قانون مكافحة الارهاب

الاستبداد السعودي بغطاء أميركي

هيثم الخياط

منذ اندلاع الثورات العربية في كانون الأول (ديسمبر) من العام الماضي، كل قانون يصدره آل سعود ويتعلّق بصورة مباشرة بالحريات العامة والفردية يواجه أميركياً بصمت في العلن ومباركة في السر. الإحساس بالذنب الأميركي حيال التخلي عن الرئيس المصري المخلوع حسني مبارك، والانتقاد السعودي لموقف الإدارة الأميركية من حلفائها في زمن الشدّة جعل الأخيرة تعوّض النظام السعودي بجملة مواقف لا يمكن وصفها سوى أنها نفاق أميركي على حساب المزاعم الديمقراطية والليبرالية الأميركية.

كان يتوقّع كثيرون في الشرق الأوسط والعالم أن يكون لدى الإدارة الاميركية موقف حازم مما ورد في بيان الملك عبد الله في 17 آذار (مارس) الماضي من تعزيز لدور المؤسستين الأمنية والدينية، على حساب المطالب بالحريات والمشاركة السياسية وحقوق المرأة. التزمت إدارة أوباما الصمت، وتظاهرت بأنها لم تسمع به، بل إن دخول قوات درع الجزيرة الى البحرين لقمع حركة شعبية سلمية مؤيّدة للديمقراطية هو الآخر لم ينل إهتمام الإدارة الأميركية التي زعمت بأنها لم تعلم به إلا من وسائل الإعلام، رغم أن وزير الدفاع الأميركي روبرت جيتس كان في المنامة عشية دخول قوات درع الجزيرة، وكان ملك البحرين قد أبلغ حينذاك قيادات في جمعية الوفاق البحرينية بذلك بهدف إقناعها للقبول بالنقاط السبع المقترحة من قبل نجله ولي العهد الشيخ سلمان للحيلولة دون دخول قوات درع الجزيرة، والذي وصف بأنه خيار داعم لرئيس الوزراء الشيخ خليفة..

الأميركيون تصنّعوا الخلاف مع الرياض بخصوص دخول قوات درع الجزيرة الى البحرين، فيما الجميع يدرك أن السعودية أصغر من أن تقدم على قرار بهذا الحجم دون إذن مسبق من الإدارة الأميركية، التي تحتفظ بأكبر قاعدة بحرية في البحرين.. على أية حال، ليس هناك عاقل صدّق مزاعم الأميركيين، بل إن تصريح وزيرة الخارجية هيلاري كلينتون (أن للبحرين الحق في الاستعانة بدول مجلس التعاون الخليجي..)، دليل كافٍ على موافقة أميركية ضمنية بقرار دخول قوات درع الجزيرة..أضف الى ذلك، إن سلوك جيفري فيلتمان، مبعوث وزيرة الخارجية الأميركية، مع قيادا? المعارضة البحرينية وخصوصاً جميعة الوفاق يكشف بوضوح أن الرجل يعمل وفق أجندة مرسومة سلفاً. ففي كل زيارة الى المنامة، كان فيلتمان يسعي إلى قياس "نفس" المعارضة، بعد موجة من القمع، لجهة الحصول على الحد الأكبر من التنازلات وتقديم الحد الأدنى من الحقوق..

التجربة الأميركية في البحرين بمثابة عار لا يجوز أن يُنسى، وسيكتب مؤرّخو البحرين والخليج (من غير الرسميين بطبيعة الحال) أن الإدارة الأميركية كانت من أبرز معوّقات التحوّل الديمقراطي في البحرين، وأن قوات درع الجزيرة بقيادة السعودية ما كانت ستقدم على قرار الإجتياح لولا حصولها على ضوء أخضر أميركي، ولو أرادت منع السعودية من فعل ذلك لفعلت بتصريح واحد تعلن فيه مجرد رفضها هذا النوع من التدابير إزاء حركة شعبية سلمية تطالب بالديمقراطية..

لم يحصل ذلك، بل لحظنا مباركة الإدارة الأميركية لمبادرة خليجية تقودها السعودية في اليمن، للحيلولة دون انتقال ديمقراطي حقيقي يقوده الشعب اليمني بكل أطيافه، خصوصاً القوى الكبرى المشاركة في الثورة، وليس مبادرة قائمة على أساس "طبخة" سياسية من أجل نقل السلطة من اليد اليمنى الى اليد اليسرى لحلفاء السعودية والولايات المتحدة. ولأن الأخيرتين باتتا على قناعة تامة بأن علي عبد الله صالح لم يعد رجل المرحلة وأنه بات مرفوضاً من غالبية الشعب اليمني، فأرادا تقديم بديل ـ حليف آخر يضطلع بمهمة استكمال الدور.

