العامل السوري في الحرب الباردة بين الرياض وطهران

عبدالحميد قدس

منذ توجيه الملك بيان إلى (أشقائنا في سورية) في 7 آب (أغسطس) الماضي، بدا واضحاً أن المملكة السعودية قرّرت خوض حرب باردة مع النظام في سورية أولاً ومع معسكر الممانعة بقيادة إيران وحلفائها ثانياً وأخيراً. وكان واضحاً أن البيان ينطوي على أمر عمليات بشن حملة إعلامية مضادة وضارية ضد النظام السوري وبشار الأسد، ولم يكن مستغرباً أن يصعّد أبرز الكتّاب الصحافيين، والإعلاميين السعوديين لهجة التحريض والنقد ضد الحكومة السورية، واستعمال أقصى ما يمكن أن تصل إليه الدعاية السوداء بما في ذلك بث الشائعات، وتحريض الناس على التظاهر والإحتجاج، وافتعال الروايات الترويعية لتأليب الرأي العام السوري ضد النظام..في المقابل، أفضت الحملات الدعائية على أجهزة الأمن السورية سيئة الصيت إلى الوقوع في مطب (الشيطنة) التي استدرجها إليه الإعلام الخارجي، فراحت تصعّد من إجراءات مواجهة المتظاهرين بصورة سلمية بالرصاص الحي، دون تمييز بينهم وبين الجماعات المسلّحة المثيرة للجدل.

في سياق الحملة المتصاعدة على النظام السوري، إقليمياً ودولياً، تبدو السعودية حتى الآن وكأنها لاعب ثانوي في الحلبة، فيما تنفرد، في الظاهر على الأقل، قطر في نقل الرسائل الموتورة الى دمشق وطهران وواشنطن. ما نقل عن زيارة الأمير القطري الشيخ حمد بن خليفة الى طهران في 25 أغسطس الماضي أنه أبلغ الإيرانيين رسالة أميركية واضحة: لقد قرر الأميركيون التخلّص من بشار الأسد، وأن عليكم أن ترفعوا يدكم عنه، في مقابل وقف الضغوطات الأميركية والأوروبية عليكم بخصوص الملف النووي لمدة سنتين. ونقل في الأثناء تهديداً للجانب الإيراني أن الثورة ليست بعيدة عنكم، وإذا ما اندلعت سنتفرج عليكم كما نفعل الآن حيال الثورة في سورية. في الرد، كان الإيرانيون حاسمين وعلى درجة كبيرة من الثقة بأنهم لن يتخلوا عن حليفهم الإستراتيجي، وأن الأميركيين لن يكون بمقدورهم تقرير مصير النظام السوري. وتمّ إبلاغ أمير قطر رسالة واضحة بأن الحرب على سورية لن تقف عند حدودها، بل ستشمل المنطقة بأسرها، ولن تكون أي من إمارات الخليج في مأمن من أي حرب قادمة.

وصلت الرسالة الإيرانية الى القيادة السعودية عبر أمير قطر، وقد يكون تصريح الأمير نايف في 29 أغسطس الماضي باعتبار أن ايران تستهدف أمن السعودية، رد فعل على الرسالة الإيرانية. في الظاهر، لم يكن لتصريحات الأمير نايف أي أرضية حقيقية، إذ لم تكن هناك أخبار عن حوادث وقعت أو حتى اكتشاف لمخطط إيراني يوشك تنفيذه في المملكة أو في أي من دول مجلس التعاون، وهذا يفسّر دهشة الإيرانيين من تصريحات نايف، ولكن حقيقة الأمر أن أمير قطر نقل ما سمعه من القيادة الايرانية ومن المرشد الأعلى للثورة الإيرانية علي الخامنئي عبر أحد مساعديه الى أمير قطر بأن ليس هناك ما يمكن المساومة عليه في العلاقة بين إيران وسورية، وأن أي اعتداء على سورية يعني اعتداءً على إيران، وأن الحرب اذا بدأت لن تقف عند حدود سورية بل ستشمل كل دول المنطقة.

