ماذا تعني الثورة في اليمن لآل سعود؟

محمد قستي

الوقت متأخر جداً لإنقاذ علي عبدالله صالح.

الخاسران

فالنظام في صنعاء فقد مبررات وجوده منذ فترة طويلة، وتوضح ذلك أكثر فأكثر بعد انتهاء الحرب الحوثية السادسة قبل أقل من عام. لكن النظام، لعب جيداً ورقة كان قد خبّأها، وهي ورقة القاعدة التي ظهرت فجأة على السطح لتبرر استمرار وجود علي صالح في الحكم ودعم الغرب له. الغرب لم يرد أن يسمع بأن علي صالح كان والى وقت قريب متحالفاً مع بعض عناصر القاعدة في اليمن، وأنه تواطأ معهم في أكثر من قضية بدءً من محاربة الحوثيين، وانتهاءً بتصفية معارضين يتبعون الحراك الجنوبي.

ومما أبقى علي صالح في الحكم عامل (قتل البديل).. فهو لم يسمح لشخصية بأن تظهر بديلة عنه، كما لم يسمح ببروز اتفاق وطني يمكن أن يفضي الى بديل، بل أنه منع اجتماعات المعارضة حتى اذا ما أريد لها أن تنعقد في الخارج (دمشق) حتى لا يظهر ذلك البديل.. الى أن جاء الشارع اليمني وصنع بديله الخاص به.

الذي تغير الآن الشيء الكثير: لم يعد وجود شخص بديل أمراً حاسماً في ظل الإتفاق المتزايد على أن على علي عبدالله صالح أن يرحل. رحيل علي صالح هو الشعار الموحد للجميع من الحوثيين في الشمال، الى الحراكيين في الجنوب، مروراً بأحزاب المعارضة في البرلمان ـ اللقاء المشترك.

هناك رفض لأي حوار مع علي صالح ـ بعد أن كان هذا الأخير هو الذي يرفض لقاء الآخرين المعارضين عند منتصف الطريق. لا حوار إلا في موضوع التنازل عن الحكم، وعدم السماح للرئيس مواصلة حكمه حتى 2013 كما يريد، مع ملاحظة ان حاكم صنعاء قدم تنازلات عديدة تتعلق بمسألة توريث الحكم، والرئاسة الدائمة مدى الحياة، والسبب هو أن الشعب لم يعد يثق بوعوده، فقد وعدهم مراراً وكذب، فلماذا يصدقونه هذه المرة خاصة إن كانوا قادرين على إسقاطه.

حركة الشارع تكسب زخماً أكبر يوماً بعد آخر، وهي تقترب من تحقيق أهدافها. نزول المعارضة بجميع أشكالها الى الشارع دعماً للشباب؛ انسحابات متواصلة من أعضاء البرلمان ممن ترشحوا على قائمة حزب الرئيس؛ وتحوّل القبائل ضد علي صالح خاصة قيادات أكبر قبيلتين وهما: حاشد وبكيل. اضافة الى أن عدداً من القيادات العسكرية والأمنية اخذت بالإنسحاب والإنضمام الى صفوف المعارضة.. كل هذه الأمور جعلت الرئيس اليمني متوتراً، وقد انعكس ذلك على شكل تصاعد في خشونة رجال أمنه وتزايد عدد الضحايا والشهداء في ساحة التغيير وغيرها.

لكن السعودية التي تشهد بأم عينها كيف يتبدد نفوذها يوماً بعد آخر في ذلك البلد، لاتزال تلحّ على حلفائها ـ أو القلّة المتبقية منهم ـ بأن يبقوا على تحالفاتهم مع علي عبدالله صالح، وأن لا يتركوا السفينة، بالرغم من أنها قد شارفت على الغرق. ولكنها تعلم فيما يبدو بأن زمن حليفها قد انتهى، شأنها في ذلك شأن أميركا ودول الغرب ودول الخليج الأخرى، التي باتت متأكدة بأنها لا تستطيع إنقاذه حتى لو أرادت. ليست هناك من وسيلة لحماية نظام لا يريده شعبه. هذا درس متكرر بات يفاجئنا منذ أحداث تونس ولازال. السؤال يدور حول تقليص الخسائر فحسب.

