ماذا بقي بعدُ للبيع والتنازل؟

باع الأمراء السعوديون وتنازلوا عن أشياء وأشياء كثيرة، بعض ما بيع يصبّ في خانة الخيانة الوطنيّة. فمن وضع القواعد العسكرية تحت خدمة الأميركيين، الى شراء الأسلحة دونما حاجة أو قدرة على استخدامها، ووضع الأرصدة الوطنية في الخزانة الأميركية، ومجارات أميركا في سياساتها الكونية ضد كل ثورة وانتفاضة بحجة الشيوعية أو الثورية، وتمويل عمليات المخابرات الأميركية، وتدمير أسعار النفط الذي لم يهد أسس الإقتصاد السعودي منذ منتصف الثمانينات الميلادية فحسب، بل ودمّر ثروات هائلة للدول المصدرة للنفط في لعبة مكشوفة وثّقت ونشرت وبيّنت أن الملك فهد كان (الفتى الغبي) الذي ضحك عليه بوش الأب. وزيادة على هذا، ساهم السعوديون في حروب المنطقة جميعاً، عدا تلك الحروب التي ضد إسرائيل، وسكتوا عن تجاوزاتها، وسيطرتها على جزر سعودية منذ عام 1967 وهي جزر صنافير.

السعوديون منحوا الأميركيين كل شيء تقريباً.. لم يخذلوهم في أمر. ولكن الأميركيين لم يقدروا ما فعله آل سعود لهم، الذين أعطوا كل شيء تقريباً، بمجرد أن وقعت أحداث نيويورك. ورغم صدمة آل سعود بالحدث، إلاّ أنّهم استمروا في نفس المنهج، وراحوا يبيعون أوراقاً لم يجرأوا في السابق على السمسرة العلنية بشأنها، فكانت مبادرة ولي العهد السعودي بشأن التطبيع مع إسرائيل، والتي كان الغرض منها امتصاص الضغوط السياسية والإعلامية الأميركية.

وحتى مع الهجوم على العراق، ورغم أن آل سعود يدركون أن الدور قد يأتي عليهم، مضوا في تقديم كل شيء لصالح الولايات المتحدة، ووفروا لها ما تريده استحقوا عليه الشكر العلني الذي عبر عنه بوش الإبن. لكن رغم كل ما فعلوه ويفعلونه، رغم كل ما أنفقوه على أميركا وينفقونه الى حد أن المساعدات السعودية كانت تخضع للحسابات الأميركية، ورغم الإستعداد التام لمواصلة المشوار، إلا أن أميركا الجديدة تقول لحلفائها الأمراء: نعم لقد فعلتم ما بوسعكم، وقدمتم خدماتكم لنا، والآن لا نحتاج إليكم ولا إلى خدماتكم، أو أن حاجتنا إليكم صارت قليلة، وهناك آخرون يقومون بالمهمّة بأفضل منكم!

السعوديون الذين نصحهم جيمس أيكنز ـ السفير الأميركي السابق في الرياض ـ بأن يدركوا أن ليس في السياسة صداقات دائمة، أعادوا عليه القول بأن المصالح الدائمة للولايات المتحدة في السعودية تكون ببقاء الأسرة المالكة، فهم صمام حمايتها، وفي هذا لم يشاطرهم الرأي. قال لهم: أنصحكم كصديق أن تبحثوا عن وسائل أخرى توفرون بها الحماية لكم، لأن الجوّ السياسي هنا في واشنطن لا يخدمكم!

ومرة أخرى لم يفهم رموز النظام، ولا يريدون أن يفهموا أو يصدقوا، بأن (الماما) أميركا تتخلّى عنهم كما تخلّت عن نظرائهم وأشباههم واعتبرتهم مجرد أعقاب سجائر.

