من مع ومن ضد: الشعب أو العائلة المالكة؟

شكوك حول دعاوى الإصلاح

في مقالة كتبتها تي كريستشيان ميلرز من جدة، ونشرتها صحيفة لوس أنجلس تايمز في الثالث من أغسطس وردت تصريحات مثيرة للجدل لوزير الخارجية السعودي الأمير سعود الفيصل. ففي جوابه عن سؤال حول نوايا العائلة المالكة في البدء بمشروع الاصلاح السياسي قال بأن (القرار موجود، والارادة السياسية موجودة، والى حد مدهش، فإن الاجماع موجود). وعلّق الأمير قائلاً: (يأتي البعض الى هنا ولديه إنطباع بأن المجتمع يغلي لدرجة الانفجار وأن الحكومة تحاول كبح الناس عن الاصلاحات..ولكنّي أرى العكس من ذلك، فأنا أرى أن الحكومة هي التي تغلي بينما يأتي الكبح ربما من الناس).

قد يشير الأمير سعود الفيصل الى فئة داخل المجتمع الديني السلفي المعارض لنقلات إجتماعية وسياسية مضادة للتقاليد الدينية، ولكن بالتأكيد فإن التصريح يسدل ستاراً من التجاهل لنشاطات واسعة النطاق قادها جميع ألوان الطيف الإجتماعي والفكري والسياسي في هذا البلد، وإستعلنت نفسها بصورة واضحة في عريضة (الرؤية) اضافة الى عرائض أخرى فرعية، إضافة الى كم كبير من المقالات والابحاث التي صدرت من إتجاهات سياسية وفكرية مختلفة داخل المملكة. وفي حقيقة الأمر، فإن تصريح الأمير ينسجم مع أهداف حملة العلاقات العامة التي تدور حول تحسين صورة العائلة المالكة، وتنسجم أيضاً مع اللغة السياسية السائدة في الولايات المتحدة والغرب، فمن شأن تصريحات كهذه أن تزرع إنطباعاً معاكساً يصوّر العائلة المالكة، بكونها الطرف الأكثر تقدماً، وكأنها تحكم شعباً شديد التخلف، مضاداً في حركته لحركة العصر وشروطه.

يعتقد البعض بأن في تصريح الأمير سعود الفيصل جانباً من الحقيقة، فهناك جماعات دينية وقبلية قريبة من العائلة المالكة تمارس نفوذها الاجتماعي والديني على السلطة من أجل كبح إرادتها نحو التغيير بإسم الحفاظ على العادات والتقاليد الاجتماعية والدينية.

الا أن هذا النوع من الحقائق يستعمل غالباً للتفسير وليس للتبرير، أي لتفسير المشكلة وشرح أبعادها غير المنظورة، أما أن تكون هي ذاتها مبرراً لإلغاء الاصلاح، فذلك يكسر النطاق المفروض على الجدل حول طبيعة وهوية القوى المانعة للإصلاح. فالناس الذين يتحدث عنهم الأمير سعود الفيصل لا ينتمون الى التيار الإصلاحي العارم الذي يتصاعد داخل البلد، وهو تيار واضح وعلني بعكس الناس الذي يتحدث عنهم الأمير.

وعلى أية حال، فإن هذه التصريحات تاتي كرد فعل على تطوّر حالة السخط الداخلي الى شكل إنفجاري كالذي أخذه في الثاني عشر من مايو الماضي. وقد بات مألوفاً أن تلجأ العائلة المالكة الى تصريحات تخديرية تدغدغ مشاعر السكان الذين ينتظرون قراراً صريحاً وعملياً لوضع حجر الأساس في مشروع الاصلاح السياسي.

ولكن من جهة أخرى، فإن هذه التصريحات وأمثالها تعزز شكوك كثيرين داخل البلد وخارجه بأن أحاديث العائلة المالكة عن التغيير لا يعدو كونه تكتيكاً أو محاولة لاحتواء التحرك الداخلي المتصاعد لجهة الضغط من أجل الاصلاح، فيما يعتقد آخرون بأن هناك تصميماً مؤكداً لدى العائلة المالكة لمعالجة مشكلة عدم الاستقرار الداخلي، وهذا يتطلب إجراء إصلاحات سياسية حقيقية. ولكن يواجه أصحاب هذا الرأي بالمقارنة مع الموقف الفاتر والملتوي الذي إتخذته العائلة المالكة خلال أزمة الخليج الثانية عام 1991، فقد أطلق كبار أعضاء العائلة المالكة تصريحات تشير في حينها الى نوايا جادة بإدخال تطويرات جوهرية على نظام الحكم، فيما كانت النتائج مخيّبة لآمال الغالبية العظمى من السكان.