دول الخليج مشغولة بنفسها بشكل كبير، وليس لديها فائض من الجهد والتفكير والطاقة والوقت لإنقاذ حاكم صنعاء، الأولولية ليست له، بل للبحرين. السعودية تعودت اللطمات والخسائر المتتالية: بدأت بسعد الحريري؛ ومرت بزين العابدين بن علي صديق نايف الحميم؛ ثم جاءت على عمود الخيمة حسني مبارك، الذي مثّل سقوطه ضربة قاصمة لمكانة السعودية في الشرق الأوسط ستجعلها تعيش كدولة من الدرجة الثانية أو الثالثة في التأثير السياسي. والآن على السعودية أن تقلق بشأن ما ينتج عنه مخاض البحرين وأن تتحمل النتائج بادية العيان بسقوط علي عبدالله صالح، الحليف الذي صنعته رئيساً ونصبته منذ 1978م بعد أن اغتالت هي ـ وبتخطيط الأمير سلطان ـ الرئيسين الغشمي والحمدي.

كان السعوديون يتحدثون قبل عام عن النفوذ الإيراني الذي يطوق السعودية، وقالوا أن العمامة السوداء ـ كناية عن ايران ـ تطوق المملكة من الجنوب، واعتبروا ذلك سبباً مباشراً لحربهم على الحوثيين الذين تتهمهم السعودية بالعمالة لإيران، بالرغم من أن لا دليل للسعودية على ذلك كما كشفت ذلك وثائق ويكيليكس. السعوديون لم يشأوا أن يجدوا الى جانبهم حركة دينية زيدية تمنع تغلغل نفوذ الوهابية في اليمن، وبالضرورة سيكون نموها وقوتها سواء عبر الإنتخاب أو السلاح أداة إضعاف للنفوذ السعودي في اليمن.

اليوم لا يقول السعوديون أن ما يجري في اليمن وراءه إيران كما هي العادة. خاصة وأنهم واعلامهم يروج الى أن إيران نفسها قد يصيبها ما أصاب العالم العربي من تحولات.

في زحمة الأحداث، اتجهت الرياض ـ وفي محاولة بائسة مرة أخرى ـ الى واشنطن لتعاتبها ولتطالبها بحماية نظام صنعاء، بحجة الخوف من القاعدة، ومن النفوذ الإيراني المحتمل في المستقبل.

عتاب الرياض تقابله واشنطن بالشرح لأمراء عجزة لا يفقهون ولا يريدون أن يفقهوا: إن قدرة واشنطن على مواجهة هذا النمط من الثورات الشعبية غير ممكن. وأن علي عبدالله صالح لا يمكن إنقاذه إلا من خلال تسوية مع القوى السياسية (أي مع شعبه).

تطييباً لخاطر الرياض طالبت واشنطن المعارضة اليمنية بأن تقبل مبادرة علي عبدالله صالح الأخيرة والتي ألمح فيها الى وضع دستور جديد وتداول للسلطة يتم في نهاية عام 2011. لكن المعارضة ليست هي التي تقرر وإنما الشارع اليمني. والشارع المتظاهر يرفض التفاوض مع حاكم بلا مصداقية طالما كذب وخادع. وحين اشتد القمع على المتظاهرين في ساحة التغيير، خشيت واشنطن من اتهامها بممالأة حاكم صنعاء، فأدانته يوم 13/3/2011، وهو يوم إدانة عنف نظام العائلة المالكة في البحرين أيضاً.

مالذي يخيف السعودية مما يجري في اليمن؟

يمكن اختصار ذلك في أمرين: خسارة نفوذ موجود؛ والخوف من تأثير سلبي تولده الثورة إن نجحت.

