موت جيل التأسيس..

سؤال الجيل الثالث

محمد السباعي

جيل التأسيس من آل سعود على وشك الإنقراض، ما يضع مستقبل الدولة السعودية على المحك. وسواء صدقت التقارير بشأن رحيل ولي العهد الأمير سلطان أم لا، فإن الأوضاع الصحيّة للملك وولي العهد وحتى الأمير نايف، النائب الثاني ووزير الداخلية، والأمير سلمان، حاكم الرياض، والمرشّح الأوفر حظاً لمنصب النائب الثاني في حال رحيل سلطان، تعزّز من المخاطر المحدقة بالنظام السعودي.

ماذا بعد جيل العجزة؟

الصورة العامة للملك عبد الله الذي استلم السلطة فعلياً في أغسطس 2005، لا توحي بأن لديه القدرة اليوم على ممارسة السلطة، وقد يدخل في المرحلة الانتقالية قبل أن يختفي من الدنيا، تماماً كما هو حال الملك فهد الذي قضى عقداً كاملاً بلا وعي سياسي يؤهّله للاضطلاع بإدارة الدولة.

كل التهكنات اليوم حول مصير أي من الأمراء يصبح واقعاً أو يوشك أن يكون، بعد أن أصبحت قوانين الطبيعة حاكمة على مصير الأمراء.. لم تعد للمك عبد الله قدمان ثابتتان اليوم في أي من الوقائع أو الصراعات السياسية، فهو يتصرّف كما لو كان أحداً يدير بالنيابة عنه شؤون الحكم. يصفه العارفون بأنه (ربع ملك)، وهم في ذلك منصفون، فالرجل لا يملك سلطة مليئة في عملية صنع القرارات الكبرى. السعودية في الخارج على خلاف الأوضاع الصحية لقادتها، تنزع نحو إثبات أن لها دوراً رئيسياً في التطوّرات السياسية، وأن هذه الحيوية المفتعلة تهدف إلى إيهام الخصوم قبل الحلفاء بأنها تملك يداً عليا في ملفات المنطقة والعالم.

وإذا كان المال النفطي يحجب أزمات الحكم السعودي وصراعات الأجنحة المحتدمة داخل القصور، فإن حجم الأزمات التي تحيط بمملكة آل سعود خارجياً على الأقل هذا العام (وخصوصاً منذ اندلاع الثورات العربية) يفوق بتأثيره وقدرته ما عرفه آل سعود في السنوات العشرين الأخيرة. المبادرة الهجومية التي تنبناها آل سعود بعد الثورة المصرية، لم تكن دليل قوة، ولولا التواطؤ الأميركي الأوروبي مع السعودية وعدد من دول مجلس التعاون الخليجي لكانت معادلات المنطقة قد تبدّلت لصالح الشعوب المتطلّعة نحو الديمقراطية.

دخلت منطقة الشرق الأوسط والعالم إلى مرحلة جديدة منذ بدء (ربيع العرب)، ما تطلب قراءة جديدة لخريطة المنطقة، جعلت كل دولة تعيد، وبصورة إفرادية، حساباتها السياسية وخريطتها الأمنية. آل سعود كانوا في مقدمة الحكّام العرب الذين شعروا بأن موج الثورة سيصل إلى قصورهم، مهما تظاهروا بـ (الخصوصية) و(الاستثنائية)، فقد كان لاستعداداتهم الأمنية في 11 آذار (مارس) الماضي، وهو يوم الغضب المقرر من قبل مجموعات على شبكات التواصل الإجتماعي، دلالة واضحة على أن العائلة المالكة كانت مذعورة من احتمالات انفجار الوضع الشعبي في أرجاء المملكة، بما يؤول الى سقوط النظام.