فالسؤال المحوري يظل مطروحاً على الدوام ويدور حول جدية الحكومة السعودية. فقد أسفرت الوعود الاصلاحية التي أطلقها الملك فهد وتحديداً بعد حرب الخليج في عام 1991 عن نتائج محدودة للغاية. فالتغيير الحاصل لم يؤد الى إستيعاب قدر كبير من الجماعات في النظام السياسي، أو إمتصاص الفائض المرتفع من التوتر الاجتماعي والغضب المتنامي ضد العائلة المالكة، والتي ينظر اليها من زوايا عديدة بأنها فاسدة ومعزولة.

وبالأمس القريب، فاجأ ولي العهد السعودي السكان المحليين والعرب بل والعالم بمبادرة متقدمة، تتناقض مع واقع الحال السعودي، فقد أعلن عن وثيقة لاصلاح الوضع العربي التي تبنتها السعودية قبل نحو عام، وأحدثت ترددات إعلامية وسياسية عالية، في وقت كان يعتقد الكثيرون بأن المنطقة أصبحت على شفير تغييرات دراماتيكية في ظل الحرب المحتملة على العراق. فالوثيقة مثّلت في حينها إقتراحاً سعودياً للقمة العربية التي تنادي بتغييرات داخلية مختلفة في البلدان العربية، ولكن الجانب الأكثر أهمية في الوثيقة هي ما ألمحت اليه من إصلاحات سياسية داخلية كما تضمنتها عبارة (أن البلدان العربية تقرّ بأن الاصلاح الداخلي والمشاركة السياسية المعزّزة في البلدان العربية هي خطوات جوهرية من أجل بناء القدرات العربية، ومن أجل توفير شروط الصحوة والتنمية الشاملة للمصادر البشرية العربية). فهل سعت العائلة المالكة، والأمير عبد الله شخصياً الى تحقيق ما ورد في هذا المقترح وبخاصة الاصلاح السياسي الداخلي وتعزيز المشاركة السياسية؟.

ليس ثمة حاجة للقول بأن هذه الوثيقة لم تكن المؤشر الوحيد على التغييرات المحتملة في التفكير السياسي السعودي. فقد أظهر مجلس الشورى المعيّن ولأول مرة رغبة في رفض ومناقشة بعض القوانين المحالة اليه من قبل مجلس الوزراء، من قبيل رفض مقترح ضريبة الدخل على أجور العمال الأجانب، وهي قضية نادرة يقوم المجلس بتولي دور السلطة التشريعية فيها.

ورغم ما يقال عن تبني الأمير عبد الله لمشروع إصلاحي واسع النطاق، الا أن مصادر عديدة تؤكد على أن الأمير عبد الله يميل الى خطوات محدودة تجاه المشاركة السياسية.

فليس هناك أحد يعتقد بأن الرياض على وشك التحوّل الى نظام ديمقراطي على طراز واشنطن أو وستمنستر، بالرغم من البدايات السريعة الخطى في الخليج نحو الدخول في تجارب برلمانية. فالبرلمان الكويتي يعد الأقدم في المنطقة، وأن البحرين إستأنفت العمل بالمجلس الوطني القديم، فيما بدأت قطر في كتابة دستور من شأنه أن يقود الى البرلمان، وعمان سمحت الى حد كبير بدور إنتخابي محلي لإختيار أعضاء مجلس الشورى. ورغم أن هذه التغييرات قد لا تمثل حال مقارنتها بالديمقراطيات الغربية جزءا كبيراً وبخاصة لأولئك المناهضين للملكيات في الخليج بسبب نزوعها المحافظ، ولكن هذه التغييرات جارية على أية حال، وهي مؤشر على تحوّل سياسي بدرجة معينة.