التنسيق السعودي الأميركي في أكثر من ملف إقليمي (البحرين، اليمن، ليبيا، وأخيراً سورية) ولا شك أن لكل منهما دوراً خفياً من أجل حرف مسار الثورتين التونسية والمصرية، من شأنه أن يزيد في كراهية الولايات المتحدة وتصعيد النقمة على النظام السعودي الذي بات اليوم في نظر أغلب الشعوب العربية الأشدّ نبذاً بسبب مؤامراته على قضاياها.

غياب واشنطن عن السمع والبصر لما يقوم به الملك وكبار الأمراء من تدابير لا يمكن وصفها إلا بأنها إستفزازية ومصادمة عنيدة مع الواقع الإجتماعي والسياسي المتحوّل في الشرق الأوسط، يعكس أن المسؤولين الأميركيين لا يمثّلون مصالح بلدهم بل هم ممثّلون لشركات نفطية أو تسليحية.

السيف الأملح يحكم السعودية!

لا يمكن لمثل قرارات سعودية تلغي الحقوق الأساسية للمواطنين أن تقابل بتجاهل دول تدّعي بأنها ديمقراطية ومدافعة عن حقوق الإنسان، ما لم يكن هناك ما يدفعها الى إلتزام الصمت.

المثل القائل (من أمن العقوبة أساء الأدب) ينطبق على الدول كانطباقه على الأفراد، فقد كان مرور بيان الملك عبد الله الذي جاء في سياق "زفّة" التقديمات الإجتماعية بقيمة 36 مليار دولار، والذي حظر فيه توجيه النقد لأي من أعضاء هيئة كبار العلماء بل ولرجال الدين، دون أن يثير حفيظة أي من الحلفاء الغربيين، الذين أضاءوا على التقديمات الاجتماعية وتجاهلوا عن عمد ماذا يحمل قرار تعطيل (حرية التعبير) من دلالات، شجّع الملك عبد الله ومن ورائه وزير القمع نايف على استكمال خطة تكميم الأفواه وبناء مملكة الخوف والصمت.

فقد تسرّبت نسخة أوليّة من (مشروع النظام الجزائي لجرائم الإرهاب وتمويله) وقد نشر في 22 تموز (يوليو) الماضي، والذي علّقت منظمة العفو الدولية عليه بما نصّه (أن السلطات قد تستخدم القانون لخنق المعارضة والاحتجاجات المؤيدة للديمقراطية في المملكة). وفيما بدأت الولايات المتحدة ودول أوروبية بالتخلي عن "ذريعة" الإرهاب لما خلّفته من تداعيات اجتماعية واقتصادية وسياسية وأمنية، عاد آل سعود لاستغلاله بطريقة وقحة، حيث وفقاً للنسخة الأولى من القانون يصبح نقد سياسات الدولة أو مواقف الملك وولي عهده مندرجاً في قانون مناهضة ال?رهاب، الأمر الذي يجعل كل أشكال المعارضة مرفوضة في هذا البلد، دون تمييز بين الكلمة الحرّة والسلاح، مع أن تعامل آل سعود مع التنظيمات المسلّحة كان ناعماً كما ظهر في برنامج المناصحة الذي يمنح المسلّحين فرصة الحصول على مكافآت مالية وزوجة ووظيفة، فيما كان نصيب من رفع الكلمة الإعتقال التعسفي والبقاء لفترات طويلة في السجون دون محاكمة أو حتى تمثيل قانوني.

لم تكن الولايات المتحدة ولا حكومات أوروبية من جهر بانتقاد قانون مناهضة الارهاب في السعودية، ولكنها المنظمات الحقوقية التي عبّرت نيابة عن السكّان عن قلقها من استعمال القانون لمنح وزارة الداخلية سلطات واسعة وتحويل البلاد الى دولة أمنية يفعل بها وزير الداخلية ما يشاء دون إذن أو إشراف قضائي. ما يبعث على الانكار ما جاء على لسان المتحدث بإسم مجلس الشورى السعودي محمد المهنا في 5 آب (أغسطس) الماضي، حين قال أن (المنشور هو مسودة القانون وليس القانون)، فيما كان الأولى به انتقاد المسودة، لأنه الأساس الذي يعتمد عليه في?المناقشة وهو يشكل المرشد في كل المناقشات القانونية. صحيح أن المهنا قال بأن مشروع القانون جرى تعديله بالمقارنة مع النسخة المسرّبة. ولكن التعديلات وضعت في صيغ ضبابية وليس هناك نصوص قاطعة في القانون تكفل حقوق المواطنين، فيما الإصرار على (اتفاق القانون مع الشريعة) أو (القوانين في الدولة) يجعل مساحة الاجتهاد من الجهة صاحبة القوة واسعة الى حد تضييع حقوق المواطنين. الوعود بإجراء المزيد من التعديل لمشروع القانون بعد العودة من العطلة الصيفية التي تنتهي في منتصف سبتمبر القادم قبل إرساله إلى الملك للمصادقة عليه، لا ت?مل الكثير من التفاؤل، لأن التعديلات ضمن القوالب القانونية والغامضة لا تجعل للتفاؤل مكاناً، فضلاً عن أن مجلس الشورى بسلطاته المحدودة للغاية لا يؤمل منه لعب دور كبير وفاعل في المجال التشريعي فدوره يقتصر على اقتراحات غير ملزمة، فهو كما أسلفنا أقل من استشاري وأبعد عن تشريعي.

