سخاء مالي وانفتاح على الأزهر، واستقبال عمر سليمان

ماذا يريد آل سعود من مصر الثورة؟

عبدالحميد قدس

غضب آل سعود لسقوط حليفهم الطاغية حسني مبارك، ولكن لم يتركوا مصر الثورة كيما تعيد ترتيب بيتها وفق شروط جديدة، تخضع لارداة الشعب المصري دون سواه. ولأنهم يعرفون ماذا يعني أن تضطلع مصر بدورها التاريخي، أو تستعيده بعد ثورة 25 يناير 2011، فقد بدأوا فور سقوط مبارك بالتخطيط لاحتواء الثورة المصرية، وقيادة الثورة المضادة بكل أساليب المكر والخداع. حق لشباب الثورة في مصر أن يخشى على ثورته من مال آل سعود وعملائهم، ومخطّطاتهم لتخريب الثورة، وتشويه أهدافها، والأخطر توظيفها لخدمة مشاريع أخرى مضادة لتطلّعات الشعوب العربية.

لم يكن بريئاً قرار آل سعود في مايو الماضي تقديم مساعدة مالية بقيمة 4 مليارات دولار، في وقت كانت اليد الأخرى تمتد الى تمويل جماعات سلفية متشدّدة كانت على علاقة وثيقة بجهاز الإستخبارات المصريّة السابقة..من نافلة السؤال: هل ثمة علاقة بين ذلك وزيارة اللواء عمر سليمان، نائب الرئيس السابق، ورئيس جهاز الاستخبارات المصرية الى المملكة بدعوة خاصة. وفي الخبر، غادر سليمان للسعودية في زيارة غامضة في الأول من تشرين الأول (نوفمبر) الجاري على متن طائرة سعودية خاصة متوجّهاً الى المدينة المنورة. وفيما زعمت مصادر بمطار القاهرة بأن سفر اللواء سليمان كان لأداء فريضة الحج، فإن مصادر أخرى ذكرت بأن الزيارة كانت لأغراض أخرى غير دينية. مصادر مطار القاهرة أفادت بأن وفداً سعودياً كان بانتظار اللواء سليمان الذين اصطحبوه الى طائرة خاصة، لم يظهر عليها أي أعلام أو إشارات توضح هوية الدولة التي تنتمي إليها.

كل الذين راقبوا مراحل سفر سليمان الى السعودية أصابتهم حيرة وانبعث السؤال الكبير: ما سر هذه الزيارة الغاضمة الى السعودية؟ وكيف سمح المجلس العسكري الحاكم في مصر لسليمان بالسفر دون غيره من رموز النظام الخاضعين لإجراءات صارمة في السفر والتحرّك إن لم يكن المسائلة والتحفّظ والإيقاف؟. نشير ببراءة مقصودة إلى أن اللواء عمر سليمان هو صاحب نظرية الإنقلاب العسكري إذا فشل الحوار مع الثوّار، في وقت تتزايد المخاوف وسط شباب ثورة 25 يناير، بل القوى السياسية الشعبية في مصر، بأن المجلس العسكري يسعى لاختطاف الثورة وتجييرها لصالحه، وإعادة إنتاج نظام مبارك.

الصمت حول اللواء سليمان منذ انتصار الثورة حمل رسائل مخيفة لكثيرين، ليس لكونه نائب رئيس النظام الذي ثار الشعب المصري من أجل إسقاطه، ولكنّه أيضاً مدير أخطر جهاز استخبارات في الشرق الأوسط، والخبير في شؤون الجماعات السياسية الدينية والعلمانية. فحين يصبح سليمان مستشاراً للأمير نايف، ولي العهد السعودي الجديد، يعني أن مشروعاً استخباراتياً ليس على مستوى مصر ولكن على مستوى الشرق الأوسط يوشك أن يبدأ بهدف تقويض تحصين الداخل السعودي من تردّدات الربيع العربي، واحتواء الأمواج الثورية الشبابية في أكثر من قطر عربي. نفي مقرّبين خبر كون سليمان سيعمل مستشاراً أمنياً لم يعد مقنعاً.