يقال في وصف التغييرات الجارية في البيروقراطية الكنسية في روما الكاثوليكية في الفاتيكان بأن عجلاتها تطحن ببطء، ولكنها تطحن ما يفوق القليل . المقترح السعودي الى القمة العربية يمثل أحد أدوات إختبار جدية العائلة المالكة في الحديث عن الاصلاح السياسي. فالتغيير في السعودية هو أبطأ من عجلات الفاتيكان، فالايقاع الجامد لما أحدثته الاصلاحات المحدودة تقود نقّاد المملكة غالباً للاعتقاد بأن ليس هناك تغييراً حقيقاً غير ما هو سطحي وتجميلي.

فبعد أكثر من عقد على نظام التعيين في المجلسين الوطني والمحلي: الشورى، والمناطق، وفيما تخضع المملكة تحت تأثير نقد غير مسبوق من بعض الحلفاء المحافظين للإدارة الأميركية والتحذير المتنامي في الرياض حول إحتمال تفجّر العنف بطرق غير مألوفة مازال التردد سائداً حيال البدء بإصلاحات سياسية جادة. قد تفسّر تصريحات الأمراء حول الاصلاح السياسي بأنه خليط من النزعة الذاتية نحو الحفاظ على الملك، ودفع للانتقادات الخارجية.

فالسعودية، كباقي دول الخليج، تحوّلت الى دولة بشعب متعلم ومقتدر نسبياً (وإن لم تكن حالته تقاس بحالة الجيل السابق)، ولكنه لا يتمتع بحق المشاركة السياسية مطلقاً، فحكومة البلاد تدار من قبل حكم عائلي أبوي، مع دور محدود للمؤسسة الدينية والقبائل الرئيسية الحليفة للعائلة المالكة. وفي عصر الانترنت والاقتصاد العالمي ما بعد الصناعي، فإن النظام السعودي يوصّف بإعتباره مشتقاً من العلاقات القبلية التقليدية في المجتمع ما قبل الصناعي.

ينزع النقاد الغربيون الى تسليط الضوء على القيود التي تفرضها السعودية على حقوق المرأة وعلى محتويات المناهج التعليمية للمدارس الدينية، ولكن حقيقة الأمر أن ذلك يمثل جانباً واحداً من منظومة تراث لحركة إحياء ديني وسياسي أنتجت تحالفاً تاريخياً بين العائلة السعودية المالكة والمذهب الحنبلي، والمعروف بإسم الوهابية.

وحتى الآن، فإن الانتخابات ليس لها دور في الحياة السعودية، ففي عام 1993 تم تشكيل مجلس الشورى المعيّن وهناك مجالس محلية معيّنة، أي مجالس المناطق. ووظيفة مجلس الشورى هي إستشارية، وإن لم يتحوّل المجلس حتى الآن الى مجرد ختم مطاطي لما تقرره العائلة المالكة أو الملك وولي عهده. والسبب في ذلك أن صلاحيات المجلس مازالت محدودة للغاية، وعليه فليس هناك ما يتطلب تحويله الى ختم. وبإستثناء رفض مقترح الضريبة على دخل العمال الأجانب في المملكة (حيث أظهرت نتائج التصويت معارضة 73 عضواً من أصل 120 عضواً)، فإن المجلس يبقى مجرد جهة إستشارية، وعلاقته مقتصرة على مجلس الوزراء، أي عدم وجود تواصل بين المجلس والسكان.