وبالرغم من أن السعودية عارضت وبشدّة وأحياناً بصورة علنية الثورات العربية وقادت، بحسب عشرات التقارير الإعلامية والصحافية، الثورة المضادة عبر التدخل المباشر بأموالها والجماعات السلفية المرتبطة بها أو حلفائها السياسيين، إلاّ أن لها موقفاً مختلفاً من الحالة السورية، التي وجدت فيها فرصة لتصفية حسابات قديمة مع النظام السوري أولاً ومع معسكر الممانعة التي تقوده إيران ثانياً، ولذلك قرّرت تنسيق الجهود مع تركيا وقطر والأردن من أجل تشجيع الإحتجاجات واحتضان المعارضين وتمويل حركة التمردات المسلّحة في كل أرجاء سورية، وهذا ما ظهر في اعترافات عناصر تابعة للجماعات السلفيّة المسلحة في حمص وحماة، والتي تعمل تحت قيادة الشيخ عدنان عرعور الذي يسكن الرياض، وكان حتى وقت قريب يظهر على شاشة قنوات طائفية تموّلها السعودية والكويت وجماعات سلفية..

إن مطالب الملك عبد الله المستمرة للقيادة السورية بالتخلي عن إيران وفك الإرتباط بها فشلت، كما فشلت مطالب الغرب والإدارة الأميركية على وجه الخصوص بتخلي بشار الأسد عن حزب الله، ولذلك جاء اليوم الذي تنقلب فيه السعودية على النظام السوري في سياق توجيه ضربة لإيران، بحسب تقرير لوكالة رويترز في 10 آب (أغسطس) الماضي.

وكما أسلفنا في مقالات سابقة، أن العلاقة بين الرياض ودمشق دخلت مرحلة مضطربة منذ اغتيال رئيس الوزراء اللبناني الأسبق رفيق الحريري في 12 شباط (فبراير) 2005، والذي أدّى الى خروج القوات السورية من لبنان، وتصعيد حملة ضغوطات مكثّفة ضد نظام بشار الأسد، إلى حد التخطيط لاستدراج حرب غربية على سورية بتمويل من السعودية عبر الأمير بندر بن سلطان وسعود الفيصل، وتجنيد عناصر من داخل النظام في مخطط إنقلابي تم الكشف عنه في مرحلة مبكّرة.

ومع أن النظام السوري تجاوز بنجاح كل الأخطار التي كانت محدقة به، إلا أن اندلاع الإنتفاضة الشعبية في درعا على الحدود الأردنية وانتقالها الى جسر الشغور على الحدود التركية وانسحابها الى مدن حمص وحماة والقامشلي ودير الزور والبوكمال وإدلب وغيرها القريبة من الحدود اللبنانية والعراقية على التوالي، أوجد فراغاً كبيراً يمكن للعامل الخارجي أن يملأه وأن يضغط به على النظام السوري الذي دخل في سباق مع الزمن من أجل احتواء خطر غير مسبوق. فبين أجندة الإصلاحات التي تحيط بها شكوك المعارضين ورفض الغرب لها، رغم مطالبته بها، وبين الأخطاء القاتلة والكارثية التي تقترفها أجهزة الأمن السورية بقتل المتظاهرين بصورة سلمية تصبح صورة طلاّب الحرية بكل مطالبهم المشروعة في الديمقراطية والعدالة والمساواة مغفولة داخلياً في مقابل تعمّد تصوير الإحتجاجات وكأنها عنف مسلّح تقوم به مجموعات مرتبطة بالخارج.

الأسد وعبدالله.. إقحام العامل الطائفي في الإحتجاجات الشعبية

الإيرانيون أوصلوا رسالة واضحة الى القيادة السورية بأن استعمال العنف ضد المتظاهرين ليس حلاً، وله مضاعفات خطيرة على مستقبل النظام، ولابد من اعتماد إصلاحات حقيقية وملحوظة، ولذلك طالب الرئيس الإيراني أحمدي نجاد القيادة السورية بالدخول في حوار مع المعارضة. لابد من الإشارة إلى ما يعتقده الإيرانيون حول النظام السوري: أن الرئيس السوري بشار الأسد ليس وحده صاحب القرار، وأن ثمة أجهزة عتيقة لديها سلطة مطلقة وقد تقدم في لحظة ما على اغتيال الرئيس في حال خالف قراراتها.