كان يمكن أن يسكت شباب الثورة في مصر عن زيارة سليمان الى المدينة المنورة، لو كانت بحق مقتصرة على أداء مناسك الحج، رغم أن خروج رمز كبير في النظام المصري السابق يجب أن يخضع لإجراءات صارمة جداً، خصوصاً وأن سليمان تولّى إدارة أخطر جهاز أمني في الشرق الأوسط، وهو جهاز المخابرات المصرية. ولكن سليمان مالبث أن ظهر برفقة وزير الداخلية السعودي وولي العهد الحالي المير نايف، ما أثار تكهنات جمّة حول الوظيفة المنتظرة لسليمان لدى آل سعود، مع أن العاملين في جهاز المخابرات يخضعون لقانون رقم 100 لسنة 1971، والمعدّل بقانوني 179 الصادر سنة 1993، و4 الصادر سنة 2009، والذي ينص على مراعاة العاملين في المخابرات إعتبارات خاصة منها (د): عدم الإلتحاق بالعمل لدى إحدى الحكومات أو الهيئات الأجنبية قبل انقضاء سنتين على ترك الخدمة بالمخابرات العامة ما لم يكن ذلك بإذن كتابي من رئيس المخابرات العامة. هذا بالنسبة للعاملين، فكيف برئيس الجهاز نفسه، وقبل مضي سنتين على تركه المنصب؟

عمر سليمان في الرياض

ما يجدر ذكره أن خبر زيارة عمر سليمان الى المملكة لم تكن سريّة هذه المرة، فقد بث التلفزيون الرسمي السعودي على القناة الأولى حفل إستقبال رؤساء بعثات الحج الرسمية لقطات للواء عمر سليمان رئيس المخابرات المصري السابق ونائب ؤئيس الجمهورية سابقآ وهو يظهر مع ولي العهد السعودي ووزير الداخلية الأمير نايف بن عبدالعزيز آل سعود. وجاء ظهور عمر سليمان ليثير جدلاً جديداً حول الدور الذي يلعبه سليمان في المرحلة الحالية، وما إذا كان سيتولى منصبا أمنيا بالمملكة كما تردد فيما سبق، أم أن الظهور له علاقة بضغوط سعودية لوقف محاكمة الرئيس المخلوع، أم انها مجرد زيارة لآداء فريضة الحج كما تردد. وكانت أنباء قد تردّدت بشدّة على أن عمر سليمان سيتولى منصباً أمنياً في المملكة، وقد تحدّدت الوظيفة في مستشار ولي العهد السعودي للأمن الخارجي.

بطبيعة الحال، من حق الشعب المصري إنكار الطريقة التي غادر بها سليمان مصر، وأن تأتي طائرة سعودية بطريقة غامضة وتقل رئيس جهاز استخبارات سابق، وأن يقوم هذا الرئيس بلقاء كبار مسؤولي السعودية، رغم إنهاء وظيفته الرسمية، ما يثير شبهة التعامل مع دولة أجنبية، وما يجعل السعودية دولة لا تحترم السيادة المصرية خصوصاً بعد الثورة حيث السيادة الشعبية هي العامل الحاسم. ثم ألا يثير ذلك سؤالاً حول دور المجلس العسكري، الذي لم يعلّق على الخبر، فضلاً عن أن يكون له موقف مما جرى. والحال أن المجلس بات موضع ارتياب من قبل قطاع كبير من شباب الثورة والقوى السياسية الوطنية والقومية، خصوصاً وأنه يتولى إدارة البلاد بعد الثورة، ويفرض تدابير تؤول الى إجهاض الثورة واختطاف منجزاتها..

مصدر المخاوف في تقديرنا من زيارة عمر سليمان الى السعودية سواء بالنسبة للمصريين أم بالنسبة للمواطنين في المملكة تعود الى التجربة سيئة الصيت لوزير الداخلية الأسبق اللواء زكي بدر، والذي أقيل من منصبه بعد أن أصبح شخصية ممقوتة وعامل تفجير سياسي في الداخل المصري. وبدر هو رابع وزير داخلية في عصر مبارك، وهو الأعنف بين وزراء داخلية مصر منذ تسلّمه عمله في مارس 1986، وتمّت إقالته في يناير 1990، بعد خطاب استفزازي ضد المعارضة المصريّة.

