حملة العلاقات العامة أخفت أعشاش العنف

تفجيرات الرياض ورسالة القاعدة

التفجيرات الانتحارية في الرياض في الثاني عشر من مايو الماضي، والتي خلّفت عشرات القتلى والجرحى، لم تكن مفاجئة، فكل التوقعات الرسمية والشعبية تجمع على أن ثمة عملاً انفجارياً وبحجم كبير سيقع في هذه الديار. وأن ثمة بالتحديد دليلاً متراكماً على أن تنظيم القاعدة كان يعد لهجوم واسع النطاق ضد المصالح والغربية في السعودية، بعد أن أصبحت الأخيرة إحدى المناطق المستهدفة من قبل التنظيم بكونها ملجئاً له بعد الانتصار العسكري الأميركي على طالبان في أفغانستان.

فقد تحوّلت الجبال في منطقة الجنوب الغربي من السعودية أي بالقرب من الحدود الشمالية لليمن مخبئاً مثالياً بالنسبة لأفراد تنظيم القاعدة، على أساس سهولة الدخول والخروج من هذه الحدود التي تعتبر أطول حدود للسعودية مع جاراتها. فوعورة الطرق المؤدية اليها وسهولة الاختباء بها فإن هذه المنطقة تشبه الى حد كبير المخابىء الجبلية على طول الحدود الافغانية الباكستانية وهكذا المخابىء على طول الحدود العراقية الايرانية التي كان يختبىء فيها أفراد جماعة أنصار الاسلام في كردستان، وهي مناطق من الصعب الوصول اليها وهكذا القتال فيها. وتنقل مصادر عسكرية أميركية بأن طائرة استطلاع أميركية بدون طيار تمكنت في نوفمبر عام 2002 من التقاط صور لعربة بلوائح سعودية خاصة يقودها عضو قيادي في تنظيم القاعدة في هذه المنطقة.

لعل من الجدير بالالتفات الى حقيقة أن السلطات اليمنية، وفي السياق الدور الذي تعهدت للحكومة الأميركية بلعبه في مشروع الحرب على الارهاب، كانت قد أكدّت مراراً من خلال الصحافة العربية بأن السعودية بدأت تتحول في عام 2002 ـ 2003 الى مركز جديد للقاعدة. ويشار هنا الى ماحدث في أكتوبر 2000 حين أرسلت القاعدة مركباً محمّلاً بالمتفجرات عن طريق ميناء جيزان السعودي والذي تسبب في تمزيق المدمرة كول في عدن. يضاف الى ذلك أن كثيراً من المتهمين بالانتماء لتنظيم القاعدة والمطلوبين لدى السلطات الألمانية والولايات المتحدة قد ثبت أنهم لجأوا الى السعودية للاختباء.

إن السنوات الطويلة من التحريض ضد الغرب في النظام التعليمي الديني السعودي، لا بد أنها حوّلت السعودية الى أحد المراكز المساندة لتنظيم القاعدة والمتعاطفة معها، ولا بد أنها حوّلت السعودية الى مخبىء ومكان يلجأ اليه كل المطاردين في العالم من أفراد تنظيم القاعدة والمتهمين بالضلوع في أعمال عنف ضد الغرب، ولعل بيانات وفتاوى بعض علماء الدين الوهابيين تقدّم أكثر من دليل على حجم التعاطف الكبير الذي يحظى به أفراد هذا التنظيم. فالشيخ الشعيبي والشيخ العلوان والشيخ الخالدي والشيخ ناصر الفهد والشيخ الجربوع وآخرون يمثلون نماذج علنية مؤيدة لتنظيم القاعدة. في واقع الأمر، أصبح السعوديون منذ التسعينيات يمثلون النسبة الأعلى في تنظيم القاعدة، وفي أكتوبر عام 2001 أمرت جهة استخبارية سعودية باجراء تصويت سري بين السعوديين في أعمار ما بين 25 و41 عاماً لقياس إتجاهات الرأي العام السعودي، وقد تركّز التصويت في منطقة نجد، فتبين أن 95 بالمئة من المشاركين في التصويت أعربوا عن تأييدهم وموافقتهم لنشاط وقضية أسامة بن لادن وتنظيم القاعدة.