إذا ما أُطيح بعلي صالح، وقام نظام أكثر ديمقراطية في اليمن، فإن أدوات السعودية وتأثيراتها على السياسيين وعلى السياسات في اليمن ستكون أقلّ بكثير. لا ننس أن هناك متذمرين من تصاعد النفوذ السعودي السياسي والديني المتطرف (الوهابية). وهناك اعتقاد شائع ومنذ زمن بأن السعودية تصدر الى اليمن أسوأ ما لديها من فكر متطرف وفساد غير مسبوق.

الثورة في حال نجاحها ستصنع بلداً مستقلاً ذا كرامة، وسيضعف النفوذ الأجنبي السعودي والأميركي وغيرهما. لن يقبل أحدٌ أن تبقى اليمن مزرعة سعودية، ولا أن يكون حاكمها بوّاباً عند القصور السعودية، أو شحّاذا في دواوينهم. لن يقبل حاكم يمني أن تكون للسعودية دولتها الخاصة بها في اليمن.

والأصوات اليمنية التي أخمدت لأجل عيون النظام السعودي، لن تكون صامتة في بلد حرّ متحرر. لن يصمت اليمنيون عن التدخل السعودي، والمنتفعين من آل سعود، سواء كانوا شيوخ قبائل أو وزراء أو موظفين كبار، أو رجال دين.

ولن يكون للمذهب الوهابي حصانته. لن يسمح له بإشعال الفتن بين الشافعية والزيدية. لن يسمح للمدارس السعودية بأن تفرخ الطائفية والفتن والقاعدة. ومشايخ الوهابية السعوديين الذين يطوفون لنشر وهابيتهم في اليمن لن يحصلوا على هذا الامتياز في حين ان زعماء الزيدية في معقلهم اليمني يحرمون من أبسط حقوقهم. هذا زمن فات. وهذه خسارة سعودية أخرى.

ولن تكون اليمن في حال نجحت ثورتها موضعاً للإبتزاز السياسي، مجبرة على متابعة السياسة السعودية، حقاً أو باطلاً.

باختصار فإن الثورة في اليمن ستأتي برجال ووجوه جديدة (الكثير منها على الأقل) غير ملوثة بأموال السعودية وفسادها.

وستأتي الثورة بسياسات استقلالية تقلص النفوذ السعودي السياسي غير المشروع الذي عاث في اليمن فساداً منذ أواخر الستينيات الميلادية الماضية. خاصة في عهد علي صالح (شرطي السعودية) كما يسمى.

وستقلص الثورة نفوذ الوهابية في اليمن بشكل كبير، ولن يسمح بها بإشعال الفتن فضلاً عن التوسع.

فلماذا اذن تدعم السعودية الثورة على صاحبها في صنعاء؟

في الطرف الآخر، السعودية تخاف من انتشار روح الثورة الى أراضيها والى جمهورها. ليست اليمن وحدها من يبث الثورة، فهناك بؤر أخرى أهمها مصر، وبعدها تونس وربما البحرين وليبيا وغيرها.

والسعودية قلقة من أن تكون محاطة بثورات وانظمة ديمقراطية، فلا تستطيع إبقاء سيطرتها على شعبها قوية محكمة.

هناك تأثير مباشر وسريع على الوضع السعودي من جهة أن انتصار الديمقراطية في اليمن سيشجع السعوديين أكثر للمطالبة بالمثل أو القيام بالمثل. اذا كانت السعودية تخشى أن يكون اليمن ملاذاً للقاعدة والعنف والثورات التدميرية التي تؤثر عليها باعتبارها جارة جنوبية، فإن السعوديين يعلمون الآن بأن الثورة الديمقراطية نفسها قد تكون أسوء ما يطرأ في خيالهم. ستكون السعودية مطوقة بتجارب ديمقراطية مختلفة من كل الإتجاهات، وستبدو أنها النموذج الأسوأ في الحكم الإستبدادي. هناك النموذج العراقي والأردني والكويتي وحتى البحريني فضلا عن المصري وغيره.. وهذه الأنظمة هي بالقطع أرقى من الحكم السعودي وأداءه. لا يقل خطر أن تطوق السعودية من أنظمة تتحول باتجاه الديمقراطية من خطر وجود أنظمة ثورية معادية في الجوار السعودي كما كان الحال في الستينيات الميلادية الماضية.

