عزاء في الرياض لنهاية طاغية مصر!

محمد قستي

تنقل المصادر السعودية بأن الملك عبدالعزيز ـ مؤسس الدولة السعودية ـ وفي زيارته اليتيمة الى مصر عام 1945، أي بعد لقائه مع روزفلت وتشرشل في البحيرات المرّة، نصح الملك فاروق بأن يطيل عمر حكمه عبر السيطرة على أمرين: الجيش، والأزهر. وحين سقط الملك فاروق عام 1952م، نقل مقربون من الملك السعودي العجوز قوله، بأن سقوط فاروق ما كان ليتمّ لولا أنه لم يستمع الى كلامه ونصائحه، حيث لم يضحك على الأزهر بما فيه الكفاية، ولم يضبط العسكر بالإغراءات وغيرها.

بالنسبة لأمراء السعودية وملوكها، هناك مصدران للخطر قد يأتيا على حكمهم، وأيّ حكم عربي آخر: الدين الذي يجب أن يُركب هو ورجاله، ليدعم الحكام في استبدادهم وفسادهم؛ والثاني: الإنقلاب العسكري. أما الثورة الشعبية التحررية من استبداد الطغاة، فهي لا تمثل خطراً في تحليلات آل سعود، واحتمالاتها من وجهة نظرهم ـ وهو الواقع ـ جدّ محدودة، ولم يظهر لها نموذج في البلاد العربية في تاريخها الحديث، اللهم إلا مؤخراً في تونس ومصر.

الآن، رأى السعوديون أن حكمة والدهم المؤسس لا تنطبق على الحالة العربية الحاضرة، وأن الشعوب يمكن أن تصبح مصدر خطر، بعد أن استعصت الإنقلابات العسكرية، والثورات المسلحة، وبعد أن تمّ تدجين المؤسسات الدينية الأهلية فصارت رسمية خادمة مطيعة تسبّح بحمد السلطان وتستغفر له ذنوبه ما يتقدّم منها وما يتأخر.

نعم.. يمكن للشعوب أن تسقط عروش الإستبداد، وبدون أسلحة، ودونما خشية من قمع الأنظمة. هنا تبدو الحكمة الرسمية العربية، خاصة السعودية منها، في غير مكانها، وغير زمانها.

لا يقلّ فزع الأمراء السعوديين من انقلاب المشهد في مصر عن فزع اسرائيل والغرب بشكل عام. فخسارة مبارك ورحيله عن الحكم، هيّأ الجو لفتح سرادق العزاء في أكثر من عاصمة عربية (الرياض، أبو ظبي، صنعاء، عمّان) كما في تل أبيب وبعض دوائر السياسة في واشنطن ولندن وباريس.. وإن كانت لأسباب مختلفة بعض الشيء.

السعوديون المفزوعون يدركون بحسّهم السياسي حجم الخسارة بعد أن سقط حليفهم مبارك، وتغيّر نظام الحكم في أكبر عاصمة عربية. وحدهم آل سعود، يعلمون بأن هذا التغيير سيطلق تحوّلاً غير مسبوق في العالم العربي وفي الشرق الأوسط عامّة، وسيعيد السعودية الى أوضاع أسوأ مما كانت عليه في ستينيات القرن الماضي، حين كان الأمراء يتقاسمون أدوارهم في النوم! خشية وقوع انقلاب عسكري ضدهم (غالب الإنقلابات تقع في المساء!!).. فبعضهم كان ينام الليل مبكراً حتى الفجر (الملك فيصل ووزير الدفاع سلطان)، وبعضهم الآخر ينام الفجر حين يصحو وزير الدفاع (وزير الداخلية فهد، ثم نايف)، ولم تتغير مواعيد النوم حتى اليوم!

لا عجب أن تستغيث الرياض وعمّان وأبو ظبي كما تل أبيب بواشنطن وتطلب من أوباما بأن لا يسمح بإسقاط مبارك من قبل شعبه!

ولا عجب أن تنبري الرياض وأبو ظبي فترسلان لمبارك شحنات الكاش من الدولارات ـ قيل أنها قاربت الملياري دولار ـ لتوزّع على أنصار الرئيس، ولشراء الضمائر، ورشوة البلطجية، وقادة معركة الجمل وغيرهم. لكن أقصى ما أمكن لهذا الفعل أن يحدثه هو ضمان بضعة أيام إضافية لحكم انهار ومات ولم يرد آل سعود ـ كما مبارك نفسه ـ أن يعترفوا بأن النظام قد مات وشبع موتاً، وأن الخلاف هو على مراسيم الدفن فحسب!

إنه ذات الألم يتكرر في الرياض بعد أكثر من ثلاثين عاماً من انتصار الثورة الإيرانية.

