زيارة الأمير عبد الله الى روسيا

التطلعات الحذرة لدى موسكو والرياض

منذ سبعين عاماً لم تطأ موسكو قدم مسؤول سعودي منذ زيارة الملك فيصل عام 1936، وربما كانت ستطول مدة القطيعة بين البلدين لو لم تشهد المنظومة الاشتراكية تحولا دراماتيكياً خطيراً عام 1989، كما لو لم تشهد المنطقة تحولاّت جد خطيرة على مستويات عدة سياسية واقتصادية وأمنية خلال العامين الماضيين. فالزيارة التي وصفت بالتاريخية لولي العهد السعودي الأمير عبد الله الى روسيا الاتحادية شكّلت مفتتحاً جديداً في علاقات البلدين، ومن المفارقات المدهشة أن تكون هذه الزيارة مفتاحاً سحرياً في العلاقات العربية والاسلامية بروسيا عبر البوابة السعودية التي كانت فيما مضى تمثل أعتى قوة أقليمية كابحة للنفوذ السوفييتي في المنطقة.

هي زيارة عوّلت عليها القيادة السعودية وقيادات عربية عديدة كثيراً، من أجل فك الانحباس السياسي في المنطقة وربما في مناطق أخرى من العالم، وفي استقرار أسواق النفط العالمية التي من المرشح أن تشهد اضطراباً حاداً بفعل سيطرة الولايات المتحدة على قوسي النفط والغاز الممتد من الخليج الى أفغانستان. فالسعودية تجد في روسيا اليوم قواسم مشتركة معها في التحديات والمصالح المتبادلة، وثمة هموم أيضاً مشتركة ساهمت في تقريب المسافة وعلى نحو سريع بين البلدين، وأصبح الطرفان يرى كل منهما في الآخر عامل استقرار في بلده، على المستوى السياسي والاقتصادي والأمني المحلي والاقليمي، ولذلك كان ملف المشاورات السعودية الروسية مليئاً بالموضوعات ذات الاهتمام المشترك، يختلط فيه البعد السياسي بالابعاد الأخرى الاقتصادية والثقافية والدينية تشارك فيها هيئات متخصصة من البلدين في مناشط مختلفة.

زيارة الأمير عبد الله الى روسيا الشهر الماضي مرّت عبر عواصم عربية محددة عقدت فيها مشاورات جادة مع القيادات السياسية وبصورة رئيسية في كل من مصر و سوريا من أجل الاتفاق على محاور النقاش مع القيادة الروسية. ولعل أهم المحاور عربياً كان موضوع الصراع العربي الاسرائيلي وعملية السلام المتعثرة في الشرق الأوسط، والدور الأميركي الجديد في المنطقة بعد احتلال العراق، وبخاصة منذ ان تشكلت جبهة لم تصل الى مستوى الحلف الدولي بين روسيا وألمانيا وفرنسا في مقابل التحالف الأميركي البريطاني الذي تعزز منذ أحداث الحادي عشر من سبتمبر، ومن ثم التسويات المنفردة التي قامت بها كل من الولايات المتحدة وبريطانيا منذ أحداث الحادي عشر من سبتمبر وهي تسويات ساهمت في تكسير الارادة الدولية وإعطاب شرعية هيئة الامم المتحدة. أما سعودياً فثمة قضايا مركزية تشغل تفكير القيادة السعودية وترى في الدور الروسي أحد محفزات الانفراج لهذه القضايا.

التطلع السعودي

اختلال التوازن السياسي في المنطقة لصالح الولايات المتحدة يدفع السعودية وأطراف عربية عديدة لتنشيط دور قوى دولية أخرى يمكن لها أن تلعب جزئياً على الأقل في تحقيق الاستقرار وكبح الجموح الاميركي الكاسح، من خلال تفعيل العلاقات الفاترة مع هذه القوى لجهة الافادة منها في تأمين الاستقرار في المنطقة، والاستعانة بهذه القوى في درء مخاطر مستقبلية يحملها الوجود الأميركي في المنطقة.

