الثقافة السياسية في السعودية

الإنتقال المنتظر الى الديمقراطية

الاتجاه المتنامي نحو مشاريع الدمقرطة في الشرق الأوسط بعد أزمة الخليج الثانية، وما لحقها من تطورات أثار سؤالاً مفتعلاً داخل دوائر أكاديمية وسياسية حول التوافق بين الاسلام والديمقراطية، متزامناً مع الضخ الإعلامي الكثيف المصاحب لتزايد قوة حركة الاحياء الديني خلال فترة إحتلال الكويت، إضافة الى المشاركة المتنامية للحركات الاسلامية في العمليات الانتخابية في عدد من البلدان العربية والاسلامية: الاردن، مصر، اليمن، الجزائر، والمغرب وغيرها.

أحدى الزوايا التي يمكن النظر من خلالها الى الاصلاحات السياسية في السعودية هو أن الاصلاحات باتت رغم كل ما يقال عن معوّقات سياسية ودينية تحظى بقبول إن لم يكن بترحيب القيادة السياسية، الى درجة الزعم بأن الحكومة السعودية تبذل جهوداً حقيقية من أجل تمهيد السبيل للبدء بالإصلاحات والحريات العامة. ولكن من جهة أخرى، فإن الاصلاحات الدستورية في السعودية تستهدف بدرجة أساسية الانصهار في التقاليد السعودية والشريعة المتبّعة من قبل النظام.. فالعائلة المالكة في السعودية تواجه أزمة الاستجابة للمطالب المتنامية بالدمقرطة مع عدم إضعاف السلطة التقليدية.

فالسؤال هنا ليس حول ما إذا كان الاسلام متطابق مع الديمقراطية، في محاولة تضليلية واضحة. فالتاريخ، حسب جون أوسبيسيتو وبسكاتوري، يكشف عن أن الأمم والتقاليد الدينية قادرة على إمتلاك تفسيرات إيديولوجية متعددة وإعادة توجيه لهذه التقاليد، حسب شروط الزمان والمكان. وحتى إذا كانت الثقافة السائدة في بلد ما هي في مستوى ما عائقاً للديمقراطية، فإن الثقافات التاريخية هي ديناميكية وليست ساكنة بحيث تعيد شحن ذاتها بعناصر تطوير من خارجها دون أن تفقد قدرتها على البقاء والتميّز، وإذن فإن الاعتقادات المهيمنة والسلوك السائد في المجتمع تخضع للتغيير. وفيما يتم الحفاظ على عناصر الاستمرار، فإن الثقافة السائدة في المجتمع قد تختلف بصورة ملحوظة عما كانت عليه قبل جيل أو جيلين سابقين حسب صموئيل هانتغتون.

فالسؤال عما إذا كان النظام التراتبي للحياة قادراً على المحافظة على نفسه، لأن السعودية شأنها في ذلك شأن كثير من دول الخليج تخضع تحت تأثي نفوذ قوي من إتجاهات أخرى في الحياة. ويمكن للمرء المجادلة بأننا قد دخلنا عصر ما بعد الحداثة. يقول أنتوني سميث:

(ليست الرأسمالية ومتوالياتها الانتقالية هي التي ساهمت في تآكل سلطة الدول القومية، ولكنها الاحتملات من أجل بناء وحدات مؤسسية أكبر على أساس نظام إتصالي ضخم وشبكات كمبيوترية من المعلومات. ففي هذه المؤسسة تتعرض أي محاولة لتقييد هذه الشبكات ضمن الحدود الوطنية للفشل، اليوم، فبإمكان الثقافة أن تكون قارية أو عالمية).

ولكن هل الثقافة العالمية، القائمة على ملكيات الصحافة، هي العامل الذي يمكن له أن يؤثر في النظام التراتبي للحياة؟ مع التذكير الدائم بحقيقة أنه وبسبب حساسية الحكومة السعودية فإن الإعلام يخضع للرقابة، ينبّه الى ذلك قرارات الطرد المتكررة لرؤساء تحرير وصحافيين خلال العامين الماضيين. وبالرغم من ذلك، فإن السكان في السعودية يتأثرون بطرق أخرى من الحياة في أشكال أخرى مثل السياحة والتعليم والسفر ووسائل الاتصال الفضائي والانترنت. فمنذ أزمة الخليج، فإن هناك نزوعاً للانفتاح الاعلامي من جانب المجتمع قبل الدولة، وعليه فإن المواطنين منكشفون على الثقافة العالمية.

يقول أنتوني سميث بأن الثقافة العالمية لا تمنح هوية تاريخية وأن الصعوبة المركزية في أي مشروع يحاول بناء هوية عالمية، وتالياً ثقافة عالمية تكمن في أن الهوية الجماعية دائماً تكون محددة تاريخياً، والسبب في ذلك لأنها مؤسسة على ذكريات مشتركة وإحساس بالتواصل بين الأجيال. على الجانب الآخر، يشير آخرون الى أن رجال السياسة قد يلجأوا الى إستعمال الثقافة كأداة لخلق هوية خاصة بالدولة. ولكن تفسير أنتوني سميث العقلي للثقافة ليس مشتقاً من أو مستمداً من دراسة لسكان معزولين وساكنين. يقول بأنه بدلاً عن ذلك، فإن السكان يعبّرون عن الهويات التي شكّلتها الظروف التاريخية عبر فترات طويلة. فمفهوم الهوية مبني بصورة محددة على دراسة وتقدير المشاعر المحايدة والتقييمات الصادرة حول أي شعب يملك تجربة مشتركة أو خصائص ثقافية متبادلة متمثلة عادة في التقاليد واللغة والدين.