قبل أن يسقط الشاه، وفيما كان نظامه يترنّح، كان الملك فهد (ولي العهد يومها) يقول للصحافة ما نصّه: (الشاه باق باق، وإن ما يجري مجرد زوبعة سيتجاوزها جلالته)! وحين سقط بعد فترة وجيزة، زعل الأمراء السعوديون والخليجيون على واشنطن، وكان السؤال: لماذا سمحت أميركا بسقوط الشاه دون أن تسعى بجد لإنقاذه؟! بل أن بعض النظم الخليجية اتهمت صراحة واشنطن بأنها تواطأت مع الخميني لإسقاط الشاه!!

لم يدرك الطغاة السعوديون بالأمس ـ كما اليوم ـ أن الشعوب في ايران كما في مصر وتونس هي التي تقرّر، وأن إرادتها أقوى من إرادة واشنطن وعواصم الغرب الأخرى، وأن قدرة واشنطن محدودة لإنقاذ حاكم أو حتى نظام لا يريده شعبه.

بدأت الصحافة السعودية بتوجيه اللوم الى واشنطن التي تخلّت ولو ظاهرياً عن واحد من أعظم حلفائها في المنطقة (حسني مبارك). بل أن بعض تلك الصحف أخذ يتهم المتظاهرين المصريين بأنهم مجرد عملاء للغرب!! في حين لا توجد حقيقة أنصع من كون النظم في السعودية ومصر والأردن وغيرها الأكثر التصاقا (إن لم نقل عمالة) في خدمة العواصم الغربية. ذات الصدى عبّر عنه مسؤولون اسرائيليون، الغاضبون من أن واشنطن لم تقم بما فيه الكفاية لانقاذ مبارك من الغرق.

احتارت السعودية ماذا تعمل؟ وكيف تتعاطى مع هذه الثورة الجديدة التي انطلقت من تونس، ومرّت عبر القاهرة، وقد لا تتوقف في صنعاء وعمّان إلا عند أبواب الأمراء في الرياض!

ثلاثة مسارب حاول الأمراء السعوديون عبرها مساعدة وإنقاذ حليفهم مبارك ومنعه من السقوط المحتوم. بعض تلك المسارب مما يشاركهم فيه آخرون في اسرائيل والخليج.

الأول ـ المال، وهو أرخص ما لدى آل سعود، وأول ما يتبادر ذهنهم إليه ليعالجوا به مشاكلهم. وكأنهم وحدهم يمتلكون المال، أو كأنهم يعتقدون بأن المال صانع لكل شيء! لقد أضاعوا الكثير منه في العراق، وفي لبنان، وفي الباكستان وفي اليمن وفي دول أخرى. فكيف أصبح حال تلك الدول؟! وبالمقارنة، فإن الدول التي عادتها السعودية أو التي تخلت عنها واعتبرتها هامشية تعيش حالاً اقتصادياً واستقراراً سياسياً أفضل من تلك التي تعينها السعودية وأميركا: مثال ذلك سوريا.

المال السعودي لم يعد صانعاً للمعجزات، وأثبت أنه غير قادر على إنقاذ مبارك من مصيره المحتوم، كما أنه لن ينقذ الأمراء السعوديين ساعة العسرة. ذلك أن الثورات والإنتفاضات تعمل على تعطيل مفاعيل القوة لدى الطغاة، فتصبح أسلحتهم الحقيقية غير قابلة للإستخدام، ويصبح مالهم أقلّ إغراءً، وحتى لو أغرى، فإن المرتشين يأخذونه ولا يلتزمون في المقابل بشيء تجاه الطغاة، ولعلنا نتذكر قصة من التاريخ كيف أن مروان الحمار (آخر حكام الدولة الأموية) وقبيل المعركة الفاصلة في الزاب قد وزّع أموالاً ضخمة على جنده ليحاربوا دفاعاً عنه، فأخذوا المال وتفرّقوا عنه، فكانت نهايته.

المال مفيد ويمكن له أن يلعب دوراً حاسماً، شرط أن لا يستخدم في المرحلة النهائية لسقوط الطغاة!

السعودية أعطت مبارك رواتب شخصية وبعشرات الملايين من الدولارات، وحتى قبل أن تعود مصر (للحظيرة العربية!!). اعتاد الملك فهد ـ حسب معلومات خاصة ـ أن يكتب شيكات لمبارك بعشرين وثلاثين مليون دولار، ثم يبعث بها اليه عبر مدير مكتبه محمد السليمان. والآن وبعد أن فتحت الرياض وأبو ظبي خزائنهما لمبارك ورجاله منعاً لسقوطه، ولكن بلا فائدة؛ ليس أمامهما إلا أن يستضيفه أحدهما قبل أن تدهمه مطالبات تجريده من الأموال التي سرقها.