في حقيقة الأمر، يعتقد كثير من المراقبين بأن إنفراطاً ملحوظاً حصل في المجتمع السعودي بعد أحداث الحادي عشر من سبتمبر، شّجع ذلك الى حد ما على كسر الجمود السياسي والثقافي والاجتماعي الذي تفرضه السلطة الحاكمة أو حتى التقاليد الاجتماعية والدينية. فقبل عدة سنوات، لم تكن النقاشات السياسية العلنية بإتجاه الدفع نحو مجالس محلية منتخبة ومجلس شورى منتخب قد يحسب على أنه إختراق علني وخطير للخطوط الحمراء الوهمية. ولكن اليوم، فإن ثمة جرأة غير مسبوقة كسرت حاجزي الخوف والخطوط الحمراء المفروضة، فأصبح النقاش حول الانتخابات محتملاً من قبل السلطات السعودية، دع عنك المجتمع الذي بات ينخرط في حوارات سياسية بحماسة عالية. فالحريق الذي إشتعل في مدرسة البنات في المنطقة الغربية وأدى الى وفاة عدد من الطالبات، أشعل طاقة النقد لدى الصحافة المحلية لتصب جام غضبها على الدور التدخلي الذي تلعبه المؤسسة الدينية والذي أدى الى محاصرة البنات داخل المبنى بحجة الحفاظ على الحجاب والستر. فقد شنّت الصحافة حملة ناقدة لهيئة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر وهكذا النظام الذي فرض تلك القيود الصارمة على مدارس البنات، مما أدى الى وقوع الضحايا في تلك الحادثة. ورغم أن النقد الصحافي مازال في مرحلة المخاض، بالنظر الى قرارات الإقالة التي طالت عدداً من الكتّاب ورؤساء الصحف إثر نشر مقالات تعتبر مخالفة لقانون النشر، الا أن الطريقة التي ردّ بها الصحافيون المحليون على أداء رجال الدين يعبّر عن رغبة في رؤية نقد أكبر للجوانب السلبية للنظام.

قد يتجه النقد الصحافي في السعودية الى الأسلوب الذي ساد في الصين، حيث يسمح بالنقد والتحقيق في البيروقراطية والفساد المحلي في الصين، ولكن لن يسمح لأحد مهما كان تحدي الحق المطلق والوحيد للحزب الشيوعي في الحكم. فكما يبدو فإن العائلة المالكة باتت تتحمل ما تسمع من نقد لسياسات الوزارات وبعض المؤسسات الحكومية، وقد تكتفي في نهاية المطاف بالمطالبة بعدم المساس بذات الملك.

وعلى أية حال، فإن من المبكّر حتى الآن التفكير في النموذج الصيني، خصوصاً وأن ثمة فارقاً أيديولوجياً مازال يجعل تطبيق النموذج الصيني صعباً، فالحزب الشيوعي في الصين يزعم بانه يمثل إرادة الشعب، بينما العائلة المالكة في السعودية لم تزعم ذلك، ولكنها تزعم بانها تمثل إرادة الله، أي أنها تستمد مشروعيتها من دعوى تبني الاسلام شرعة ومنهاجاً.

شكوك متراكمة حول نوايا الحكومة

تقول الكاتبة كريستشيان ميلرز بأن الناس في كل مكان من السعودية يتحدثون عن شيء واحد وهو: الاصلاح. وتنقل رأياً للناشط السياسي محمد سعيد الطيب، والذي تصفه الكاتبة بـ (أب الحركة الاصلاحية) في السعودية بما نصه (الاصلاح مطلب شعبي الآن، فالكل يتحدث عنه، الرجال والنساء والاصدقاء والجيران).

الاتجاه الشعبي المتنامي بصورة عارمة نحو المطالبة بدمقرطة النظام السياسي السعودي وتنفيذ إصلاحات جوهرية إقتصادية واجتماعية وسياسية، يندفع بقوة سيما في ظل شكوك متزايدة لدى المراقبين لحركة السياسة في السعودية إزاء ما تخفيه إدعاءات الأمراء. وحسب الكاتبة فإن هناك خشية لدى المراقبين بأن السعودية قد تقوم بإستعراض إصلاحي فيما تخطط لعمل القليل في هذا الاتجاه. فالنقاد قد لحظوا بأن المملكة قامت بحملة علاقات عامة في الولايات المتحدة من أجل تحسين صورتها، التي تضررت بحقيقة كون 15 من أصل 19 إنتحارياً في أحداث الحادي عشر من سبتمبر كانوا سعوديين.

يقول دبلوماسي غربي له تجربة طويلة في السعودية بأنه مشكّك حول فرص قيام الحكومة بعمل شيء ما من أجل إصلاحات رئيسية، فالعائلة المالكة (إنما تقوم بعمل تغييرات سريعة حين تكون أرجلها في النار، فأنا لذلك لست على قناعة بأن العائلة المالكة ستدفع بإتجاه التغيير).