إن ذلك يعيد للأذهان ما كان يتمسك به المسؤولون السعوديون وخلال شهور بعد هجمات الحادي عشر من سبتمبر، حيث كان مسؤولو وزارة الداخلية وعلى رأسهم الأمير نايف، ينكرون بشدة وبطريقة تهكمية في أحيان كثيرة وجود أية خلايا لتنظيم القاعدة في المملكة، وكان الأمير نايف قد صرّح ساخراً ذات مرة بأنه لا توجد خلايا نائمة ولا مستيقظة داخل السعودية. على أن هذا الاسلوب في النفي بدا زيفه وأصبح مثيراً للسخرية، خصوصاً مع تواصل وتصاعد عمليات العنف في أرجاء متفرقة من المملكة، والتي كان فيها الدليل يتعزز بحضور متميز ونوعي لتنظيم القاعدة في مسرح العمليات، وهذا ما اضطر المسؤولون السعوديون للتنازل عن تأكيداتهم الصارمة والقاطعة الماضية والبوح بجرعات مخففة عن معلومات أخرى بوجود بعض خلايا القاعدة، دون التعرض الى ما اذا كانت نائمة أو مستيقظة. ففي يونيو 2002 أعلن مسؤولون سعوديون عن اعتقالات محدودة وتحقيقات مع عدد محدود من أعضاء تنظيم القاعدة. ولكن هذه الجرعة لم تكن مقنعة هي الأخرى في مقابل حجم النشاط الذي كان يقوم أفراد التنظيم وهكذا العمليات المتواصلة من الانفجارات الخفيفة والتي أشبه ما تكون بمنبّه خطير الى ما يمكن ان يخفيه التنظيم من مخططات مستقبلية.

وجاء التحوّل الدراماتيكي والخطير في منهج التعامل مع موضوع تنظيم القاعدة حين أخذت المواجهات بين رجال الأمن وشبكات العنف المسلّح تأخذ منحاً خطيراً ومتفجّراً، حيث لم يعد بإمكان الدولة وجهازها الأمني الا العمل على ضوء النهار وكشف الأوراق أمام الرأي العام. فقد بدأت الصورة بالتكشّف الى حد كبير حيث عثرت السلطات السعودية على مخزن كبير من الاسلحة والمتفجرات في بداية مايو 2003 ولكن هذه الصورة لم تكن كاملة، فثمة مخازن أخرى لم يتم الكشف عنها فضلاً عن القبض على أفراد التنظيم المسؤول عن تهريب هذه الاسلحة، وهو أمر تكرر مراراً في السعودية حيث فشلت أجهزة الأمن في القبض على الشبكات الارهابية الضالعة في أعمال العنف والتفجيرات الصغيرة ضد الأجانب، بما في ذلك تصريحات كبار الأمراء السعوديين الأخيرة والتي تجمع على أمر واحد وهو بالقبض على بعض المتورطين في تفجيرات الرياض لم تتأكد بعد من مصادر أخرى فضلاً عن أن دليلاً مادياً من قبل السلطات السعودية لم يقدّم بعد.

المثير في الأمر أن هناك نزوعاً متزايداً لدى جهاز الأمن ووزير الداخلية شخصياً وهو نزوع يراد زرعه لدى كبار المسؤولين في الدولة بما في ذلك ولي العهد نحو الفصل بين تفجيرات الرياض وربما تفجيرات أخرى سابقة ومتفرقة في أرجاء البلاد وبين تنظيم القاعدة، لما تفرضة الصلة بين الأمرين من التزامات أمنية وسياسية وربما قانونية على الجانب السعودي، وفي المقدمة الدور الذي يجب أن تضطلع به في الحرب على الارهاب وفي ملاحقة أفراد تنظيم القاعدة، ولذلك فهي تحاول اسقاط البعد الدولي لقضية التفجيرات ومحاولة حصر تأثيراتها وانعكاساتها ومسؤوليتها في حدود الداخل فحسب. ولكن قطع الصلة بين التفجيرات وتنظيم القاعدة يبدو غير عملي وغير مقنع والسبب في التقنية العالية التي تستعملها هذه المجموعات في تحقيق أغراضها وتنفيذ عملياتها المرسومة، بما يفوق قدرة أجهزة الأمن على اصطياد عناصرها أو الكشف عن مخططاتها في وقت مبكّر، وهذا بلاشك يؤكد على ان هذه المجموعات لا يمكن أن تكون عشوائية أو تنتمي الى تنظيم ناشىء.

فقد نجح مهرّبو الآسلحة والمتفجرات في الهرب من قبضة رجال الأمن السعوديين في أغلب عمليات المطاردة التي كانت تنتهي بسقوط ضحايا من رجال الأمن، كما أن البنية التنظيمية للقاعدة لم تتفكك بعد بل أكدّت الاحداث أن هذه البنية قوية ومتجذّرة وممتدة داخل أجهزة السلطة وربما داخل جهاز الأمن السعودي، بالنظر الى تعاطف بعض الدوائر الرسمية مع القاعدةوكذلك بين أفراد الشعب السعودي. وهذا ما قد يشكل أساساً لفهم العجز السعودي عن القيام بعملية واسعة النطاق من أجل القضاء على تنظيم القاعدة داخل السعودية.