السعودية تدرك تماماً بأن التطلع الروسي في العلاقات مع السعودية يتجه ليشمل كافة المجالات السياسية والتجارية والعسكرية والثقافية، وهو تطلع قد لا تستجيب له السعودية في الوقت الحاضر، فتركيز القيادة السعودية مصوّب نحو مسألتين أساستين: الامن والاقتصاد. فالسعودية التي تواجه تهديدات أميركية جدّية وتطلعات مؤسسة على أجندة إسرائيلية تتطلع لأن يلعب الروس دوراً أكبر في مشاكل الشرق الأوسط بدءا من الصراع العربي الاسرائيلي والذي تصرّ الادارة الأميركية على حسمه بحسب الرغبة الاسرائيلية، ومروراً بالنظام السياسي الاقليمي الذي بدا مقلقاً للرياض منذ احتلال العراق، وتزايد الحديث عن أجندات أميركية لإعادة صياغة الشرق الأوسط، تكون فيها اسرائيل المحوّر القوي في نظام شرق أوسطي جديد، وأخيراً بالنظام السياسي السعودي الذي بات الحديث عنه في دوائر سياسية واستراتيجية أميركية منذراً للعائلة المالكة، على أساس أن هذا النظام سيتعرض لتغييرات بنيوية ولكن بقوة خارجية وهذه مسألة طرحت بكثافة عالية في السنة الأخيرة.

في موضوع الصراع العربي الاسرائيلي تعتقد القيادة السعودية بأن المبادرة التي أطلقها ولي العهد الأمير عبد الله في قمة بيروت واجهت رفضاً أميركياً ضمنياً، كما أن هذه المبادرة لم تحظ بنصيب وافر من التأييد الدولي، فهي مبادرة جاءت في مناخ شديد العداء ضد السعودية، الى حد وصفها بانها إحدى محاولات الخروج من المأزق الذي وضعت أحداث الحادي عشر من سبتبمر السعودية فيه، سيما وأن المبادرة جاءت في سياق جهود رامية لقطع الطريق على محاولات اميركية اسرائيلية لتمرير مشاريع حل مضرّة ليس بالقضية الفلسطينية بل بالمنطقة العربية برمتها، والتي عبّر عنها مشروع خارطة الطريق الذي أعلن وفاته الرئيس الفلسطيني مؤخراً وتأكدت باستقالة رئيس الوزراء الفلسطيني محمود عباس أبو مازن، فهذه الخارطة لا تقف عند حد معالجة القضية الفلسطينية بحسب التصورات الأميركية والاسرائيلية بل تستهدف إحداث تغييرات هائلة في خارطة الشرق الاوسط، وتتجاوز الابعاد السياسية الى أبعاد اخرى ثقافية واقتصادية واجتماعية. وفيما يبدو فإن القيادة الروسية تبنت موقفاً إيجابياً من مبادرة ولي العهد السعودي، وساندت دور اللجنة الرباعية، كما أيدّت حق الشعب الفلسطيني في الحصول على دولة مستقلة وذات سيادة وتطبيق كامل وغير مشروط لخارطة الطريق. وكان ذلك الموقف قد أضاف في رصيد روسيا كيما تستثمر موقفها هذا سياسياً في العالم العربي، تستطيع من خلاله رفع سقف التطلع الروسي في المنطقة العربية سيما وأنها كانت راعياً ثانياً لعملية السلام في الشرق الأوسط ما يمنحها مبرراً قوياً للانخراط السياسي في الشرق الأوسط وتحقيق رغبات متبادلة.