مصدر التهديد نابع من أن الثورات العربية جاءت في وقت يعيش فيه جيل التأسيس أسوأ أيامه، ليس فقط بفعل الأوضاع الصحية لرموز هذا الجيل ولكن لأن الخلافات الداخلية بلغت حدوداً خطيرة تهدّد وحدة العائلة المالكة. الهرم الذي أصاب النظام السعودي، جعله غير قادر على مواكبة التطوّرات الجديدة، ولذلك جاءت القوانين التي أصدرها الملك عبد الله في 17 آذار (مارس) الماضي، وتالياً قانون مكافحة الإرهاب الذي كشفت عنه منظمة العفو الدولية ووضعتها على موقعها في 22 تموز (يوليو) الماضي، لتوحي بأن جيل التأسيس توقّف به الزمن عند لحظة تاريخية معينة، وبات لا يعي من (أمور دنيا) الناس شيئاً.

منذ أكثر من عام والملك عبد الله يسعى إلى تأمين مستقبل أبنائه ورجاله في الحكم، لأن في ذلك ضمانة لجناحه في معادلة الحكم في المستقبل، وللحيلولة دون استفراد الجناح السديري بكامل السلطة. فأربعة من أبنائه تسنّموا في عهده مناصب هامة: إمارة منطقة نجران، رئاسة الحرس الوطني بمرتية وزير، موفد خاص، ونائب وزير الخارجية، كما تولى عدد من رجاله من بيت التويجري مناصب هامة في الديوان الملكي.

مراقبون اعتبروا تعيين إبن الملك مؤخراً في منصب نائب وزير الخارجية، مؤشر على حسم عملية تقاسم السلطة بين الملك والأمراء الثلاثة: سلطان، ونايف، وسلمان، وقد يكون مؤشراً أيضاً على صحة الأخبار القائلة بأن الأمير سلطان قد فارق الحياة، وأن تسلّم الأمير نايف منصب ولي العهد مجرد مسألة وقت..لفت أحد المراقبين الإنتباه الى قصة إطلاق النار على قصر الأمير نايف بجدة، وأنها قد تأتي في سياق تعزيز حظوظه في العرش.

وفيما تضيق حلقة الأجل حول جيل التأسيس، يصبح الحديث عن علاقة الأبناء، الذين لم يكابدوا مرحلة التأسيس وانغمسوا في نعيم السلطة في مرحلة مبكّرة من أعمارهم، فقد أذهلت الشهوات كثيراً من الأمراء عن التفكير في سبل الحفاظ على السلطة. يضاف الى ذلك، أن رحيل الآباء يجرّد الأبناء من شخصية توافقية جامعة تتمتّع بصفات كاريزمية يمكن الإلتفاف حولها في الملّمات.

الخلاف بين الأبناء واسع ومتشعّب، والإحساس المتزايد لدى أبناء الأجنحة المهمّشة داخل العائلة المالكة يجعلهم أكثر نقمة على “أبناء العم” الذين يتقاسمون معهم حقاً متكافئاً في توارث السلطة..إن نقل السلطة الى أفراد محدّدين من الجيل الثالث، قد يعني الحسم قبل موت جيل التأسيس، ولكن ما يحمل بداخله من مخاطر الصراع العنيف داخل العائلة المالكة ليس سهلاً تجاوزه.

ما هو على درجة مماثلة من الأهمية، أن اهتمامات وهموم جيل التأسيس يختلف عن الجيل الثالث، فقد ينسي الأخير الصراع على السلطة في الداخل ملفات السياسة الخارجية التي قد يخوض فيها لماماً، دع عنك أن يكون للجيل الثالث تطلّعات للعب أدوار تاريخية في المنطقة وفي العالم..باستثناء ربما قلة نادرة من الأمراء مثل الأمير تركي الفيصل، والأمير بندر بن سلطان، والأمير سعود الفيصل، إن بقي محافظاً على صحته، ولكن هؤلاء ليس مرشح لهم لعب أدوار رئيسية في المستقبل، لا سيما مع اختفاء الأمير سلطان الذي سيدع أبناءه بلا داعم حقيقي في استحقاقات السلطة.