وبدأوا يفتّشون في الأوراق من جديد، عن غنيمة أو مكسب أو أي دور يمكنهم أن يفعلوه (تملّقاً) لعتاة اليمين في واشنطن. ومرة أخرى لم يجدوا سوى القضية الفلسطينية ليتاجروا فيها، وهم ـ وبالنظر الى ما تفعله القاهرة ـ يريدون أن يقحموا أنفسهم على الفلسطينيين، ويتبرعون لدى لندن وغيرها بالضغط عليهم لكي يقبلوا شروط السلام ويعملوا وفق متطلبات خارطة الطريق وأكثر أيضاً.

ورغم أن آل سعود قدّموا تنازلات نفطية ضخمة وجديدة ـ كما تقول معلومات خاصة ـ للشركات التي انسحبت من السعودية، بغية إعادتها مرة أخرى لتستمر في الإستثمار، لكن تلك الشركات لم ترد حتى الآن رغم الإغراءات. فالقضية بالنسبة للطرفين دخلت عمق الموضوع السياسي. الأمراء لا يهمهم الآن حجم الأرباح أو قدر النجاح الإقتصادي المحتمل، بقدر ما يريدون أن يتأكدوا بأن عودة الشركات هي عودة سياسية تحوي قدراً من الرضا الأميركي، وتدفع بتلك الشركات للدفاع عن العائلة المالكة في أروقة صناع السياسة الأميركيين.

لكننا نعلم أن شركات النفط الكبرى لا تقحم نفسها في المغامرات، وهي لا تتحرك إلا بإرشادات سياسية واضحة من البيت الأبيض. الأمراء الكبار قرأوا موضوع خروج القوات الأميركية من السعودية وكذلك خروج شركات النفط وعدم الإستثمار فيها على أنه دليل واضح على أفول العلاقات الإستثنائية مع أميركا.

لربما ـ حين تضيق بآل سعود الدائرة ـ يبيعون الوهّابية التي هي الرصيد النهائي، وهم لا يهمهم دين، ولا قضية وطنية، وسيستثمرون الوهابية في الدفاع عن أنفسهم، وإن لزم الأمر باعوا قضية الوهابية لكي ينجوا بأنفسهم ويبقون على رأس السلطة.

لا ننس هنا أن واشنطن تريد إنفكاكاً بين العائلة المالكة والوهابية المتطرّفة، وهذا الإنفكاك قد يقتل الإثنين، وقد يحييهما معاً، ويرشدهما معاً.

ولربما ـ أيضاً ـ وفي سبيل تحقيق الرضا الأميركي، أو إبعاد أذاه، نسمع في الغد فتح سفارة لتل أبيب في الرياض، أو التعامل الإقتصادي المباشر معها، وليس عبر الأردن والوسطاء الأوروبيين كما هو حاصل اليوم!

أمام هذه التنازلات التي وقعت والمحتملة، لم يسأل الأمراء السعوديون أنفسهم:

ولماذا لا نقدم تنازلات لشعبنا، ونعمل على إرضائه، ونحمي أنفسنا به، ونتحصّن بدعمه؟

هذا السؤال لا يأتي على بالهم لأنهم ـ حتى الآن ـ يرون أنفسهم نقيضاً للشعب، كل الشعب، ومن هو هذا الشعب حتى يتنازلوا إليه ويعطونه شيئاً من حريته؟! إن أبناء الشعب ـ بنظر العائلة المالكة ـ مجرد عوام، همج رعاع، لا يستحقون سوى العصا لحكمهم كما قال مؤسس الدولة، وإذا كان لا بدّ من تنازل فليكن للسادة هناك في الغرب. أما الرعاع فمصيرهم أن يُحكموا ويُضربوا!

من يدري: قد نشهد يوماً نرى فيه هذا الشعب المهان وهو يطيح بصروح الطغيان، فهو ليس أقلّ شأناً من شعوب أخرى أُهدرت كرامتها ونهبت خيراتها، ولكنها قاومت وانتصرت.

الصفحة السابقة