يبدو أن ميلاً حذراً لدى القيادة السعودية نحو إشراك الدور الروسي في قضايا المنطقة بعد أن بات واضحاً بأن الولايات المتحدة سائرة دون اكتراث نحو تحقيق طموحاتها السياسية والاستراتيجية في المنطقة حتى وان تصادمت بشدة مع اطراف عربية اخرى حليفة. فالسعودية تتجه الى تبني الموقف السوري في إعادة احياء الدور الروسي في المنطقة لغرض تحقيق التوازن الدولي وبخاصة في ظل الاختناق السياسي الذي تعيشه السعودية في الوقت الراهن. ثم جاءت قضية احتلال العراق من قبل قوات التحالف الأميركي ـ البريطاني لتكسب الروس مصداقية أكبر في العالم العربي من خلال جهود القيادة الروسية جنباً الى جنب الالمان والفرنسيين من أجل تعزيز دور الأمم المتحدة في موضوع العراق، وتهديد الروس باستعمال حق النقض الفيتو وتبنيها آراء مماثلة عربياً حيال العراق قبل الحرب من قبيل دعوة الرئيس العراقي السابق للتنحي عن السلطة درءا لحرب تنوي الولايات المتحدة شنها لتنطلق منها الى تنفيذ خارطة طريق شرق أوسطية، ولعل من نقاط الالتقاء بين روسيا والسعودية هو تبني كليهما موقفاً متطابقاً ازاء بقاء القوات الأميركية والاجنبية في العراق والعودة الى مجلس الأمن كآلية يجب أن يتم عبرها وضع تصورات حل المسألة العراقية، وانهاء الاحتلال الأميركي للعراق.

المدخل النفطي في العلاقة بين موسكو والرياض

المسألة النفطية في زيارة الأمير عبد الله الى روسيا كانت بلا شك كثيفة الحضور في المداولات الثنائية، وهي تدخل في سياق البحث عن خيارات اقتصادية جديدة في سبيل الهروب من اختناق اقتصادي وشيك تتسبب فيه الولايات المتحدة منذ احتلال افغانستان وثم العراق. فالسعودية تنوي الآن التوصل الى تفاهم اقتصادي على أمل أن يتحول الى ما يشبه تحالف اقتصادي مع روسيا للاتفاق على مبادىء مشتركة في إدارة السوق النفطية الدولية، والتي ستدخل فيها الولايات المتحدة كقوة قاهرة لارادة صنّاع القرار النفطي في منظمة أوبك.

فكما هو معروف فإن السعودية وروسيا هما أكبر منتجين للنفط في العالم، ولذلك فإن التوصل الى استراتيجية نفطية بين البلدين يعني تفويت الفرصة على الولايات المتحدة وشركاتها النفطية من السيطرة على معدلات الانتاج ونظام التسعيرة في السوق النفطية، وستتعزز فرص البلدين في بناء شراكة نفطية من خلال الاتفاق على مشاريع استثمارية في المجال النفطي وبالتالي التوصل الى تفاهم في مجالي الانتاج والتصدير ما يؤسس لقيام تحالف اقتصادي سعودي روسي يتجه أساساً الى توفير ضمانات قوية للحفاظ على استقرار السوق النفطية وإحباط أية عوامل من شأنها ان تفضي الى تفجير حرب أسعار دولية تؤدي الى إحداث إضطرابات إقتصادية عنيفة في البلدان المنتجة بدرجة أساسية فضلاً عن الانعكاسات الخطيرة على البلدان المستهلكة.

وبطبيعة الحال، فإن التنسيق السعودي الروسي لن يأتي أكله سوى من خلال فتح أبواب العضوية في أوبك لمنتج كبير يلعب دوراً فاعلاً في السوق النفطية العالمية، وبالرغم من أن روسيا حافظت على سياسة متوازية مع منظمة أوبك الا أن التطلعات الروسية للتعاون وتعزيز العلاقات السياسية مع العالم العربي تحثها اليوم أكثر من أي وقت مضى على الانضمام لمنظمة أوبك لتكون شريكا فاعلاً في هذه المؤسسة الدولية النشطة، كيما تزيد في قدرتها على الدخول الى المسرح الدولي عبر مؤسسات مؤثرة عالمياً.