فالجدل هنا يدور حول الادراك القار لدى السكان بأن لديهم هوية مشتركة من الماضي. فالثقافة التي تخضع لنفوذ قوي من مصادر أخرى من الحياة، قد تنشىء هويات داخلية أقوى، وهذه المجادلة تبدو معقولة، والسبب في ذلك أننا قد شهدنا خلال السنوات الأخيرة إعادة ظهور جماعات إثنية وتزايد في المشاعر الوطنية بصورة ملحوظة.

وبناء على هذا التفسير العقلي، يطرح السؤال التالي: هل يعني ذلك أن الثقافة السياسية في السعودية تسير بصورة ضدية مع خيار الدمقرطة؟

الجواب عن السؤال المطروح يتطلب ضرورة استذكار حقيقة ما يعتقد غالباً بان للثقافة السياسية قوة تفسيرية فاعلة، بمعنى أن طريقة الشخص في الحياة تشخّص هويته، وليس لأن الدين يحافظ على إسلوب تراتبي في الحياة. وهناك عاملان يؤثران بدرجة كبيرة في هذا الأسلوب وهما: التعبئة الجماعية وإستيعاب الجماعات الجديدة في السياسة.

فهل بإمكان التعبئة والاستيعاب تغيير الطريقة التراتبية للحياة في السعودية؟

كان الاعتقاد السائد لدى بعض الباحثين قبل عقدين او نحو ذلك بأن السعودية مجتمع متجانس، لأن المواطنين كقوة إجتماعية تنتمي الى طريقة تراتبية في الحياة، وأن غير المواطنين هم جزء من القوى العاملة، وليست جزءاً من القوة الاجتماعية. وهذا ما يجعل الجدل مشروعاً بأن المجتمع المتجانس هو عقبة أمام الديمقراطية، لأن الجماعات الجديدة ليست مدمجة في السياسة. ولكن فرضية التجانس في السعودية قد أصبحت متهافتة، وبالتالي فإن العقبة التي تحول دون مرور مشروع الديمقراطية تبدو غير موجودة. فقد سهّل الانفتاح الاعلامي مهمة التعرّف على التركيبة الاجتماعية المعقّدة في السعودية، هذه التركيبة تحمل بداخلها تنوعاً إجتماعياً ومذهبياً وإثنياً.

ولذلك، ومن أجل التعاطي مع الديمقراطية بصورة علمية ودقيقة، فإن العوامل السياسية يجب أن تكون قادرة على إختراع سياسة من أجل تطوير الاصلاحات حتى يضطلع كل من التعبئة والاستيعاب من قبل الدولة بدور فاعل. فتعبئة الجماعات الجديدة يعني إدماج كافة القوى الاجتماعية في السياسة، أي بمعنى آخر إدخال التنوع الديني والثقافي والاثني الى الحقل السياسي، وصولاً الى تشكيل نظام تنوعي يحتضن بداخله كافة الاطياف ويعبّر عن مجموعة إرادات تمثل في الحاصل النهائي المجتمع بتنوعاته.

على الجانب الآخر، هناك سؤال يدور حصرياً حول مشيئة القيادة السياسية في السعودية حيال تطوير إصلاحات تقوم على التعبئة والاستيعاب بغية إدماج الجماعات الجديدة في السياسة. فبناء على المقاربة العقلانية، يمكن للمرء القول بأن الحاصل النهائي من هذين الاصلاحين (التعبئة والاستيعاب) سينتج عن خسارة رجال السياسة الحاليين لجزء هام وجوهري من السلطة. فالتعبئة كأسلوب إصلاحي لاتبدو محتملة حين تقارن مع خطوات في الكويت والبحرين وحتى قطر. فالقيادة السياسية لا زالت ترى بانها تحكم مجتمعاً منقسماً وهذا يشكل أحد مصادر قوتها وتماسكها، وليس هناك أيضاً إرادة لدى رجال السياسة السعوديين لاستيعاب الجماعات الجديدة لأن ذلك يعني تفتيت السلطة الى أجزاء، قد يؤول في نهاية المطاف الى ضياع الملك كما جاء على لسان بعض كبار الأمراء، وقد يؤدي أيضاً الى تفكيك الدولة في حالة إختلال ميزان القوى في المستقبل بفعل تكسير السلطة.

