاة الفجر وممارسة الرياضة، يتناول إفطاره في الغالب مع قيادات أمنية ومدنية في المنطقة إضافة الى كبار الشخصيات، وأفراد من عامة الشعب حيث المجلس مفتوحاً، ثم يغادر منزله الى مكتبه الذي يصله في الثامنة والنصف (يمضي ماجد في مكتبه بمكة يومين، وثلاثة أيام في جدّة). بعد الصلاة والغذاء في منزله يستقبل الوجهاء، وبعد العصر يكون مجلسه في منزله مفتوحاً لعامة الناس حتى صلاة المغرب، ثم ينزل الى المجلس الكبير ويستقبل الناس الى صلاة العشاء، حيث يصلي جماعة مع الموجودين ويتناول معهم وجبة العشاء.

وفي حدود الساعة العاشرة ينتهي يومه ويدخل الى أهله. وفي حال أقامت والدته عنده في جدّة أو في مكّة، فإنه يغادر قبل العشاء لزيارتها كلّ ليلة، فقد كان بارّاً بها الى أن توفيت. وكانت هذه الأمّ تشعر براحة كبيرة في الحجاز، وتقضي وقتاً طويلاً في ربوعه الطاهرة، ومما ضاعف تعلّقها بالحجاز ربما، نظرة الإحتقار والإزدراء التي تلقاها على أُسس عنصريّة بين جنبات القصور الملكية في الرياض.

في الجملة، فقد كان الأمير ماجد في علاقته مع عامة الحجازيين متحللاً من الرسميات، بل ومن الزيّ الرسمي (العقال والمشلح). كان لا يُدعى إلاّ ويقبل الدعوة (حفلات الزواج والتكريم)، وفي حال الوفاة أو المرض فإنه يبعث برقيات إذا كان الموقع بعيداً خارج الإمارة، وإلاّ ذهب بنفسه. وطوّر الأمير علاقة خاصة مع كبار السنّ الذين يتوافدون على مجلسه وكان يناديهم يا عم فلان، ويلاطفهم بل ويزور بعضهم في منازلهم. لمثل هذه الأمور كان وجوده كأمير لمكة يعني الكثير بالنسبة للحجازيين، وكانت الإطاحة به وتولية غيره ومن ثم وفاته صدمة وعودة الى النمط القديم في التعامل مع الشأن والشعب الحجازيين (علاقة المحتل برعاياه).

أدرك الأمير ماجد بأن أمراء المناطق ليس فقط من العائلة المالكة، بل وجد أن الطاقم الأمني القابض عليها يأتي في الغالب من نجد، أي أن أمير المنطقة يأتي بطاقم موظفيه ممن تعدّهم وزارة الداخلية. وهذا ما يجعل كل إمارة قلعة معزولة عن الجمهور، لا تفهمه ولا تعرف عقليته وبالتالي فتعاطيها معه يكون خاطئاً ومدمراً. وعليه تصوّر أنه لكي ينجح في مهمته في وظيفة يتعاطى فيها مباشرة مع الناس، أن يكون لأهل المنطقة دوراً يلعبونه، خاصة وأن هناك عشرات المسائل لا تفيد فيها القبضة الأمنية أو الضرب بيد من حديد كما يحب نايف أن يكرر، بل تتطلب نمطاً خاصاً من العلاقات تكون فيه الإمارة قادرة على لعب دور الوسيط ـ تماماً مثلما هو مفترض في الدولة ـ بين المجاميع السكانية.

بالنسبة لآل سعود والنخب النجدية الدينية ومن يتلفعون باللبرالية، فإنهم عادة ما ينظرون الى إمارات المناطق كرأس حربة للإحتلال النجدي، وفي كثير من الأحيان تتظافر العوامل لتجعل من الصورة تأخذ رسماً وطابعاً احتلالياً واضحاً. فالأمير ووكيله ونائبه ومسؤولو الجهاز الخاص، وقائد الشرطة في المنطقة ورئيس مباحثها، ومديرو الوزارات أو أكثرهم هم من النجديين، أو من خارج المنطقة عموماً.

الأمير ماجد رأى أن نجاحه في إدارة الإمارة يتحدد من خلال أمرين:

الأول: تحقيق المستطاع من رضا الناس، من خلال بذل الجهد لمكافحة التسيّب الأمني، وبأقل قدرٍ مستطاع من استخدام القوة، ودفع المظالم التي يمكن للإمارة أن تساهم فيها، خاصة تلك الآتية من الأمراء الصغار والكبار، الذين يبعثون بوكلائهم للمنطقة من أجل البحث عن أراض تُسرق، وتجّار تُفرض عليهم الخوّة أو الشراكة بدون مقابل.