السعودية التي واجهت ضغوطاً متواصلة من جانب مؤسسات إقتصادية غربية من أجل إعادة تأهيل كيانها الاقتصادي كشرط عبور لمنظمة التجارة العالمية تشعر بحاجتها الملحّة لقوى مساندة تمنحها الثقة للتخلص من أي ابتزازات سياسية غربية واميركية بدرجة أساسية. فالسعودية مازلت تدفع فاتورة الحرب على الارهاب من سمعتها وثروتها ولا شك أن الجشع الأميركي كان شديد القسوة على الجانب السعودي الذي تنبه في نهاية المطاف الى أن هذا الجشع لا يقف عند حد، فقد أريد من السعودية أن تدفع أثماناً تفوق بأضعاف خسائر الولايات المتحدة في الحادي عشر من سبتمبر وكلها تتم تحت عنوان (الحرب على الارهاب)، وهذا من شأنه أن يسوق السعودية الى حتفها الأخير، ولا يبدو أن الاستقرار الداخلي للسعودية يدخل الآن ضمن استراتيجية المصالح الحيوية الأميركية، فمعادلة الحفاظ على أمن واستقرار السعودية من أجل ضمان تدفق النفط الى الاسواق النفطية لم تعد تحتفظ بكافة عناصرها، فالنفط بات مكفولاً في كل حال.

لهذه الاسباب وغيرها، يدرك الضيف السعودي والمضيف الروسي ويدرك جميع المراقبين بأن المسألة النفطية تمثل جزءا محورياً في المفاوضات السعودية ـ الروسية، وأن الروس ينظرون الى النفط بوصفه مفتاحاً سحرياً في علاقاتهم مع الشرق الأوسط، ولأن الولايات المتحدة تعوّل كثيراً على النفط الروسي في تعويض أي نقص محتمل في السوق النفطية الدولية، وهذا ما تدركه روسيا جيداً التي تطمح الى استثمار ريعها النفطي في لعب دور فاعل في أسعار النفط، فلذلك يتوقع أن ترسم الادارة الأميركية خططاً لاحباط مفعول الاتفاق النفطي المحتمل بين روسيا والسعودية.

في ظل وضع كهذا، هناك ثمة سباق اميركي ـ شرق أوسطي على إيصال رسالة مقنعة للقيادة الروسية حيال دور النفط في السوق الدولية، فالأميركيون يغرون الروس بأن نفطهم قابل لتحقيق مكاسب كبيرة فيما لو تم استعماله كإحتياطي إستراتيجي في حال إضطراب السوق النفطية الشرق أوسطية، أما الدول العربية والقيادة السعودية في القلب منها تحاول التأكيد على أن التنسيق المشترك في موضوع النفط وحد الكفيل بتأسيس أرضية مناسبة لعلاقات مستقبلية وطيدة مع الشرق الأوسط. وكلا الرسالتين تشتملان على مغريات للقيادة الروسية، فهي لا تريد أن تفقد الدعم الأميركي، ولا تريد أن تؤجل فرصة سانحة اليوم للدخول الى الشرق الأوسط لبناء تحالف مستقبلي يلبي تطلعاً سياسياً واستراتيجياً روسيا طالما حلمت به في فترات سابقة قبل أن ينهار الاتحاد السوفيتي.

النظرة السياسية الأميركية اختلفت كثيراً في تقييم الدور الروسي في الشرق الأوسط، فهي نظرة تراجعت فيها الهواجس من حضور القطب الروسي في أعقاب تفكك الاتحاد السوفيتي وغروب الأيديولوجية الشيوعية ووقوعها في قبضة الليبرالية الغربية واضطرارها للدخول في برنامج اصلاحي مشروط. في الحاصل النهائي، فإن مقومات بناء تحالف سياسي عابر للقارات تديره موسكو أو حتى تلعب فيه دوراً موازياً للقطب الأميركي أو في تحقيق توازن دولي يبدو الآن مستحيلاً، فحركة عدم الانحياز أصبحت الآن تاريخاً فلم تعد نظم التجارة والاقتصاد والاتصالات التي كانت تستمد مؤونتها من الثقافة التحررية المناهضة للاستعمار والبرجوازية الغربية قابلة للانبعاث في ظل طغيان العولمة، التي أحبطت مفهوم عدم الانحياز وسياسة الحياد الايجابي، فيما تنبث اليوم وبصورة وحشية ثقافة التبعية بعدما أصبحت الولايات المتحدة القطب الأقوى والأوحد والأكثر انتشاراً بكل قواه العسكرية، والاقتصادية والسياسية والاستخباراتية.