هذه الشكوك تسري أيضاً عبر العائلة المالكة والمعارضة السياسية المتشظية. فهناك عدد من الجماعات السياسية المعارضة تعمل من مراكز قيادة في لندن وواشنطن العاصمة لأنها تخشى القمع.

فالمؤيدون للاصلاحات الذين يعملون في داخل السعودية حذرون في القول بأنهم مازلوا يساندون الملكية. ولكنهم الآن ينتقدون الحكومة بصورة علنية ومباشرة، رغم أن ذلك يعتبر في الماضي عملاً عصيانياً حسّاساً يؤدي بصاحبه الى السجن.

وفيما تتصاعد سحب الشكوك من تصريحات الأمراء حول الاصلاح السياسي، ويزداد الطلب الشعبي على تغييرات جوهرية في السلطة، فإن لغة الاحتجاج تسلك طريقها الى الديوانيات الخاصة، والمنتديات الحوارية.

يعتقد الشيخ عبد العزيز القاسم، المحامي وأحد الشخصيات الدينية المتنوّرة في التيار السلفي، بأن (الحكومة مترددة، فهي لا تعلم كم هو مقدار الحرية التي ستمنحه، ولمن يكون ذلك، ولكنها منحتنا فرصة التعاطي مع مشاكلنا).

هتون الفاسي، الاستاذة في التاريخ القديم، تعتقد بأن (السعودية ليس لها خيار، فالإصلاح لم يعد خياراً بعد الآن، بل هو واجب. فهو ليس شيء يمكن التفكير فيه وحوله، وإنما هو واجب من أجل بقاء البيت السعودي).

بعد كل ذلك، فإن ثمة سؤالاً عويصاً يعبّر عن مخاوف العائلة المالكة ويدور حول أسلوب الاصلاح وكميته. فالارباك الحاصل داخل العائلة المالكة يدور حول جرعة الاصلاح المقترحة، حيث يجمع الإتجاه العام والمهيمن داخل العائلة المالكة على أن الاصلاح يجب أن يتم بصورة بطيئة جداً من أجل السيطرة عليه. الأمير الملياردير الوليد بن طلال يقول بأن (علامات المرض قد تم الاعلان عنها وتحديدها. والسؤال الآن هو ماهي السرعة المناسبة لتصميم العلاج؟ فهل ستكون سريعة أم بطيئة).

يصدر هذا الرأي، أي القول بتغييرات تدريجية وبطيئة، عن قناعة لدى البعض بأن التدرّج في التغيير أسلم وأكثر تأثيراً، على أساس القدرة على هضم التغييرات ودرء التأثيرات السلبية الناجمة عنها.

وينظر البعض وبقدر من التفاؤل الى أن إطلاق فكرة الحوار الوطني وتأسيس مركز له يمثل إحدى تعبيرات الاصلاح السياسي ومصاديقة، تماماً كما هو الحال أيضاً بالنسبة للإعتراف بوجود مشاكل الفقروالبطالة وغيرها مما لم يسبق للدولة الاعتراف به وكذلك الحرية النسبية للإعلام.

في المستوى الشعبي، وكما تكشف عرائض جميع ألوان الطيف الاجتماعي والسياسي في الداخل هناك مطالبة بتغييرات جوهرية عاجلة، بناء على أن مشكلات البلد من الخطورة بمكان بحيث لا تحتمل التأخير. ويستند هذا الرأي على أن إيقاع التحوّل الداخلي لا يحتمل تغييرات تجميلية أو سطحية، اضافة الى أن التحديات التي تواجه المجتمع والدولة معاً لا تكفيها جرعات تلطيفية من أجل إحباط تأثيراتها الخطيرة. علاوة على ذلك، فإن تجربة عام 1992 وما تبعها من تداعيات أثبتت أن الجرعات الخفيفة في التغيير لم تسفر سوى عن ردود فعل إنفجارية ونشوء ظواهر راديكالية وجماعات عنف فشلت الدولة في إستيعابها داخل مشروعها الاصلاحي المزعوم.