الثاني: لتحقيق نجاح في هذا الإتجاه يمنع حدوث المزيد من التدهور والسخط الشعبي، لا بدّ من تعيين كفاءة أو كفاءات حجازيّة في موقع المسؤولية، لأنهم سيكونوا أكثر إخلاصاً وغيرة على أهليهم ومنطقتهم. فضلاً عن أنهم كما يقول المثل: أهل مكّة أدرى بشعابها.

وفق هذه الرؤية طلب ماجد تعيين الدكتور ربيع الدحلان كمساعد لوكيل إمارة منطقة مكة المكرمة، ثم كتب الى الملك من أجل تعيينه وكيلاً له بعد أن رأى مثابرته واجتهاده وإخلاصه. والدكتور الدحلان من وجهة نظر ماجد يحمل صفتين أساسيتين: أولاً الكفاءة، وثانياً انتماءه لعائلة مرموقة بين المكيين والحجازيين بشكل عام، مما سيترك أثراً كبيراً في نفوس الأهالي.

لكن هذا التعيين الذي جاء بإصرار من الأمير ماجد لم يكن يخلو من فائدة لآل سعود، لكن الجناح النجدي المتطرف والعنصري اعتبر الأمر اقتحاماً لفضائه الخاص، ومكافأة لأعداء (الوهابية) أو من اشتهرت عائلاتهم بذلك، بالمناصب بدل عزلهم، وهو أمر غير مقبول. فالصراع النجدي الحجازي ـ من وجهة نظر هؤلاء ـ يجب أن لا ينتهي، وأن الغنيمة من حق النجدي المنتصر، حتى وإن قامت الدولة أو كان على حساب وجودها.

بتعيين الدحلان فُتح باب جديد لم يكن بالحسبان أيضاً. فنائب ماجد، الأمير سعود بن عبد المحسن، لم يعجبه تصرّف عمّه، وأزعجته الثقة المتزايدة التي أولاها لوكيله، وبدا كما لو كان قد هُمّش، في موقع يعلم أنه من حيث الكفاءة لا يستطيع أن يقدم شيئاً كثيراً بالمقارنة مع خبرات وكفاءات الدحلان. ومع الوقت بدا التضايق يشتدّ لدى الأمير سعود، وأخذ يعبّر عن ذلك بتعطيل بعض القرارات، وبكثير من المماحكات، ثم أخذ يتسقّط أخبار الدحلان وعلاقته بالأمير والتي وصلت الى حدّ الإنسجام، ومرافقته في أسفاره، وائتمانه على أهم أسراره وهو مرضه (الخطير) الذي أفضى الى موته لاحقاً. أكثر من هذا فقد كان الدحلان يرافقه في المستشفى، ويقدم اليه التقارير ويطلعه على الأمور ليبت فيها. وكلّما رأى ماجد تفانياً من الدحلان، ازداد ثقة به، وكثر الأعداء داخل الإمارة بين النجديين والنفعيين.

وبسبب هذه الأجواء، قدّم د. الدحلان استقالته أكثر من مرّة، وفي كل مرّة يرفض الأمير ذلك، وفي بعض الأحيان، كما ينقل خويا الأمير، يجتمع مع نائبه سعود، ويوبّخه وينتقده على سوء معاملته للوكيل، ويطالبه بتغليب المصالح العامة وعدم توتير الوضع داخل الإمارة. ولذا أخذ سعود يشيع بأن ماجد مجرد أمير صوري، والصحيح أن منصب نائب أمير المنطقة أصبح صورياً، وتضاعف حنقه حين وقف د. الدحلان في وجه اعتداءاته خاصة الإستحواذ على بعض الأوقاف في مكة مثل وقف (آل العلوي).

أما الأمراء الكبار (سلطان ونايف خاصة) فقد وجدوا في مشاركة ربيع الدحلان للأمير ماجد التطلعات والهموم، عقبة تحول دون إطلاق اليد، ويمكن تلخيص كره هؤلاء للأمير ماجد بشكل موجز في التالي:

1 ـ النظرة العنصرية لدى السديريين، والتي ترى فوارق كبيرة بين أبناء عبد العزيز على أساس أمهاتهم. فماجد وشقيقه سطام، كما طلال وشقيقه نوّاف وغيرهم، هم ـ حسب تعبير السديريين ـ 'أولاد جواري'.

2 ـ انحياز الأمير ماجد التقليدي لجناح الأمير عبد الله، رغم أن الدائرة البرمكية لم تقدر ذلك، فهي في روحها وعقليتها أقرب الى السديريين من جهة التعصّب غير الحكيم لكلّ من هبّ ودبّ.

