مقتل ابن لادن.. ومصنع التطرف لازال قائماً

محمد السباعي

رحل ابن لادن عن الدنيا، ولا يعرف أين بالتحديد رميت جثته في عرض البحر (العربي على الأرجح) خشية أن يتحوّل دفنه في البرّ الى مزار مقدس، على غرار قبر صدام حسين، مع أن الوهابية لا تؤمن بتطقيس القبور ولا برعايتها. لكن التجربة في أفغانستان تؤكد أن كثيراً من قبور المقاتلين العرب هناك تحوّلت الى مزارات تطلب عندها الحاجة، كما كشفت عن ذلك التحقيقات التي نشرتها المطبوعات السعودية نفسها.

أياً يكن الأمر.. فالقضية اليوم تتعلق بمرحلة ما بعد ابن لادن. جميع التعليقات من المؤيدين والمعارضين لابن لادن، من العرب والأعاجم بمن فيهم الأميركيين يؤكدون بأن القاعدة تلقت ضربة قوية بمقتله، ولكنها لن تنتهي على الأرجح.

حتى المسؤولين السعوديين أنفسهم علّقوا على خبر مقتل ابن لادن بلغة التمنّي والأمل بأن يساعد مقتله في مكافحة الإرهاب (حسب التعريف والمواصفات الأميركية بالطبع).

القاعدة كحزب سياسي مؤدلج، وكنموذج للتغيير عبر العنف، وكمؤسسة قائمة من حيث الأهداف، ضُربت بشدّة أكثر من مسألة مقتل ابن لادن على يد الأميركيين، وذلك من قبل الثورات العربية في تونس ومصر واليمن بالذات. حيث قدّمت هذه الثورات نموذجاً مختلفاً لطريقة التغيير عبر الحراك السلمي الذي هو أسرع تأثيراً وأقل كلفة من نموذج القاعدة، وقدّمت أهدافاً ترتكز على مبادئ العدالة والمساواة الأقرب الى روح الدين والى العقل، كما قدمت طريقة الحشد الجماهيري مقابل التنظيم المغلق، فكان أن بهت النموذج القاعدي الفاشل أساساً، والذي لم ينجح في إسقاط نظام عربي واحد، ولو أسقطه لن يقدّم نموذجاً في الحكم أفضل منه رغم سوئه.

لم تقدم لنا القاعدة في نموذجها الحديث لما بعد 11 سبتمبر 2001 إلا سيلاً من الدماء للأبرياء، والحروب الداخلية، والفتن الطائفية والقتل على الإنتماء والهوية الدينية والمذهبية وحتى السياسية. لم يقدم لنا نموذج القاعدة حالة ناجحة واحدة يمكن البناء عليها، سوى بيانات تشطح يميناً وشمالاً تمتلك وحدها الحقيقة العقدية (الفرقة الناجية)، كما تمتلك وحدها الحقيقة السياسية (فهمها السياسي الخاص هو الصحيح)، وأيضاً تمتلك الوسيلة الفضلى بنظرها للتغيير.

لم تترك القاعدة أحداً إلا وعاندته وشتمته واستسخفت رأيه من الإسلاميين وغيرهم.

هذا النموذج القاعدي المتطرف ضربته الثورات العربية في الصميم، وصار منتج القاعدة صغير قميء، بالقياس الى حجم ما أنتجته الجماهير الثائرة والسرعة التي تقدمت بها في تحقيق مطالبها ورغباتها والتي تعد بمثابة استفتاء ضد خيار الدولة الإسلامية/ في نموذجها الوهابي القاعدي.

قبل ان يقتل ابن لادن سقط بل كاد أن يقتل النموذج القاعدي في أعين الجماهير العربية على الأقل. وحين قتل الرمز للقاعدة، فإنها أُضعفت الى حد كبير، لكن القاعدة لن تنتهي، واذا ما انتهت فسوف تظهر فئة جديدة تحمل نفس الأفكار وتسير على نفس المنهج.

لا نرجم بالغيب! ولكن التجربة السعودية تؤكد أن تطرّف الوهابية يقدم بين كل بضعة عقود نموذجه الجديد، ابتدأ بالنموذج الإخواني (غير الإخوان المسلمين) وذلك في أواخر العشرينيات وبداية الثلاثينيات الميلادية الماضية؛ ثم قدّم نموذجه الجهيماني الذي احتل الحرم المكي في نوفمبر 1979 بهدف اسقاط النظام السعودي عبر خسف الأرض! ثم جاء النموذج الصحوي مع بداية التسعينيات الميلادية الماضية بوجوه العودة والحوالي وناصر العمر والعبيكان والقرني وأضرابهم. وأخيراً طغت النسخة القاعدية بقيادة أسامة بن لادن. كل هذه النماذج حملت فكراً واحداً مخلصاً لأفكار الوهابية في نسختها الأصلية، غير المدنّسة بآثام الولاء لآل سعود. بالطبع ارتدّ بعضهم عليها وقبل بنسخة المؤسسة الدينية الوهابية الموادعة لال سعود. ولكن الفكر استقي من المنبع الوهابي نفسه، ومن محاججاته وتفسيراته ورؤيته للكون والحياة والصراع بين الخير والشر، حسب منطقه.