من المرشّح أن يخسر الجيل الثالث مناطق نفوذ تقليدية مثل لبنان، واليمن، والبحرين، والمغرب، ما لم تتحوّل مناطق النفوذ إلى حلبات لصراع أجنحة في العائلة المالكة، أو قد يكون الأمراء في أتون لعبة أمم بأحجام مختلفة. قد يفسّر التدخل السعودي السافر في اليمن والبحرين وغير المباشر في سورية وليبيا ومصر وتونس بمثابة مرحلة تمهيدية يقودها جيل التأسيس قبل انتقال السلطة بالكامل الى الجيل الثالث، بما يسهّل عليه مهمات في الخارج، قد ينشغل عنها بحكم اتساع دائرة الصراع على السلطة في الداخل.

نعم، قد يتم التعويض عن انقراض جيل التأسيس بمزيد من التدخّل الأميركي، الذي سيدير في الخفاء شؤون الدولة (ويجري الآن ذلك ولكن إلى حد ما غير مباشر)، لثقة الأميركيين بقدرة الجيل الثاني على التعامل مع الأزمات.

هناك دون ريب في الجيل الثالث من هو على استعداد لأن يسلّم البلاد والعباد للأميركيين على أن يحصل على بطاقة العبور الى العرش، أو لعب دور فاعل في الدولة. الأمير بندر بن سلطان قد يكون الأسم الأبرز من بين أمراء آل سعود في هذا المجال، ولكن حقيقة الأمر أن كل الأمراء تقريباً يتقنون فن التقارب مع الأميركي، بمن فيهم المحسوبين على خط التشدد في العائلة المالكة مثل الأمير نايف وإبنه الأمير محمد، وهما مهندسا الإتفاقية الأمنية ـ الإستراتيجية مع إدارة الرئيس جورج بوش الإبن سنة 2008، والتي كشفت عن بعض تفاصيلها المخزية وثائق ويكيليكس (وقد نشرناها في أعداد سابقة).

وبخلاف ما قيل قبل بلوغه العرش عن (نزعة عروبية) شديدة لدى الملك عبد الله، فإن الرجل أظهر ولاءً أميركياً غير مسبوق، فاق كل توقعات المراقبين دع عنك العروبيين. ينقل عن فؤاد عجمي بعد لقائه بنائب الرئيس الأميركي ديك تشيني في مكتبه عشيّة مبايعة عبد الله ملكاً على السعودية قوله بالحرف الواحد: (our man has come).

وكتب نهاد المشنوق، المقرّب من السعودية، في مقدمة مقالة له في جريدة السفير البيروتية بتاريخ 10 نيسان (إبريل) 2008 بعنوان (مملكة تفقد صبرها): (تعطي زيارات المسؤولين الأميركيين المتكررة على اختلاف مستوياتهم الى السعودية الإنطباع بأن العلاقات الاميركية ـ السعودية تعيش أيامها الذهبية. فالحفاوة التي استقبل فيها العاهل السعودي الرئيس جورج بوش في جدة منذ أشهر محاطا بأشقائه والمسؤولين في المملكة، استثنائية).

رصد المشنوق الزيارات المتكررة والمتوالية للمسؤولين الأميركيين في السنوات الاولى من عهد الملك عبد الله، يقول المشنوق (التأكيد هناك زيارات على غير هذا المستوى الرفيع من المسؤولين لا تعطى لها صدارة الاعلام ولا يعلم بها إلا من يستقبلهم من المسؤولين السعوديين)، وكل ذلك ينبىء عن علاقة خاصة بين الأميركيين والملك عبد الله..