الشرق الأوسط والمنطقة العربية على وجه الخصوص، وللأسباب سالفة الذكر، لم تعد قادرة في ظل انفلاشات في بنية النظام السياسي العربي قبالة اجتياح جلوبالي اميركي، على تبني سياسات مستقلة عن الدور الأميركي، فهذا النظام يسير الى حتفه الآن، فيما يعد اللاعب الأميركي نفسه لاشاعة نموذجه في التغيير المنسجم مع مصالح واستراتيجياته بعيدة المدى.

فقد بات مدركاً الآن أن الضغوط الأميركية في إحداث خلخلات عنيفة في البنى الثقافية والسياسية والاجتماعية والاقتصادية في الشرق الأوسط مصممة لارساء نظام تبعية جديد يتناسب وتوحدّها الكوني وتغوّل عولمة تضرب بأمواجها كل القوى المتوازيه القائمة أو بقاياها.

السعودية وروسيا: البحث عن حلفاء والتطلع الدولي

روسيا التي تحاول النهوض ببطء شديد للدخول في حلبة الصراع الدولي، من أجل تعويض جزء من خسارتها الفادحة في النظام الدولي تحدّق كثيراً في القارة الأوروبية بحثاً عن حلفاء جدد تجسّر بهم الفجوة العميقة مع القطب الأميركي الممتد بسرعة فائقة على الخارطة الدولية. فهناك يلجأ الضعفاء الى بناء شكل من أشكال التكتل يضاهي الدور الأميركي، الذي أثبت تفوقه حتى الآن وبخاصة بعد احتلال العراق، حيث ظهر أن الأميركيين ومعهم البريطانيين، يعملون بصورة منفردة وقد قرروا تجاوز الدور الأوروبي، وبخاصة بعد أن فشل تكتل روسيا والمانيا وروسيا والى حد ما بلجيكا في جبه القرار الأميركي بغزو العراق مهما كان الأمر، وبدون الرجوع الى هيئة الأمم المتحدة ومجلس الأمن.

والسعودية وهي تنظر الى الساحة الدولية، التي تشهد أميركياً كاسحاً حيث تحوّلت الى لاعب وحيد دون منافس في هذه الساحة، ترمق خطراً محدقاً بها اقتصادياً وأمنياً وسياسياً من قبل القادم الأميركي الى المنطقة في هيئة مستعمر لا كحليف استراتيجي، وهذا ما يدفعها بشدة نحو البحث عن حلفاء أو أنصاف حلفاء تتوصل معهم الى إتفاقيات كليّة أو جزئية ثنائية أو جماعية لتشكيل جبهة من الحلفاء لمقاومة النظام المحوري الجديد في العالم. اختيار روسيا كطرف يمكن التوسل به في الدخول الى جبهة الحلفاء يبطن ترتيبات راهنة ومستقبلية، وحتى الآن لم يظهر من تلك الترتيبات على سطح الماء سوى الجانب الاقتصادي وفي شقه النفطي بدرجة أساسي، الا أن هذا الخيار قابل، حين تجري قراءته، في سياق الجهد الاوروبي والروسي لبناء تحالف شبه استراتيجي في المستقبل خصوصاً مع حسم الموقف البريطاني أوروبياً.

السعودية تجد الآن في روسيا بعد غروب الايديولوجية الحمراء المناوئة للدين عن موسكو، طرفاً مؤهلاً للدخول في تحالف معه مستقبلاً، ولكن طبيعة هذا التحالف تبقى رهينة تحولات سياسية محلية ودولية، ولا شك أن هذا التحالف لن يصل الى مستوى فتح الاسواق السعودية أمام شركات روسية للدخول في مجالات هي مصنّفة ضمن الامتياز الأميركي والأوروبي الغربي، وبخاصة المجالات المتعلقة بالتكنولوجيات المتقدمة.