3 ـ طغيان شعبية ماجد في الحجاز على شعبية بقية الأمراء بمن فيهم الملك، فقد كان يودّع ويستقبل استقبال الملوك، وأضحى بيته مزاراً لا يفرق الناس بينه وبين مكتبه.

4 ـ نزعة التسلّط لدى السديريين، وعدم تحمّلهم لمن يخالفهم الرأي، وهذا ما جعلهم يتجاوزون الأمير ماجد بالإتصال مباشرة بموظفين من الدرجة الثانية والثالثة في الإمارة، وبتسهيل من الأمير سعود بن عبد المحسن نائب أمير منطقة مكة، لتمضية ما يريدون من أمور مخالفة للذوق والقانون.

5 ـ فضحه للتجاوزات والنهب الذي كان الأمراء يقومون به، خاصة فيما يتعلق بالأراضي والأوقاف، ووقوفه ضدّها في مراسلات واضحة.

وبناءً على ذلك، حاول السديريون 'تطفيش' ماجد من الإمارة، لأنّ إزالته ضمن موازين أجنحة الحكم كان صعباً، وتمنّوا لو قام ماجد بتقديم استقالته، أو التخفيف عن نفسه بإقالة وكيله الذي أصبح رأسه مطلوباً عند عدد من الأمراء، خاصة وأنّهم كانوا ينظرون إليه كرأس حربة للأمير ماجد، ومصدر قوّته في إدارة المنطقة، والشخصية (العقبة) التي بإزاحتها يخلو لهم الجوّ، ويتّسع فضاء الفساد والإفساد.

ربما شعر الوكيل بهذا الضغط، ففضل أكثر من مرة تقديم الإستقالة، ولكن الأمير في كل مرّة يرفض الأمر رفضاً قاطعاً. وأخذ ضغط السديريين على الأمير ماجد صورة واضحة وإن لم يظهر بشكل تحدّ مباشر، وذلك من خلال تقليص الميزانيات التي تهتم بالمشاريع والخدمات لسكان الحجاز، أملاً أن ينجم عن ذلك سخط شعبي ضد الأمير يكون مبرراً لإزاحته.

وبالفعل، تقدّم ماجد بخطاب استقالته، مبدياً زهده في المنصب، وكان بإمكان الملك فهد قبول الإستقالة، ولكنه وجدها 'استقالة ساخط محتجّ' لا استقالة زاهدٍ من الإمارة، أو متعبٍ من العمل، أو مريضٍ غير قادر على القيام بمهامه، الأمر الذي خشي الملك أن تكون الإستقالة الإحتجاجية نذير شؤم قد تؤدي الى توتير الأجواء داخل العائلة المالكة، خاصة وأن ولي العهد سينظر الى الإستقالة الظاهرية كـ'إقالة' فعليّة تستهدف إضعاف جناحه من قبل السديريين.

تقدّم الأمير ماجد بخطاب استقالته أول مرّة في عام 1416هـ، فطلب منه الملك فهد أن يواصل مدّة عام، ثم عاد وتقدّم باستقالته عام 1417هـ، ولكن يبدو أن الملك قد أصابته جلطة بعدئذ بفترة قصيرة ويحتمل أن يكون الأمير عبد الله وراء الرفض. ويوضح الأمير ماجد سبب استقالته في أول فقرة من خطاب استقالته عام 1417هـ على النحو التالي: 'من واقع الأمانة الملقاة على عنقي في هذه المنطقة الهامة... فقد سبق أن أبديت لمقامكم الكريم بأن وضعي أصبح محرجاً للغاية بالنسبة لي في ظل عجز جهاز الإمارة عن القيام بالواجبات والمهام الأساسية المناطة به نتيجة لقصور إمكانياته المادية والبشرية واستمرار عدم استجابة جهات الإختصاص لاحتياجات الإمارة الضرورية التي ترفع سنوياً في مشاريع الميزانية'.

ويضيف ماجد بأنه كان المستهدف من تقليص الإمكانات 'إنني لاحظت أن مشاريع المنطقة في أغلب القطاعات لا تحظى من الجهات المعنية بالإهتمام المطلوب لتحقيقها ومتابعتها، وكأنّ ذلك أمرٌ متعمّد قُصد به شخصي، وهذا أمرٌ لا تقبلونه حفظكم الله وأنا كذلك لا أقبله على نفسي أمام تساؤلات مواطني المنطقة'.