زكي بدر غادر بعد إقالته من منصبه الى السعودية، وتحوّل إلى مستشار أمني لدى وزير الداخلية السعودي، الأمير نايف، الذي استقبل بالأمس عمر سليمان. اللواء زكي بدر الذي أشتهر بخبرته الواسعة مع الإسلاميين في سجون مصر، أصبح مسؤولاً عن ملف الحركات الإسلامية في وزارة الداخلية السعودية، وقد ربّى جيلاً من رجال الأمن والإستخبارات الذين انخرطوا في مواجهات مع التنظيمات السياسية الإسلامية في مناطق متفرّقة من المملكة، وكان بدر مستشاراً في ملف أمن الحج.

وقد استعان الأمير نايف باللواء زكي بدر للتعامل مع ملف المعارضة في الداخل. ولوجود خصائص مشتركة بين الرجلين (نايف وزكي بدر)، فإن الأخير كثّف جهوده في الداخل كيما يقنع وزير الداخلية بأنه جدير بمنصب مستشار أمني خاص. بدر الذي اشتهر باتقان قاموس الشتائم، واستخدام الأيدي والأحذية ضد المعتقلين والخصوم السياسيين، وتحت قبة البرلمان أحياناً كما جرى في العام 1987، بل إن بدر شمل بشتائمه قادة الأحزاب والوزراء وحتى رئيس الوزراء الأسبق عاطف صدقي لم يسلم من لسانه رغم أنه رئيسه في الحكومة. والأخطر من ذلك كله، أن بدر وضع خطّة بقتل أكثر من نصف مليون مصري، وأصدر أوامره للعمد والمشايخ والخفراء بقتل ودفن كل من له لحية أو يرتدي جلبابا أبيض. هو نفسه اللواء بدر الذي بقي مستشاراً لوزارة الداخلية السعودية وللأمير نايف على وجه الخصوص، واليوم يخلفه رجل من نفس المؤسسة الأمنية ويحمل خبرات واسعة ومعلومات هائلة عن التنظيمات السياسية.

الوهابية ومحاولة اختراق الأزهر

كان الأزهر والمؤسسة الدينية المصرية بكل أذرعها وفروعها مصنّفة في خانة الخصم بالنسبة للمؤسسة الدينية الوهابية، ولم تشهد العلاقة بين الأزهر والوهابية إنسجاماً في يوم ما، فقد حمّل علماء الوهابية الأزهر مسؤولية التقريب بين المذاهب الإسلامية، وكتبت العشرات من المؤلفات الناقدة لدور الأزهر في التقريب بين الحق والباطل، حسب زعم الوهابيين، ولطالما بثّوا الأراجيف ضد مؤسسة الأزهر، ونقموا عليها وعلى علمائها لمجرد دعوتهم للتعايش بين المسلمين على أساس الإحترام المتبادل والإنفتاح المسؤول على علوم ومعارف المذاهب الإسلامية لناحية فهمها بصورة صحيحة، فتح قنوات للتواصل بين علماء المذاهب الإسلامية.

في المقابل، كان الوهابيون يجدّون في شن حملات التحريض ضد الأزهر ومؤسسة دار التقريب بين المذاهب، حتى أنهوا شكّكوا في إسلام الأزهريين.

بعد نجاح الثورة المصرية في خلع الرئيس السابق حسني مبارك، بدأت المؤسسة الدينية الوهابية بالتنسيق مع وزارة الداخلية السعودية، ومع الأمير نايف على وجه الخصوص، بمحاولة اختراق المجتمع المصري، ومؤسساته الفاعلة. وبوحي من نزوعات طائفية مفضوحة، سعت المؤسسة الدينية الوهابية الى التواصل مع مؤسسة الأزهر ورموزها من أجل تحقيق أهداف معروفة: اختراق الثورة المصرية من أحد مؤسساتها الفاعلة، وترسيخ الإستقطاب الطائفي لقطع الطريق على تفاعل الثورات العربية والإسلامية، من خلال التأكيد على الإنقسام المذهبي السني الشيعي، وأهداف استراتيجية بعيدة ترتبط بالصراع بين معسكري المقاومة والاعتدال، وتحضيرات الحرب على إيران..