ولكن السعودية، في ذات الوقت، والتي كانت ترى في الدور الروسي في منطقة الشرق الاوسط خطراً كبيراً على استقرارها السياسي تميل كثيراً الآن الى اعادة احياة هذا الدور ولكن هذه المرة ضد الدور الأميركي، بعد إن اكتشفت بأن مشروعاً اميركياً ـ اسرائيلياً يتم تنفيذه الآن لتغيير خارطة الشرق الاوسط عبر بوابة السلام المزعوم تخسر فيه مكانتها وأمنها واستقرارها. ولعل الكفاءة الدبلوماسية السورية قد نجحت الى حد كبير في إقناع القيادة السعودية بأن إعادة تأهيل الدور الروسي شرق أوسطياً سيلبي جزءا من التطلع السياسي العربي نحو إعادة التوازن لوضع بات يميل كثيراً لصالح الطرف الأميركي. يبقى أن إعادة تأهيل الدور الروسي تتطلب شراكات تجارية وحضوراً عسكرياً واتفاقيات دفاعية على المدى البعيد، بالنظر الى التحديات الداخلية (الاقتصادية والاجتماعية بدرجة أساسية، والتحول من نظام اقتصادي اشتراكي الى آخر ليبرالي مشروط) وهي تحديات ظلت تعصف بروسيا منذ تفكك الاتحاد السوفيتي ما جعلها غير قادرة على مزاولة دور فاعل خارج حدودها.

معوّقات الدور الروسي دولياً لا تنحصر في الجانب الاقتصادي بل هناك معوّق آخر يمتد الى وحدتها الوطنية، فقد أصبحت الشيشان الخاصرة الضعيفة في الجسد الروسي منذ تفكك الاتحاد السوفيتي، فالقضية الشيشانية بحسب عقيدة موسكو يمكن حلها من خلال تنسيق المواقف الروسية السعودية، فموسكو تعتقد بأن الرياض تملك بعض مفاتيح الحل بسبب وجود جماعات من مواطنيها في صفوف القوات الشيشانية المناوئة للقيادة الروسية، فالنزوع الاستقلالي لدى قطاع واسع من الشيشانيين يستقي جزءا هاماً من زخمه المعنوي والمادي من الجماعات الجهادية التي مثّل القائد العسكري المغدور به خطّاب السعودي الجنسية أحد رموزها الكبار. ينضاف الى الشيشان قوميات اخرى متوزعة على التراب الروسي تحمل تطلعات استقلالية مماثلة ولكن بدرجة أقل ويخشى أن تتحول الى عناصر ضغط يستعملها الطرف الأميركي.

لاشك أن حلم التحالف العسكري بقيادة روسيا بات الآن مستحيلاً وخصوصاً بعد أن نجح الناتو وعلى نحو سريع في وراثة التركة السوفييتية والتمدد الى التخوم الروسية. أضف الى ذلك العجز الكبير الذي أصاب القدرة العسكرية الروسية وانسياقها نحو تسوية أوضاع اقتصادية بشروط شديدة الاجحاف، وإخضاعها تحت سلطة البنك الدولي الذي فرض شروطاً باهضة على الروس من أجل إصلاح وضع اقتصادي وسياسي جوهري.

من جهة ثانية، تدرك روسيا الآن بأن الزيارة السعودية تأتي في مرحلة تشهد فيها العلاقات مع الولايات المتحدة إرباكاً حاداً منذ الحادي عشر من سبتمبر، فهناك غايات سعودية بطبيعة الحال من الزيارة لموسكو وهذا ما لا تحتاج القيادة الروسية للتذكير به، وأن المصالح المشتركة تنظر اليها روسيا في سياق حسابات سياسية واقتصادية دولية، فروسيا تقوم بعملية قسمة دقيقة في علاقاتها الدولية، فهي مع الغرب تطمح لتمهيد الطريق للعبور الى المنظمات الاقتصادية الاوروبية مثل المجموعة الأوروبية. يضاف الى ذلك أن الرهان السياسي الروسي يتجه محورياً الى أوروبا، زائداً أن ما تحصل عليه روسيا من الولايات المتحدة في هيئة دعم اقتصادي يعطّل الى حد ما التطلع السياسي الروسي في منطقة الشرق الأوسط والذي سيكون فيها التنافس على حساب أجندتها الأوروبية والدعم الاقتصادي الأميركي. فمن منظور تجاري، تواجه روسيا منافسة شرسة في المنطقة العربية التي تحوّلت الى سوق استهلاكية لمنتوجات الشركات الغربية والأميركية بخاصة، واذا كان هناك ما يمكن للروس تقديمه للشرق الأوسط وتملك فيه جدارة تنافسية فهي الزراعة والصناعة الى حد ما، وقد يكون هذان المجالان مدخلاً مناسباً لروسيا كيما تلعب دوراً اقتصادياً وتالياً سياسياً في الشرق الأوسط.