وفي محاولة لايضاح موقفها من العملية الاصلاحية، وبخلاف تصوير الاتجاه التدريجي للاتجاه الاصلاحي الشعبي، فإن ثمة إتفاقاً بين دعاة الاصلاح خارج السلطة على أن التغييرات المطلوبة يجب أن تكون مدروسة وليست بالضرورة بطيئة، إذ لابد من تشخيص عميق ودقيق للمشكلات والتحديات الراهنة من أجل رسم تصورات حل صائبة، وتالياً اعتماد آليات مناسبة في الاصلاح السياسي.

الاصلاح وإنقسام العائلة المالكة

لم يزل الغموض يلف الانقسام داخل العائلة المالكة حيال موضوع الاصلاح السياسي، فحتى أولئك المتخصصين في الشأن السعودي يعترفون بأنهم لا يعلمون على وجه الدقة ماذا يدور في عقول الامراء الكبار، فالمحللون المبتدئون يسارعون في تصنيف الأمراء الى أجنحة تكشف لاحقاً عن قلة معرفتهم بتعقيدات العلاقة داخل الاسرة المالكة.

وغالباً ما يستعمل نموذج الأمير عبد الله كمعيار رئيسي في التصنيف بين الأمراء، فالرجل يدير من الناحية النظرية الشؤون الحالية للبلاد بسبب التدهور الصحي للملك، ولكن ما لم يكشف عنه حتى الآن هو أن الأمير عبد الله يعد وفق مقاييس عديدة أكثر محافظة من الملك فهد وأشقائه السديريين. فهو أقل إنفتاحاً على الثقافة الحديثة، وهو أقرب الى التقاليد القبلية والى تعقيدات السياسة القبلية أكثر من أخوته السديريين، بمن في ذلك الأمير سلطان.

ولكن الأمير عبد الله يبدو وإستناداً الى حسابات عديدة أكثر انفتاحاً على شكل من الليبرالية، في الاقتصاد والسياسة، ولكن شخصيته تبدو أكثر تعقيداً مما يحاول كثير من المحللين تصويره أو منحه زخماً كاريزمياً. وسواء كان الأمير عبد الله مع أو ضد الليبرالية السياسية من أي نوع، فإنه يبدو والى حد ما واقعي.

وبأخذ تلك الملاحظة بنظر الإعتبار، فمن الناحية الجوهرية فإن أولئك الذين يزعمون معرفة كيف يفكّر الامراء الكبار فهم مخطئون. فحتى الآن، لم تقدّم الحكومة السعودية رؤية رسمية واضحة فضلاً عن خطة عملية حول الاصلاح السياسي. فهناك من الأمراء الكبار من حاول تبديد التكهنات حول ما يدور في الوسط الصحافي والشعبي عن نوايا للعائلة المالكة بإجراء إصلاحات راديكالية وتبني الديمقراطية على النموذج الغربي، فقد جادل أمراء كبار مطوّلاً بأن الديمقراطية لا تنسجم والتقاليد الاجتماعية والقيم الدينية في السعودية. رغم أن ذلك الجدل لا يلغي حقيقة أن البلاد بما في ذلك البيت السعودي محافظ بكل ما في الكلمة من معنى، وأن التغيير ينظر إليه باعتباره مصدر تهديد.

هل ثمة سيناريو للتغيير في السعودية؟

في واقع الأمر، لم تكن السعودية بمنأى عن الحركة البرلمانية المحمومة في الخليج، فحتى تفجّر أزمة الخليج الثانية عام 1991 لم يكن هناك برلمان منتخب في دول مجلس التعاون الخليجي بإستثناء الكويت، وكانت السعودية، حتى ذلك الوقت، تنتقد بصورة مستمرة التجربة الكويتية، أما اليوم فهناك تجارب برلمانية مؤثرة كما في البحرين وقطر وحتى عمان، فقد إستأنفت البحرين تجربتها البرلمانية، ودخلت قطر تجربة دستورية بخطوات حثيثة.