في واقع الأمر أن اللعبة المزدوجة التي تقوم بها السلطات الأمنية من خلال إعادة خلط الأوراق من أجل ترتيبها بهدف خلق تحالف ديني سياسي يكون رموز الشارع أساسه من أجل عزل وتحييد التيار المتطرف في المجتمع الديني السلفي وسيما المتعاطف منه مع تنظيم القاعدة لم يحقق نجاحاً كبيراً، فدخول رموز شعبويين مثل الشيخ سفر الحوالي والشيخ سلمان العودة والشيخ عايض القرني وآخرين ضمن التحالف الديني الجديد لم يكن سوى محاولة بائسة تقوم به أجهزة الأمن ووزارة الداخلية من أجل تأخير لحظة المواجهة العنفية مع الدولة، لأن التغيير الحقيقي لم يطل التكوين الايديولوجي ومصادر التغذية الثقافية التي تشحن نزعات العنف لدى عموم التيار، فالاصطفافات الحالية واعادة ترتيب القوى لم يغيّر في خطاب هذه القوى (المعتدل إسمياً منها والمتطرف) طالما بقيت مفردات الخطاب نشطة وانفجارية، ولذلك فإن ما يعتقد بأنه ازالة لمبررات العنف ليس سوى رضوخاً لشروطها ليس الا.

فإعلان الولايات المتحدة في أعقاب الحرب على العراق بأن القوات الأميركية ستغادر السعودية كان يفترض أن يزيل أهم المبررات الرئيسية لدى تنظيم القاعدة بشن الهجمات ضد واشنطن والغرب عموماً، فوجود القوات الأميركية في الأرض المقدسة كتجسيد لمعنى المشركين المتواجدين في الجزيرة العربية كما في الحديث الشريف قد انتهى وبالتالي فإن الكلام عن عمليات ضد المشركين من أجل أخراجهم من جزيرة العرب يبدو لغواً، ولكن مع ذلك فإن سلسلة تفجيرات عنيفة هزّت العاصمة الرياض ضد غربيين في المملكة وحصدت معها أرواحاً بريئة من العرب والاجانب والاطفال والنساء، مما حمل على الاعتقاد بأن القاعدة قد تكون بهذا العمل قد أرادت القول بأن الانسحاب الأميركي كقرار مستقل تم ليس كرد فعل على ضغوط معنوية او مادية ـ وتحديداً عسكرية قد يؤدي الى اضعاف تنظيم القاعدة واضعاف القضية التي من أجلها حصل على الدعم المعنوي والشهرة معا.

فالظهور بأن القاعدة هي التي فرضت بالقوة على الولايات المتحدة الخروج من السعودية بفعل نيران إنفجاراتها، يمنحها القدرة المتميزة التي بها تكون مؤهلة لادعاء الانتصار، وبالتالي الحصول على الدعم المعنوي والشعبي في الشرق الأوسط. وفي كل الأحوال فإن القاعدة ملتزمة بالحرب ضد الغرب وإسقاطه كهدف أساسي، وليس بإخراج الأميركيين من السعودية فحسب، وهذا يبدو واضحاً في الأدبيات الدينية الوهابية وفي أدبيات تنظيم القاعدة، وبخاصة الأدبيات الخاصة والحركية.

إن ما حصل خلال السنوات الماضية أن السعودية وعبر دبلوماسية ناجحة، وحملة علاقات عامة داخل الولايات المتحدة بخاصة، وهكذا المبادرات المتوالية من قبل القيادة السعودية حيال قضايا الشرق الأوسط وفي القلب منها عملية السلام بين العرب والكيان الاسرائيلي، استطاعت صرف الانتباه العام والاهتمام الأميركي والغربي عموماً عن دورها في إيواء تنظيم القاعدة، وتقديم نفسها باعتبارها طرف الاعتدال التي تدعم السلام في الشرق الأوسط. ولهذا السبب، فإن الحرب على الإرهاب، وفي وقت يتم التعامل مع التهديدات المنبعثة من أفغانستان والعراق، لم تكن تركّز بدرجة كافية على تحييد الدور السعودي.

لقد أظهرت تفجيرات الرياض الأخيرة لدى الغرب والولايات المتحدة بخاصة على ضرورة توجيه الجهود الدبلوماسية لمطالبة السعودية بوقف الدعم المالي للإرهاب المباشر وغير المباشر، ولعل هذا ما أوضحته بصورة واضحة خارطة الطريق. وهذا ما تسبب في تغيّب ولي العهد السعودي عن حضور إحدى جلسات قمة شرم الشيخ قبل أن يتم ازالة الفقرة الخاصة بموضوع وقف الدعم عن المنظمات الارهابية مثل القاعدة وحماس وجماعات أخرى.

يطالب الغرب أيضاً السلطات الأمنية السعودية بأن تمارس دوراً مماثلاً للسلطات الباكستانية والأكراد في تصفية جيوب تنظيم القاعدة وتفكيك بنيته التنظيمية والعسكرية، ولذلك فإن هناك إصراراً على أن الحرب على الارهاب لا يمكن أن تتجاهل الجبهة السعودية والا فإن هذه الحرب ستكون مستمرة حتى لو إنتهت في جبهات أخرى.

الصفحة السابقة