والخلاصة التي يريد الوصول اليها الأمير، هي: 'إنني أعتقد أن وجودي على رأس المسؤولية في المنطقة هو العائق في نظر البعض لتحقيق ما هو مأمول للمنطقة. ولإتاحة الفرصة لهذه المنطقة من بلادنا العزيزة لتحظى بما تستحقه من دعم لإمكانياتها ومشاريعها، فإنني أرجو تفضّلكم بالموافقة على استقالتي'. وبعد عامين قدّم الدكتور الدحلان استقالته للأمير ماجد، لشعوره بأن وجوده هو الآخر غير مرغوب فيه لدى جهات معيّنة واحتجاجاً على 'ما فاض الكيل من تكراره من معاناة إمارة منطقة مكة المكرمة من إهمال وتجاهل وزارة المالية لاحتياجاتها الأساسية طوال السنوات العشر الماضية، وهو تجاهل لا يتناسب بأي صورة من الصور مع ما لهذه البلاد من قيمة ومكانة'. وحسب رسالة استقالة الدحلان فقد 'كانت تجربة ميزانية الإمارة في السنوات العشر الماضية أقسى التجارب التي مرّت عليّ في حياتي، فقد رأيت كيف تتجاهل وزارة المالية حقيقة الشمس الساطعة في رابعة النهار من احتياجات الإمارة حتى اندفعت للتشاؤم بأن سبب موقف الوزارة هو حجب النجاح عن شباب الوطن المتحمّس لخدمة أقدس بقعة على وجه الأرض.. ولقد رأيتم سموكم كذلك كيف أن ميزانية الإمارة التي كانت تشكو من العجز الكبير، نثر على جراحها الملح بتخفيض جميع بنودها عام 1412هـ وتخفيض بند المشاريع فيها خاصة بنسبة 90% وكيف أنه طوال الخطة الخمسية الخامسة لم يعتمد من الوظائف سوى (3) كلها خارج الهيئة، ولم يبق مسؤول في الدولة عرف ما تعاني منه الإمارة إلا وانضمّ الى الحازنين على حالها وأوضاعها والمستغربين لتجاهل مطالبها الأساسية'.

وبعد أن يشير الى أن سياسة وزارة المالية تجاه منطقة مكة المكرمة أصبحت وكأنها سياسة ثابتة، تساءل عن السبب وراء ذلك 'وكنتُ أُغالط نفسي وأقنعها بشتى الحجج بأن هذا الموقف عارض أو مؤقت سرعان ما سيتغير.. لكن استمراره أزال الشك عندي وحلّ محلّه يقين بأن هناك من لا يريد لمنطقة مكة المكرمة أن تأخذ مكانها الطبيعي الذي وضعها الله فيه'. هنا تأكد للدكتور ربيع الدحلان أن هناك إضافة الى وجود منزعجين من إنجازاته، مناطقيون عنصريون يكرهون مكة وأهلها، وهم الممسكون بزمام الأمور المالية، والذين يعتبرون أنفسهم 'أقدر على تحقيق أهدافهم ضد أهدافكم وهدف كل مخلص، وهم أقدر على الإفصاح عن وجههم القبيح وتنفيذ ما يريدون في وضح النهار' حسب تعبيره.

ويقول الدحلان أنه 'أمام حائط سميك لا يمكن اختراقه' وأن الوضع 'يوشك أن يشلّ عندي القدرة على الإستمرار في العمل'. ثم يبشّر الأمير ماجد، بأنه توصل للإجابة على تساؤلاته عن سرّ إهمال وحرمان المنطقة! 'ربما أكون توصلت الى الإجابة... هل تعامل منطقة مكة المكرمة بهذه المعاملة لأن مثلي تولى فيها هذا المنصب؟ هذا سؤال أجده مشروعاً.. وسأتعامل معه إيجابياً إذا كان ذلك يخدم المنطقة وفك الحصار الوظيفي والمالي عنها.. ولذلك أقدّم لسموّكم طلبي بإحالتي على التقاعد، وأترك تنفيذ ذلك بين يدي سموكم الكريم في الوقت الذي ترونه مناسباً'.

لم يهدأ بال السديريين، وراحوا يبحثون عن ثغرة يطيحون فيها بالأمير ماجد من خلال ضرب وكيله وإجباره على الإستقالة. وقد تمّ توثيق مؤامرات الجناح السديري (نايف وسلطان بوجه خاص) في كتاب صدر مؤخراً وحمل إسم: محنة القضاء السعودي. لقد دبرت مؤامرة ضد ماجد وربيع دحلان شارك فيها سعود بن عبد المحسن آل سعود، والقاضي حسين حكمي، ومن ورائهما وزير الداخلية، انتهت باعتقال ربيع دحلان لمدة أربعة أشهر وإحالته على التقاعد، فما كان من ماجد إلا أن قدّم استقالته احتجاجاً وسافر خارج المملكة، وبقي ساخطاً خلال السنوات الثلاث الأخيرة حتى وافته المنية بسبب مرض تليّف الكبد.