ثمة حقيقة باتت ثابتة: أن إيران لن تتخلى عن بشار الأسد، وستدافع عنه حتى الرمق الأخير، وفي الوقت نفسه، وهذا الجديد في الموقف الإيراني أن الأسد لا بد أن يقدم على تطبيق برنامج إصلاحي له مصداقية من أجل إقناع حلفائه في الخارج مثل روسيا والصين على تبني مواقف دفاعية عنه، والتصدي لأي محاولات التدخل العسكري. الجديد أيضاً في الموقف الإيراني، الإنفتاح على المعارضة السورية في الخارج والإستماع إلى مطالبها، بالرغم من أن كلاماً طويلاً قيل عن قرار المعارضة السورية بالإنفتاح على ايران إعتقاداً منها بأن صمود النظام السوري حتى الآن عائد الى الدعم الإيراني. لقاء شخصيات من المعارضة السورية مع مسؤولين إيرانيين في النمسا أحدث خرقاً في جدار الأزمة، لجهة أن ثمة إمكانية لتحول ديمقراطي بدون المزيد من سفك الدماء، وأن الإيرانيين يتطلعون إلى لعب دور وسيط بين المعارضة والنظام للدخول في حوار وطني جاد يكفل عملية تداول سلمي للسلطة بما ينطوي على ضمانات وتطمينات لكل الأطراف..

إعلان السعودية استدعاء سفيرها للتشاور بمثابة قطع العلاقة مع دمشق، الأمر الذي أغلق الباب أمام أي تفاهم أو وساطة بين النظام والمعارضة، وهذا ما يجعل انفتاح المعارضة السورية على طهران بمثابة إقرار بأنها لاعب أساسي في الأزمة السورية. في المقابل، يعتبر استدعاء السفير السعودي بمثابة إعلان حرب، وفي مناخ الثورات العربية يعتبر تأييداً لخيار إسقاط النظام، والدعوة الى الإنشقاق والتمرّد على النظام، الأمر الذي يعني بالنسبة للقيادة السورية خيار اللاعودة في العلاقات الدبلوماسية بين الرياض ودمشق. فحتى لو قدّر لنظام بشار الأسد الإستمرار في الحكم، حتى وإن جاء على خلفية تفاهم مع قوى المعارضة السورية على أجندة إصلاحات تحت رئاسته، فإن ما هو متوقع هو استمرار حالة القطيعة، على الطريقة العراقية حيث يستقبل الملك شخصيات سياسية سنيّة، ومقاطعة القيادة الشيعية التي تدير الحكم في العراق.

المشكلة حتى الآن بالنسبة للسعودية، ولقوى كبرى أميركية وأوروبية أيضاً، أن سقوط نظام بشار الأسد وإن حقّق ضربة إلى إيران وحزب الله وحماس، فإن الثمن قد يكون باهظاً ليس بسبب احتمال اندلاع حرب أهلية في بلاد الشام قد تنتقل الى الأردن، ولكن احتمال حدوث فوضى في سورية يعني تهديد الأمن الإسرائيلي وتهديد الأمن الإقليمي عموماً.

لاشك أن إسقاط النظام السوري لا يستهدف إقامة نظام ديمقراطي بقدر ما هو ضرب إيران وحلفائها في المنطقة، وهذا أمر لا يكاد يجادل فيه أحد، ويتوّهم المعارضون السوريون إن اعتقدوا أن وقوف دول شمولية مثل السعودية أو قطر أو حتى الولايات المتحدة وفرنسا أو أي من الدول الأوروبية إلى جانب قضية الشعب السوري هو من أجل إقامة ديمقراطية جديدة في سورية.

وحتى بيان الملك عبد الله بالرغم من لهجته الشديدة، لا يدعو إلى سقوط النظام لاعتبارات جديّة منها أن المستقبل غامض، في ظل انقسامات إجتماعية وإثنية وإيديولوجية وسياسية حادّة بين قوى المعارضة السورية. وإن التنازلات المؤلمة المطلوبة من النظام السوري لن تتم في ظل ضغوطات تزيد في مخاوفه من الأهداف غير المعلنة التي سيفسرّها على أنها تهديم تدريجي للنظام في عملية تأهيل هادئة لأجواء الحرب.