في هذا البلد، إعتاد السكّان على قوانين تكفل حقوق الدولة ورجالها، ومنها قانون مناهضة الإرهاب سيء الصيت، ولكن نادراً ما صدر قانون مستقلاً يقضي باحترام حقوق الأفراد في التعبير والتجمع والاعتراض. مشروع القانون كما نشرته منظمة العفو الدولية على موقعها في 22 تموز (يوليو) الماضي يعتبر تعريض الوحدة الوطنية للخطر وتشويه سمعة الدولة أو مكانتها جرائم ارهابية ويسمح باحتجاز المشتبه بهم إنفراديا لفترة غير محددة اذا أقرت ذلك محكمة خاصة. كما ينص على الحكم بالسجن لمدة لا تقل عن عشر سنوات على أي شخص يشكك في نزاهة الملك أو و?ي العهد. هذه الفقرات من القانون كافية لأن توصّف طبيعة الكيان الذي يمكن أن يعيش فيه السكّان، إذ يصبح كل من يطالب بالإصلاح السياسي إرهابياً. نتذكر هنا تصريحاً لوزير الخارجية السعودي الأمير سعود الفيصل مع نظيره الأميركي كولن باول عشية اعتقال الرموز الاصلاحية في 15 مارس 2004، حيث استعمال تهمة (تهديد الوحدة الوطنية) لتبرير اعتقال 11 إصلاحياً .

كل الخوف مشروع من قانون كهذا سواء جرى تعديله أم بقي على صيغته الحالية كما وردت في المسودة المنشورة في موقع منظمة العفو الدولية. لأن التعديلات المتوقّعة لن ترقى الى إسقاط جريمة نقد سياسات الدولة أو الملك وولي عهده، وبحسب الناشط الحقوقي وليد أبو الخير أن التعديل المقترح للجريمة هو (حمل سلاح ضد الملك أو ولي العهد أو التخلي عن الولاء لهما)، وفي هذا النص مجال واسع للاجتهاد والتحميل بما يجعل التطبيق مفتوحاً.

القانون كما نشر على موقع منظمة العفو الدولية ختم بـ (سري وعاجل)، وأشار إلى أن لمجلس الشورى الحق في اقتراح التعديلات على القانون خلال مدة أقصاها شهر من تاريخ لم يحدده. ما يلفت في القانون وهنا قد يكون بيت القصيد فيه أنه يعطي وزير الداخلية سلطات واسعة للتحرك وحماية الأمن الداخلي دون إذن أو إشراف قضائي.

غالباً ما يكون هذا القانون مرتبطاً بأوضاع استثنائية أو حالة طوارىء تعيشها الدول، ولكن أن يصدر في أحوال شبه اعتيادية يعني أن الملك عبد الله يقدّم مكافأة مجانية لوزارة الداخلية على ماقامت به في 11 آذار (مارس) حين أنزلت كل قوات الشغب ورجال الأمن والمباحث الذين انتشروا في كل أرجاء المملكة لمنع خروج التظاهرات الاحتجاجية ضد آل سعود.

القانون الجديد هو ليس فقط لمنع انتقادات جديدة سواء لرجال الدين من هيئة كبار العلماء وسواهم، أو للملك وولي عهده، وإنما يقضي بتجريم الانتقادات السابقة، وبالتالي فإن انتهاكات وزارة الداخلية سابقاً ولاحقاً ستصبح قانونية، بل قد تكون العقوبات الواردة في القانون أشد مما لو كانت تعسّفية وعشوائية، فقد بات على منتقدي الملك وولي العهد الاستعداد لقضاء عقوبة سجن طويلة (لعشر سنوات كحد أدنى). القانون شرعن كل التدابير القمعية والتعسّفية بحق المواطنين، وكأن ما كانت تقوم به وزارة الداخلية بدون قانون وضعت له الآن قانوناً كيم? تجعله مسوّغاً لاقتراف المزيد من الإنتهاكات.. النصوص الفضفاضة بحسب تعبير منظمة العفو الدولية مثل (تهديد الوحدة الوطنية) و (تعطيل القانون أو أحد مواده) و (الإضرار بسمعة الدولة و موقفها)، تجيز وقف ليس حرية التعبير في السعودية بل تجيز تحويل الأخيرة الى معسكر يحظر فيه العيش كآداميين.. وكل ذلك لم تسمع به أميركا، ولكنها تباركه!

الصفحة السابقة