استعدت السعودية منذ سنوات لإقامة سور عنصري بين الحدود السعودية اليمنية، أسوة بما عزمت على إنفاقه، أو ما أنفقته فعلاً: (20 مليار ريال) على سور مماثل في الشمال مع العراق، وذلك لمنع تهريب الأسلحة، ولحماية نفسها من التوترات. الآن يثبت أن تلك المشاريع كانت معدّة للنهب، ويحتمل جداً أن لا يرى أي منها النور، خاصة وأن الأسوار السعودية المادية لا تمنع انتقال العدوى الثورية والديمقراطية. التويتر والفيس بوك وهاتف الجوال ومنتديات الإنترنت واليوتيوب كلها لا يفيد معها لا الحجب الذي تمارسه مدينة الملك عبدالعزيز للتقنية، ولا أسوار شائكة وحيطان عنصرية كتلك التي في فلسطين. التغيير قادم لا محالة سواء كانت هناك أسوار أو غير أسوار.

تزعم السعودية بأنها تخشى القاعدة في بلد ديمقراطي، بالرغم من أنها هي من أنتجها وصدّرها الى اليمن.. ثورات العالم العربي تبين أن خشية السعودية غير حقيقية، فقد عزلت الثورات العربية القاعدة وأضعفتها كنموذج يحتذى. لن تهدد القاعدة اليمن الديمقراطي. هي أقل من ذلك. في الحقيقة فإن السعودية لم تعد تخشى قاعدة اليمن بقدر ما تخشى وصول الحوثيين الى السلطة أو المشاركة فيها عبر الإنتخابات.

وقد تخشى السعودية تمزق اليمن الذي حاربت وحدته ردحاً من الزمن ولاتزال تمسك بورقة الإنفصاليين الجنوبيين فيه. علي صالح يعزف على ذات الوتر: فقد ربط مصيرة بوحدة اليمن، ورحيله بتفككها الى ثلاث دول مزعومة. قد ينفصل الجنوب ويستعيد دولته القديمة، وهذا ليس سببه الديمقراطية، بل استبداد علي عبدالله صالح. واذا ما حدث ذلك، فقد تؤثر الديمقراطية اليمنية والنموذج اليمني في تمزيق السعودية ايضاً، إن لم يبادر قادتها الى الإصلاح. ليس معلوماً أن المواطنين في الشرقية والغربية يريدون مواصلة العيش تحت حكم آل سعود.

الرياض قلقة من نجاح الثورة اليمنية. وهي لن تكل عن مقاومتها. وستعمد الى تخريبها من الداخل، حتى لو نجحت ابتداءً.

لا تستطيع السعودية أن تبقى هادئة إلا أن ترى اليمن (اكبر دولة في الجزيرة العربية سكاناً) غارقة في مشاكلها تعيش عالة على غيرها.

لن تقبل السعودية أن يأتي حكام الى اليمن حتى وإن انتخبوا شعبياً لا يوافقونها الرأي ولا يقبلون مماشات حكام الرياض في الفساد والإفساد. ولن يكون أمامها إلا الإصطدام بالحكم الديمقراطي القادم الى صنعاء.

الرياض تعيش أسوأ ايامها. لم تعتد ان تواجه هذه العدد من الثورات، وبمثل هذا الإنقلاب في المزاج الإقليمي والدولي في غير صالحها. ولأول مرة تشعر بمحدودية تأثير المال في تفكيك الثورات وتدميرها.

الثورة اليمنية شارفت على الإنتصار.. وعلينا أن نطمئن الى أمر واحد هو: أن ما يجري الآن في صنعاء لا يسير حسب ما يرغب به مستبدو الرياض. ولن تكون المحصلة في صالحهم أبداً أبداً!

الصفحة السابقة