الخطوط العريضة للديمقراطية

يبقى تحقيق التوازن الداخلي إجتماعياً وثقافياً ضرورياً من أجل تحقيق أهداف السلطة والسكان سواء بسواء، فالحكومة السعودية يجب أن تسعى للمحاربة ضد كافة أنواع إحتكار الفكر. فهي الآن أمام فرصة تاريخية لتطوير نظام تعليمي قادر على تلبية حاجات العصر ومجابهة تحدياته، وهكذا تشجيع حرية الصحافة وزيادة حقوق المرأة، وإطلاق المؤسسات الأهلية نحو المساهمة الفاعلة في بناء المجتمع المدني، اضافة الى موضوعات أخرى ضاغطة. فبإمكان العائلة المالكة الآن أن تقرر منح الكفاءات الشابة المتعلمة فرصة المشاركة السياسية، وهذا من شأنه وضع حد للمناطقية، والتي تعطي إمتيازات أكبر لبعض العوائل من مناطق محددة في هذا البلد. وهذا بدوره يمثل إجراءً احترازياً ضد الصراعات القبلية المستقبلية، فالأفضلية المناطقية على المستويين الاقتصادي والسياسي ماتزال سياسة حاكمة في السعودية. ومن شان هذا الاجراء أن يساعد على إنهاء الحرب الأهلية الباردة التي يمر بها المجتمع ولكن بصمت.

المجتمع السعودي يجب أيضاً أن يبدأ في إصلاحات راديكالية على المستوى الاجتماعي الى جانب الاصلاح السياسي. فالكتّاب والمفكرون يجب أن يصبحوا جزءا من الحوار الاجتماعي العام، والذي يقوم على التسامح إزاء الأفكار المختلفة. كما أن الجامعات بحاجة الى أن تفتح ألأبواب أمام طلابها للقيام بنشاطات سياسية واجتماعية، وفي الحد الأدنى يفترض أن يمتلك الطلاب الحق في تشكيل إتحادات طلابية. فهذه من شأنها أن تعلمهم فكرة (الفعالية الاجتماعية) وكيفية تنظيم نشاطات حضارية سلمية داخل الجامعات. أفكار كهذه من شأنها أن تساعد الجيل القادم على خلق وهكذا المشاركة في مجتمع أهلي سلمي ومنتج، بدلاً من الموت في أفغانستان أو أي مكان آخر من أجل أهداف لا يدرك أغلبهم خلفياتها الكاملة.

إنهاء التعصب الديني والسياسي يعتبر قضية حاسمة وحيوية بالنسبة للسكان في السعودية، وهكذا الحال أيضاً للقيادة السياسية. الخروج من هذه الازمة يجب أن يتم وفق شروط تحوّل داخلي، وقرارات جريئة تقدم عليها القيادة السياسية، من أجل الانتقال الى مرحلة يحقق فيها الجميع ذواتهم.

لا يمكن للانتقال الى الديمقراطية أن يتم بدون تنازلات من المجتمع والسلطة، فالمجتمع مازال يخضع لقيود ثقافية وإجتماعية تحول دون امتصاصه لقيم الديمقراطية وشروط الانتقال اليها، فليست السلطة وحدها مسؤولة عن تأخر وصول الديمقراطية الى هذه المنطقة من العالم، فالثقافات السائدة تمارس دوراً تعويقياً في تحوّل المجتمعات، ما لم تعرض هذه الثقافات نفسها أمام موجات التحوّل الجارية في الثقافات الأكثر تقدّماً. تماماً كما أن السلطة لا يمكن لها أن تبقى قوة محتكرة للسلطة للأبد، فلابد أن يأتي يوم يضطر فيها رجالها الى كسر إحتكاريتهم من أجل سلامة المركب قبل الركاب.

فثمة مسئولية مشتركة تملي على المجتمع تحويل السلطة، وتملي على السلطة تحويل المجتمع من أجل الوصول الى مساحة مشتركة تؤسس لإنطلاقة حقيقية وفاعلة نحو الانتقال الى الديمقراطية بموجب إتفاقات تسوية وترضية عادلة بين أطياف المجتمع كافة وأركان السلطة كافة.

مسار التحوّل الديمقراطي لم يعد مجهولاً لدى السلطة، وإن مازالت فئات إجتماعية تجهل بعض أبعاده بسبب غياب ثقافة سياسية مؤّصلة ومشاعة، فمازال تداول الافكار الديمقراطية في لحظته الناشئة، ولم يصل الى مرحلة يكون السكان قادرين على الافصاح عن تطلعاتهم المنشودة في عبارات دقيقة وواضحة. تعميم الثقافة الديمقراطية مازال أمراً شديد الالحاح من أجل رفع مستوى الطلب الشعبي على الديمقراطية، فلا يكفي وجود نخبة سياسية تناضل حتى الانهاك من أجل هدف عام، ولا يكفي أن يصل حدود تطلع النخبة الى مستوى إيصال الصوت المطلبي، فالعمل السياسي الجاد يتجاوز حدود إبلاغ الرسالة لأهل الحكم، بل يتطلب فيما يتطلب تعميماً أفقياً وعمودياً، أي السعي الى استضافة المجتمع بكاملة في العمل المطلبي لمزاولة الضغط من أسفل، مع مواصلة الضغط من أجل تحقيق التغيير من أعلى.

الصفحة السابقة