يحاول البعض تقديم تفسيرات ساذجة لما يعتبرونه (تفّهماً) من قبل الملك عبد الله للسياسة الأميركية في المنطقة، على أساس أن الرجل مازال يتبنى مواقف مبدئية، نسمع عنها ولا نراها. لن نخوض طويلاً في هذا النقاش الذي نملك فيضاً من الأدلة على نفي أي تبرئة وتبييض صفحة الملك عبد الله فيما يرتبط بالمواقف العروبية. وما يهمنا هنا القول بأن بعد الأمركة في العائلة المالكة ليس جديداً ولكنّه بقي غير مباشر، وأن الجيل الثالث الذي سيكون عدد المتنافسين فيه كبيراً، مع قلّة اعتناء بالبروتوكولات العائلية، وتعاظم الميولات الذاتية، سيكون خاضعاً تحت رعاية الأميركي الذي لن يسمح لأي خلاف داخلي بالتأثير على مصالحه الحيوية، فالنفط أعزّ على الإدارة الأميركية من آل سعود وكل الآلات في منطقة الخليج.

حين قرّرت الولايات المتحدة إزالة نظام صدام حسين لم تشاور آل سعود في الأمر، رغم أن ذلك سيهدد مصالحهم، وحين احتلوا أفغانستان لم يطلبوا الأذن منهم، بل أرغموا آل سعود على فتح الأجواء وتسهيل مرور القوات الأميركية البرية الى العراق والطائرات الى العراق وافغانستان، وأن مجرد الاعتراض يتفهمه الأميركيون دون القبول به.

صحيح أن الادارة الاميركية تسعى لأن تكون سياساتها الخارجية غير متصادمة مع مصالحها في المناطق الحيوية وخصوصاً في السعودية ودول مجلس التعاون الخليجي، ولكن ذلك لا على سبيل الإلتزام، بل الترجيح غير الملزم. الأميركيون في البيت الأبيض هم ممثلون لمصالح شركات كبرى في مجالي صناعة النفط والسلاح، وليسوا ممثلين عن الشعب الأميركي، ولذلك، فإن أي تهديد يقترب من مصالح الشركات الكبرى يعني أن لاشيء يحول دون التدخل المباشر عسكرياً وسياسياً وأمنياً..

لاشك أن الأميركيين يستعدون ليوم يغيب فيه كل أفراد جيل التأسيس، ويكونوا معنيين بصورة مباشرة بتسوية الصراعات التي ستحتدم دون مناص حول العرش. إن ما ينعكس في الاعلام الأميركي والأوروبي عن الخلافة في السعودية بعد غياب أي من أبناء الملك عبد العزيز ليس سوى ما يعبر عن قلق الحكومات الغربية على مستقبل مصالحهم، ولذلك صار مألوفاً في الاعلام الأجنبي وحتى في مواقع التواصل الاجتماعي والمنتديات الحوارية السعودية تناول أعمار الأمراء وحالتهم الصحية، فقد أصبح هذا الموضوع جزءاً من السيرة اليومية في السياسة الدولية، يليها على الفور الانشقاقات المحتملة داخل العائلة المالكة وصراع الأجنحة المحتمل بين هذا الأمير وذاك.

اعتقد البعض بمن فيهم أمراء يتطلعون لنيل نصيبهم في الخلافة السعودية بأن تشكيل هيئة البيعة برئاسة الأمير مشعل بن عبد العزيز، سيوفّر ضمانات أكيدة للأبناء والأحفاد، على أساس أن تختار الهيئة واحداً من ثلاثة أسماء يقترحها الملك المقبل لاختيار ولي عهده، ولكن قبل أن تنتعش الآمال، فاجأ الملك نفسه إخوته وأفراد عائلته بتعيين نايف نائباً ثانياً، ما يجعله ولي عهد مؤكّد. في الرؤية الأولية كان تشكيل الهيئة قد وضع آلية لانتقال هادىء للسلطة داخل العائلة المالكة، ولكن تعيين نايف نائباً ثانياً جعل أكثر من عشرة آلاف أمير وأميرة في حال ارتياب من إمكانية خروج السلطة من الجناح السديري، وقد ينتقل العرش الى بيت نايف الذي سيصبح امبراطوراً للأبد.. فهل يقبل الجيل الثالث بالصمت خياراً أو بالشرهات بديلاً.

الصفحة السابقة