ورغم أن الإطاحة بالأمير ماجد عبر اقتلاع وكيله، هدفاً سديرياً واضحاً، ورغم أن ماجد يدفع ثمن انحيازه لولي العهد، إلاّ أن الأخير، والذي سلّم زمام أموره للبرامكة (التويجري وأبنائه) لم يكن يفقه أصول اللعبة التي يديرها منافسوه، ولم يعط القضية أهميّة كبيرة، وأوكل للبرامكة كما هي العادة حلحلتها.

وهذه إحدى نقاط ضعف الأمير عبد الله الرئيسية، فهو أسيرٌ لمستشارين عنصريين، وأصحاب مصالح تتقاطع بشكل قوي مع السديريين الذين أرادوا بضرب الدحلان القول للمواطنين وللمسؤولين الكبار في أجهزة الدولة، بأنهم هم وحدهم الذين يديرون المملكة، وأن من لا يحمونه هم، لا يستطيع عبد الله ولي العهد أن يحميه، فهم الدولة وكل شيء فيها.

هذه الرسالة لم يفهمها ولي العهد ولا مستشاروه البرامكة. ومشكلة ولي العهد أن البرامكة هؤلاء شديدي العداء لكلّ شيء له علاقة بالحجاز، وتاريخ الحجاز، وأهل الحجاز.. ولعلّ قراءة لكتاب التويجري الأب: لسراة الليل هتف الصباح، توضّح هذه النزعة البغيضة، والتحيّز والكذب على التاريخ وابتسار النصوص واقتطاعها من أصولها، ووضع كلّ مذمّة في الحجازيين وقادتهم وتنزيه آل سعود من كل عيب.

وبسبب هذه النزعة النجديّة البغيضة، كان لا بدّ وأن يلتقي عبد الله ـ بجهله ـ مع السديريين في ضرب ماجد واعتقال وكيل الإمارة د. ربيع دحلان. ولأن الموضوع شأن عائلي، كان على البرامكة إقناع إبن عبد الله، وهو عبد العزيز الذي تعيّن بعد أن أبعد البرامكة أخاه خالد من الحرس الوطني، بأن يصطفّ الجميع ضد الدحلان، رغم أن النتائج ليست في صالح ولي العهد، وهي تؤدي الى ضعف تسويقه شعبياً في الحجاز كما هو واضح الآن.

إن وجود ماجد في الحجاز نقطة قوة لجناح عبد الله، ولا يُنسى هنا أن ضرب ماجد قد حُسم نهائياً في شهر صفر 1419هـ حين زار ولي العهد مكة المكرمة والتقى جموع المواطنين في عرفات، بلغت أعدادهم نحو 700 ألف شخص من الحاضرة والبادية، كلّهم جاؤوا لتحيته، وكان احتفاؤهم به إكراماً وتقديراً وحبّاً للأمير ماجد نفسه، واعتبر الإحتفال بمثابة بيعة لولي العهد. فقد كان الحفل مميزاً بكل المعاني، فأضيئت مكة كلها، واستقبل ولي العهد في الحرم المكي شعبياً، وحوى خطاب الأهالي مديحاً لعبدالله، ولماجد أمير مكة، الذي لقب بالأمير المحبوب. بيد أن كلمة الأمير ماجد في ذلك الحفل بالذات لم يهضمها السديريون. فقد امتدح فيها ولي العهد وأطنب في المديح، وعدد خصاله وسجاياه على نحو فُهم أنه تعريض بمنافسيه.

وهكذا..

غادر ماجد الحياة محبوباً ومظلوماً.. غادرها والمملكة على شفى جرف هار تكاد تسقط في مطبات التقسيم، أو تتناهش ما تبقى لها من خيرات قوى دولية. غادرها والمملكة اليوم تواجه أعظم أزمة مرّت بها في تاريخها الحديث، وبقيادة مصابة بالجلطة مخرّفة، وأخرى ضعيفة، وثالثة مغرورة بسلطان قوة الأمن والإستخبارات. لا تقيم للمواطنين شأناً، وغير قادرة على حل أيّ أزمة، بل تخلق أزمة أثر أخرى.

مات ماجد مأسوفاً عليه، وحقّ للوطن أن يأسف!

الصفحة السابقة