لقد بدا واضحاً أن استعمال مفردات ذات دلالات طائفية لا تنتمي الى ثقافة الأزهر ولا تاريخه التقريبي، وهي مفردات وردت في بيان مشترك بين الأزهر الشريف ووزارة الأوقاف السعودية تشي بأن للأخيرة ضلعاً في تأجيج النعرات الطائفية. فقد كان البيان الذي صدر عقب لقاء وزير الأوقاف السعودية صالح بن عبد العزيز آل الشيخ وشيخ الزهر الدكتور أحمد الطيب في القاهرة في 11 تشرين الأول (أكتوبر) يشتمل على عبارات ترد لأول مرة في بيانات يشارك فيها الأزهر، كـ (التصدي لأي محاولات تهدف للمساس بالمجتمعات الإسلامية السنيّة تحت أي شعار مخالف).

تكرّرت عبارات من قبيل (تقوية الموقف الإسلامي وخاصة بين أهل السنة والجماعة..)، وهو كلام غير مسبوق وينطوي على خلفية طائفية تقف وراء مثل هذه الجمل المشبوهة. وكان من الواضح من كلام آل الشيخ والإطراء المفتعل لمرجعية الأزهر التي اعتبرها (مرجعية كافة أهل السنة والجماعة وأنها لا تقبل المساس أو المزايدة علي المستوى الديني والسياسي)، أنه كلام غير صحيح، تماماً كما هو القول بأن (السعودية وعلماؤها ينظرون إلي الأزهر على انه المرجعية الإسلامية الشامخة وأن رمزية الأزهر لأهل السنة والجماعة لا تقبل المساس أو المزايدة علي المستوى الديني والسياسي).

ولو عدنا للأدبيات الوهابية لما وجدنا شيخاً أو عالماً وهابياً ينظر الى الأزهر بوصفها مرجعية عامة لأهل السنة، وإنما هو كلام يراد توظيفه في معركة طائفية تستدرج إليها مؤسّسة الأزهر. والصحيح هو ما قاله آل الشيخ ولكن بطريقة مختلفة (فنحن حريصون على الإقتراب لعلماء مصر لأنها أكبر دولة عربية وإسلامية فيها العلماء والسياسيون والكتّاب والمفكرون المؤثرون فمصر دولة مهمة لكل مسلم وخاصة في أمنها واستقرارها وهذا ما نسعي إليه مع الأزهر..). إذاً ثمة هدف محدد يريده آل الشيخ بطلب من سيده وزير الداخلية السعودية لكسر الجمود في العلاقة مع الأزهر، بهدف اختراقه وحرف مساره.

هل ثمة علاقة بين زيارة آل الشيخ للأزهر وتصريح الأمير نايف في 7 تشرين الثاني (نوفمبر) الجاري حول البيت الإسلامي الكبير، وهو بالتأكيد لا يعني أكثر من محاولة فتح الطريق مع بيئات إسلامية كانت مضنّفة في خانة الفرق الضالة أو الخصوم، وأصبحت اليوم، ولأهداف معلومة، في خانة أهل السنة والجماعة. فقد دعا الأمير نايف القادة والشعوب إلى (طريق الوحدة لا الفوضى) وحذّر مما أسماه (تصدّع البيت الإسلامي الكبير). ودعا نايف إلى (الإدراك بأن عوامل الخلاف والفرقة والتصدّع في البيت الإسلامي الكبير لن يحمل في طيّاته غير الشتات والفوضى والضعف ولن يستفيد من ذلك غير أعداء الأمّة الذين تربّصوا بها ولا زالوا). مثل هذا التصريح لا ينتمي الى العقل الديني الوهابي، فضلاً عن العقل السياسي السعودي، فحين يجري الحديث عن الوحدة، فإنما يعنى بها وحدة بين المؤمنين بعقيدة التوحيد وفق المنهج السلفي، وحين ينعقد الكلام عن البيت الإسلامي، فالمقصود به الدار الذي يقطنها الموحّدون والدعاة وأتباعهم.

ولكن حين تصدر تصريحات خارج النسق اللاهوتي الوهابي، وخارج القاموس السياسي السعودي لابد أن نتوقّف لاستكشاف خلفيات تلك التصريحات..ببساطة يمكن القول، أن آل سعود يحاولون اختراق مصر عبر مؤسساتها الأمنية والدينية والسياسية وتوظيفها في مشروع الثورة المضادة ووأد ربيع العرب.

الصفحة السابقة