بالنسبة لإيران، لابد للنظام السوري من اعتناق أجندة إصلاحية سياسية واقتصادية والإسراع في خطوات تنعكس في الشارع مثل تفعيل قانون الإعلام، وقانون إنشاء الإحزاب، والكف عن استعمال العنف من قبل أجهزة الأمن وتوسيع إطار الحوار ليشمل كل شيء حتى مستقبل النظام، وشكله.

يدرك بشار الأسد أن الضغوطات الخارجية لن تتوقف، وأن الغرب لا يهمه حجم الإصلاحات ولا طبيعتها، لأنه يسعى إلى إطاحة النظام. وبحسب ما نقل عن مستشارة الرئيس السوري بثينة شعبان أن الغرب لا يريد حتى مجرد الإنتظار مدة شهر واحد كي يرى ما اذا كان أي من القرارات الإصلاحية قد تمّ تنفيذه، فهو لديه قوالب جاهزة قبل الإعلان عن قرارات إصلاحية جديدة، حيث يقوم بإطلاق تصريحات مضادة بعد لحظات من الإفصاح عن تلك القرارات بالقول أنها ليست كافية، حتى وإن لم يطّلع على مضمون تلك القرارات.

بيان الملك عبد الله بخصوص سورية والحملة الاعلامية الكثيفة التي تقودها قناة (العربية) وأخواتها، وكذلك ما ينشر من مقالات في الصحف المحلية السعودية، ومواقع التواصل الاجتماعي، وشبكة الاخبار والمنتديات الحوارية، كلها تأتي في سياق تصعيد الضغوطات على النظام السوري، وبحسب معلّق سعودي لوكالة رويترز في 10 أغسطس الماضي أن التحذيرات التي اطلقها الملك عبد الله (مهدت الطريق كي تمارس المزيد من الدول الضغوط على النظام السوري..). أما جمال خاشقجي الذي يعمل في الماكينة الإعلامية لآل سعود فيقول (لم يكن البيان بمنأى عن الحركة العالمية لممارسة الضغط على النظام السوري. السعودية مهمة عندما يتعلق الامر بقرارات مستقبلية والاجراءات المتخذة للضغط على النظام). بل لم يتردد في الكشف عن تداعيات البيان على الشارع السوري الذي يقول (ان تنتقد السعودية صراحة النظام ما من شك ان ذلك سيكون له أثر على الشارع السوري. سيذكي التوترات.. سيذكي الغضب... سيؤدي لاهالة الضغوط على سوريا حتى تدرك الموقف الذي تجد فيه نفسها الان).

جريجوري جوز، المحاضر في جامعة فيرمونت الأميركية، يلفت الى البعد الطائفي في الحملة السعودية على سورية، حيث يعتبر أن السعوديين (يرون أن ايران والتصعيد في الدول العربية يتطلبان منهم بشكل متزايد أن يلعبوا بالورقة الرابحة.. نحن سنة وهم شيعة.. وعددنا أكبر من عددهم).

لابد من إلفات الإنتباه الى أن الشعارات المناهضة لإيران وحزب الله من قبل محتجين سوريين لم يمثّلوا حركة الشارع السوري المطالب بالحرية والتغيير، بل كان واضحاً أن تلك الشعارات إنطلقات في المدن التي تكثر فيها العناصر السلفية كما في حماة وحمص، ولربما كان اللعب على الغرائز الطائفية ساهم في تعزيز الإنقسام داخل سورية، وكانت له انعكاسات سلبية على المعارضة السورية.

مغامرة السعودية في اللعب على المشاعر الطائفية يحمل في طياته مخاطر جمّة، لأن فشلها سيترك تأثيرات خطيرة على الداخل السوري وعلى السعودية في الخارج. ففي داخل سورية سيدفع الإستقطاب الطائفي الى عزل الحركة السلفية الجهادية وتوجيه ضربة قاصمة لها، وفي الخارج سيخرج السعودية في هيئة دولة طائفية تسعى إلى تمزيق المسلمين تحت عناوين مضلّلة، لاسيما وأن صورة السعودية كما تبدو في مناطق أخرى سواء في مصر أو اليمن أو البحرين والعراق ودول أخرى مشوّهة إلى حد تمني كثيرين زوالها من الوجود.

الصفحة السابقة