الطلب الروسي بالانضمام الى منظمة المؤتمر الاسلامي تأسيساً على أن نسبة المسلمين من إجمالي السكان الروس تصل الى نحو 20 بالمئة وهذا وحده يكفي لمنح روسيا حق الانضمام للمنظمة بصفة مراقب، يتجاوز الحدود الدينية، بل يتنامى التطلع الروسي الى تطبيع علاقاتها مع منطقة بقيت شديدة الخصام مع ايديولوجية وصمت بالالحاد لعقود طويلة، وأن غسيل الماضي يتم التخلص منه عبر بوابة دينية ومن خلال منظمة المؤتمر الاسلامي كمنظمة حاضنة للدول الاسلامية، كما أن لروسيا رغبة في أن تجد صوتاً اسلامياً في قضية مؤرقة تسربت الى الثقافة السياسية الشرق الأوسطية عبر قناة تعبير دينية وأصبحت جزءا من قضايا المسلمين الحرجة. فروسيا تريد بانضمامها الى منظمة المؤتمر الاسلامي محو صورة الماضي الالحادي عنها وإدخال صورة أخرى عن روسيا من البوابة التي طردت منها بالأمس لنفس الأسباب.

روسيا التي تملك مبررات ضئيلة للدخول الى الشرق الأوسط اقتنصت بتكلّف شديد مسألة الانضمام لمنظمة المؤتمر الاسلامي كيما تحيله الى بوابة واسعة لتحقيق مآرب عديدة سياسية واقتصادية وثقافية. ومن المفارقات المدهشة أن روسيا تستغل الآن قضايا كانت بالأمس تشكل مبررات المجابهة معها في الشرق الأوسط، فالولايات المتحدة اليوم تشبه الى حد كبير صورة خصمها بالأمس، فهي اليوم تحتل أفغانستان بعد أن كانت الأخيرة تحت الاحتلال السوفيتي، وهي ـ الولايات المتحدة ـ تعتبر الاسلام اليوم خصمها الحضاري رقم واحد، وكان الاتحاد السوفيتي بأيديولوجيته الشيوعية المناوىء الأقوى والأوحد للإسلام وباقي الأديان في العالم. فمبررات التحالف بين الولايات المتحدة والسعودية هي اليوم ذات المبررات التي تصلح لتحالف سعودي ـ روسي ولكن هذه المبررات غير منفصلة عن ظروف تاريخية مختلفة فقدت فيها روسيا مقومات القطبية المنافسة لنظام القطبية الواحدية.

كل التطلعات والترتيبات الجارية الآن بين السعودية وروسيا ليست بعيدة عن الرقابة الأميركية، فهي تخضع لتقويم دقيق من جانب واشنطن التي لن تسمح لأي ترتيبات قادمة بأن تخل بتفوقها وهيمنتها السياسية والاقتصادية في الشرق الأوسط، ولديها من أوراق الضغط ما يكفي لوضع تلك التطلعات في حدود ضيقة، عن طريق استغلال نقاط الضعف الروسية وأبرزها الازمة الاقتصادية والاجتماعية. وهذا لا يقلل من حذاقة الساسة الروس الذين يعلمون سلفاً بما تحمله الجعبة الأميركية، فهم ليسوا على استعداد حتى الآن للدخول في مناطق تثير استفزاز الولايات المتحدة، وبخاصة بيع السلاح أو الاستعمال السياسي بإفراط للنفط بما يعجّل فرص المجابهة بدلاً من الدخول الهادىء الى الشرق الأوسط. ولكن يبقى التطلع المشترك الروسي السعودي يحقق تقدماً ثابتاً ويحظى هذه المرة بتأييد عربي واسع رسمي وشعبي لمواجهة القطب الأميركي.

الصفحة السابقة