الثاني ـ وهو الأخطر، استجلاب الدعم السياسي الغربي وتمديد مظلّة الحماية لنظام حسني مبارك. بصريح القول فإن اسرائيل والسعودية عملتا معاً على هذه الجبهة. فقد قرّعتا أوباما علناً وبمرارة على مواقفه المتخاذلة من وجهة نظرهم، وألحّتا عليه بأن يمنع سقوط مبارك المذلّ لأن في سقوطه خطر محدق باسرائيل وبحلفاء أميركا في المنطقة. أيضاً، فإن السعوديين أخطأوا الحساب. فالأميركيون والأوروبيون لا يتمنون قيام الثورة المصرية أصلاً. ولكن بعد أن وقعت، فإن جلّ ما كانوا ولازالوا يريدونه هو تقليص الخسائر من جانبهم، وذلك بمحاولة احتواء الثورة وعدم استعدائها مسبقاً، منعاً لتكرار التجربة الأليمة التي حدثت في ايران أيام الشاه، حيث تحوّلت بالكامل الى عدو لواشنطن والغرب. لا يريد أوباما ولا قادة أوروبا الغربيين تكرار الخطأ.

ومع هذا، نجح السعوديون والإسرائيليون في الضغط، ولكن تكتيكياً فقط، بحيث تراجعت أميركا محاولة أن تطيل عمر مبارك، وأن لا ينتهي النظام وأن تتحكم بمفاعيل التغيير المستقبلي، وقد كان ذلك واضحاً في يومي 6 و7 فبراير حيث ظهرت التصريحات الأميركية متراجعة بوضوح. ولكن في يوم 8 فبراير صدمت أميركا والعواصم الغربية بحجم التظاهرات، فعادت وتراجعت وطالبت بصورة أو بأخرى بأن يرحل مبارك، وقد رحل مرغماً بضغط الجماهير لا أميركا.

لم يدرك الأمراء السعوديون أن ضغوطهم على واشنطن لن تحدث تغييراً كبيراً، خاصة وأن الأخيرة صارت محدودة التأثير في منطقة الشرق الأوسط عامة.

لم تعد أميركا إلهاً إلا لدى آل سعود، ولمن هم على شاكلتهم!! وبالتالي فإن حصار الثورة المصرية سياسياً، والتحريض عليها، ودعم القوى المضادّة لها استخباراتياً واعلامياً وسياسياً لم يحل دون النتيجة المتوقعة، ولكن المأمولة أيضاً: سقوط الحكم التسلّطي في مصر!

الثالث ـ الدعم الإعلامي؛ فقد احتار السعوديون في إعلامهم الداخلي ماذا يقولون؟ هم لا يستطيعون التغطية على ثورة مصر العظيمة التي هزّت أركان الدنيا سياسة واعلاماً واقتصاداً. اختصر الإعلام المحلّي الأخبار والتقارير المتعلقة بما يجري في مصر. لكن ما فائدة ذلك؟ لا شيء! حاول الإعلام أن يقول بأن المتظاهرين قلّة (بعض المتظاهرين)!! والتعمية على أهدافهم (تحسين اوضاعهم الإقتصادية والإجتماعية)!! لكن الإعلام السعودي المحلي غير مسموع في الداخل حتى يُسمع في الخارج! وفي حين بقي التلفزيون السعودي على حاله، فإن الصحافة المحلية أخذت بتغيير موقفها؛ وأصابت كتابها (أو بعضهم) ما أصاب العالم العربي بمجمله من نشوة ثورية وتطلّع إيجابي نحو المستقبل.

أما إعلام السعودية الخارجي (تحديداً العربية، والشرق الأوسط) فكان الأسوأ. لقد أصبحت هاتان الوسيلتان أداة بيد النظام المصري يوم لم يكن لديه أحدٌ يدافع عنه. كان الهجوم على الثورة منهجياً، وكان تبني الخط الرسمي المصري واضحاً؛ وكان التهويل من الثورة قائماً حيث أنها ستؤدي ـ بزعمهم ـ الى الفوضى والى التدخل الأجنبي (ايران وحماس، وليس أميركاً وأوروبا!). لكن الإعلام السعودي الخارجي ـ تحديداً العربية ـ اقتنع أخيراً بأنه يخسر جمهوره ومستمعيه، فحاول تعديل خطابه ولغته، وأن يظهر قدراً من التوازن المتأخر في التغطية حين شارفت المعركة مع النظام على نهايتها، دون نسيان دسّ السم في العسل.

وفي الجملة، فإن نشاط السعودية وتحركها قد ذهب هباءً منثوراً: (وقدمنا الى ما عملوا من عمل فجعلناه هباءً منثوراً). وأصبح إنفاق آل سعود على دعم الطغيان حسرة عليهم حين رأوا صديقهم مبارك وقد لفظته الجماهير من كرسي العرش: (إن الذين كفروا ينفقون أموالهم ليصدوا عن سبيل الله، فسينفقونها ثم تكون عليهم حسرة ثم يغلبون، والذين كفروا إلى جهنم يحشرون).

الصفحة السابقة