السؤال الذي يطرح الآن هو: كيف تختفي القاعدة، مادام الفكر التأسيسي لها قائم ومصنعها يكثر من انتاج الرجال والتطرف في الفتوى والرأي؟

لقد أغلقت نصف نافذة من منافذ التطرف الوهابي بمقتل ابن لادن، فيما الأبواب مشرعة ويتم تخريج أجيال من المتطرفين في المدارس والمعاهد والجامعات السعودية. ليس فقط للسعوديين، وإنما أيضاً ـ وعبر الجامعة الإسلامية في المدينة المنورة ـ يتم تصدير الوهابية المتطرفة ومشايخها الى كل أنحاء الدنيا.

من العبث التفكير ـ مجرد التفكير ـ بأن التطرف والدموية الوهابية ستنتهي بموت ابن لادن او حتى باختفاء القاعدة. هناك أجيال عديدة من الأفراد والمشايخ لازال المصنع المتطرف في السعودية ينتجها ويصدرها الى كل أنحاء الدنيا.

قضية المصنع هذا هي الأساس، وما عداه مجرد تفاصيل. فبوجود الفكر الوهابي ـ الذي لا يمكن قتله بالقوة ولكن يمكن التخفيف من حدته وتهميشه ـ وبوجود الإرادة السياسية للعائلة المالكة السعودية لاستثماره ودعمه مالياً وتغطيته سياسياً والدفاع عنه في المنابر (كما يفعل سلمان ونايف وبقية الامراء هذه الأيام). وبوجود الرغبة لدعاة الفكر في نشره الى عوالم أخرى لاتزال كافرة وضالّة! لتحصيل انتصار مذهبي وفق الحقيقة التي يراها الوهابيون.. بوجود كل هذا، ستبقى المشكلة قائمة، وقد يتغيّر الشكل أو الإسم أو القيادة.

وجود المصنع مرتبط بآل سعود وحكمهم. وهذا الحكم متزاوج مع الوهابية لتوفير شرعنة سياسية للحكم من جهة ونشر المعتقد داخلياً، وتغليب فئة أقلية عددية ومذهبية في السعودية (وهي الوهابية ضمن محيطها المناطقي النجدي). ولهذا فإن مصير الوهابية مرتبط بمصير الحكم السعودي، والعكس صحيح أيضاً.

بمعنى آخر: مصير التطرف القاعدي وأشباهه لا يرتبط بالرجال ولا بالتنظيم، بل بالفكر الوهابي ومؤسساته، القائمة على دعم الحكم السعودي الذي يستثمر الفكر والمعتقد والرجال في معاركه الداخلية مع الشعب المسعود نفسه، ومع الآخرين في الخارج. لهذا نرى أن السياسة الخارجية السعودية تعتمد في كثير من الأحيان على أدوات وهابية، كما هو الصراع مع ايران وسوريا وليبيا ومثلها مع صدام وعبدالناصر وغيرهم، فضلا عن استخدام فتاواها ضد الثوار في كل من مصر وتونس واليمن. الطائفية واليد الوهابية أداة في السياسة الخارجية السعودية، ومصير الوهابية كما القاعدة وأي تنظيم وهابي متطرف مرتبط بالحكم السعودي.

إضعاف الوهابية اضعاف لآل سعود، وهذا لن يسمح به. وقد رأينا في الشهور الثلاثة الأخيرة الماضية كيف أن النظام السعودي عاد بقوة وشراسة الى معاقله الوهابية، وواجه بها دعوات التغيير والإصلاح والتظاهر، وهو الآن يعتمدها في سياساته الإقليمية.

ولقد حاول الأميركيون عبثاً ـ من خلال تنظير هزيل ـ أن يعزلوا آل سعود عن الوهابية بعيد احداث سبتمبر 2001، فاكتشفوا استحالة ذلك، لصعوبة الفصل بين السياميين السعودي والوهابي، وحتمية موتهما معاً إن تم الفصل.

يقولون أن القاعدة ستبقى!

نعم ستبقى، وسيقودها على الأرجح كوادر من السعودية، وبفكر من السعودية، وبأموال من السعودية. ومن وجهة نظر ال سعود فإن القاعدة ليست سيئة إلا لأنها تمردت على الخط السياسي السعودي، وإلا فإن المشترك العقدي يشفع لها ولأتباعها حتى اليوم ممن تم اعتقالهم في السجون، أن يحصلوا وفق برنامج التأهيل الذي يقوده مشايخ الوهابية انفسهم، على اطلاق السراح المشروط، وعلى وظيفة، وعلى مساعدة للزواج، مقابل أن يقلعوا عن جزئية صغيرة من برنامجهم السياسي: ان يعتبروا ولي الأمر (الملك) قائم على حكم شرعي، وأن يعتبروه مرجعيتهم السياسية فيستأذنونه فيمن يضربون ويفجرون!!

باختصار: القاعدة باقية، وبأشكال مختلفة، مادامت الوهابية باقية، ومادام الحكم السعودي باق!!

الصفحة السابقة