فما هي آفاق الاصلاح السياسي في السعودية؟ يعتقد بعض المراقبين بأن السيناريو المحتمل سيكون البدء بانتخابات محلية على مستوى المجالس البلدية، مع منحها مسئولية تشريعية حقيقية الى حد ما في حدود البلديات المحلية، من أجل البدء بتدريب الناس على فكرة الحكومة المسؤولة، وستكون الخطوة اللاحقة تأسيس مجلس شورى منتخب. وبالرغم من أن بعض المتفائلين يعتقد بأن هذا السيناريو قد يحدث خلال سنتين، الا أن ذلك قد يكون طموحاً مبالغاً ما لم تتدخل عوامل أخرى، من قبيل تنامي حركة شعبية شبه منظمة أو تطورات سياسية إقليمية ضاغطة تفرض على العائلة المالكة تجاوز الحذر التقليدي والحركة البطيئة في التغيير.

وهناك خطوات وسيطة محتملة من قبيل تخصيص بعض المقاعد في مجلس الشورى لنظام إنتخابي معين، بحيث يكون نصف المقاعد معيّن والنصف الآخر منتخب، أو قد يتم إنشاء مجلسين (على الطريقة البحرينية) أحدهما معيّن والآخر منتخب. وهناك أسلوب آخر قد تلجأ إليه الحكومة، وهو السماح للمجالس المحلية والقيادات القبلية بأن تلعب دوراً ما في التحوّل السياسي الداخلي، بأن يكون لها صوت مسموع لدى السلطة، أو إعتماد النموذج العماني بحيث يسمح للناخبين المحليين بإختيار عدد كبير من المرشّحين ثم تقوم الحكومة المركزية بإختيار مجموعة منهم. ولكن ثمة ضرورة للتذكير دائماً بأن مجلس الشورى هو هيئة إستشارية فحسب، وحتى المجلس المنتخب سيبقى إستشارياً وليس برلماناً حقيقياً، بحيث يصبح سلطة تشريعية كاملة الصلاحية.

هذه التخمينات، على أية حال، لا تساعد مطلقاً على الاشارة الى أي جهة داخل العائلة المالكة وبأسماء محددة يمكن التعويل عليها في تبني أي من تلك السيناريوهات، أو الدعوة الى قيام حكومة مسؤولة. بل هي تخمينات يطلقها غالباً من هم خارج العائلة المالكة، ممن يحاولون مساعدة الاخيرة على التخلص من مخاوف التحول السياسي. فهؤلاء يرون بأن العائلة المالكة غارقة في دوامة شكوك وهواجس تحول دون وقوعها على المخرج الصحيح من أزمة بنيوية في الدولة، حيث بات التغيير ضرورياً. ولكن مقدار التغيير ودرجته هو العقدة التي لم تحل حتى الآن، وستزداد كلما تدهورت الأوضاع الداخلية، حيث يسود إعتقاد بأن النزوع الداخلي نحو التغيير يزداد ضراوة في أوضاع تكون فيها الدولة غير قادرة على تلبية الحاجات الاساسية للسكان أو ضبط الأمن الداخلي.

الملاحظات الاحترازية يجب أن يعاد طرحها مكرراً، فانتخابات حرة لا يتوقع أحد أن تكون وشيكة، بالنظر الى عدم وجود إرادة سياسية حقيقية، فضلاً عن غياب آليات وضمانات كفيلة بتحقيق شروط الحرية، إذ يجب أن يسبق الانتخابات الديمقراطية وجود مؤسسات مجتمع مدني مقتدرة وفاعلة. فهناك في التقاليد الاجتماعية ما يحول دون تحقق شروط الانتقال الصحيح الى الديمقراطية ولابد من إعادة تشكيل المجتمع عبر مؤسسات أهلية تتجاوز الانتماءات التقليدية القبلية والدينية والمناطقية، من أجل صناعة نظام سياسي مؤسس على إرادة الأغلبية وإختيارها.

فإذا كان الأمير عبد الله جاداً بالفعل حول إحتمالية تبني إنتخابات وطنية أو محلية يمكن لها أن تتم بمرور الوقت في السعودية، فلا بد أن يعلن عن ذلك بوضوح، لأن ما يطلبه الناس الآن قد لا يثير إهتمامهم غداً وخصوصاً حين تصل الأمور الى مرحلة تفقد فيها العائلة المالكة السيطرة على الأمور، تماماً كما كسر الناس الحظر في مناقشة موضوعات كثيرة كانت أو مازالت ممنوعة، فليس هناك ما يحول دون خوض الناس في الحديث عنها حتى موضوع العائلة المالكة نفسها.

الصفحة السابقة