الانتقال الخاطف من الجزيرة الآمنة الى صواريخ سكود

ثمة مشهد دراماتيكي تمر فيه الصور بطريقة خاطفة، فالتحول المفاجىء في الوضع الأمني الداخلي باغت الدولة ورهن المجتمع، فأسطورة (الجزيرة الآمنة) أو (الدولة القابضة على الزمام) تحوّلت على حين غرة الى مجرد دعوى زائفة فيما تحولت الدولة الى ما يشبه جثة متحركة لا تملك دفع الضرر عن نفسها فضلاً عن من تسود.

فالانهيار الأمني الخطير لم يكن مفاجئاً لكثير من المراقبين والمحللين، فسياسة ترحيل المشاكل الى المستقبل زرعت بذور التطرف وساهمت ظروف خارجية في توفير بيئة خصبة لنموها السريع، ثم جاء الحصاد المرّ بعد أحداث الحادي عشر من سبتمبر والتي أخرجت الى السطح ما كان ثاوياً في داخل المجتمع، فخرجت جماعات العنف من قمقمها للاصطدام بالدولة ويخشى ان تطال عملياتها المجتمع نفسه.

ليس بالإمكان الآن العودة بعقارب الزمن الى الوراء، فظاهرة العنف مرشحة للتصاعد طالما أن قراراً صحيحاً لم يصدر حتى الآن من قبل الدولة. وستبقى البلاد مفتوحة على مفاجئات أمنية غير سارة، طالما أن هناك مشاكل إقتصادية واجتماعية لم تحل، وفكراً متشدداً لم يروّض، واحتكاراً تاماً للسلطة لم يتكسر، وإصلاحاً سياسياً لم يقر.

لم يكن انتقال البلاد والعباد من وضع أمني مستقر الى آخر متفجر وبوتائر متسارعة مفصولاً عن تبدلات داخلية وخارجية مهما حاولت السلطة الحاكمة وبخاصة وزارة الداخلية تصويره إعلامياً، فهذا الانتقال هو الاستعلان الأقصى والأقسى عن تبدّلات خطيرة في حياة السكان، طالت أوضاعهم المعيشية، وحقوقهم الاجتماعية والثقافية والسياسية، وحرياتهم في التعبير والتجمع..وهي تبدّلات لم تنظر اليها الدولة بوصفها قضايا ملحّة أو يجب أن تحظى بالاهتمام الكافي لحلها جذرياً، ولذلك ظلت هكذا تتراكم، وتتفاعل، وتتفاقم وصولاً الى بلوغها درجة الغليان والتفجّر.

فجمود الجهاز الإداري للدولة والتحوّلات المجتمعية السريعة لاشك أنها خلقت فجوة واسعة لا يمكن ردمها، كما صنعت ظروف مواجهة بين المجتمع والسلطة، وأخذت المواجهة أشكالاً مختلفة، بعضها سلمي وآخر متفجّر، ولكن ثمة مبررات مشتركة تجمع بين هذه الاشكال، ولكن الاختلاف هو في طريقة التعبير.

فجماعات العنف في تعبيرها الصدامي عن احتجاجها على السلطة ليست سوى جزءا من مجتمع يمور في نشاطات احتجاجية بأشكال متعددة، وأن محاولة عزل ظاهرة العنف عن الدائرة الاحتجاجية الأوسع في المجتمع هي أسلوب تقليدي تتبعه السلطة في خداع الذات والآخر، يقوم على أساس اعتبار أن هذه الجماعات تمثل نتوءات نافرة ليست لها صلة بالنسيج الاجتماعي العام. صحيح أن العنف كأسلوب في الاحتجاج السياسي يعد تطوراً غير مسبوق، ولكن الصحيح أيضاً أن الافراد الضالعين في عمليات العنف ينبعثون من مجتمع بات منخرطاً وعلى نحو كثيف في نشاطات إعتراضية على الدولة، فهؤلاء ليسوا من كوكب آخر بل هم قسم من تيار شعبي عارم ولكن له طريقة خاصة في التعبير عن معارضته للسلطة.

في حقيقة الأمر، أن تصاعد درجة العنف الى حد تهريب شحنات من صواريخ سكود الى داخل البلاد ليس سوى رد فعل صارخ على الانسداد السياسي، وخمود الآمال المعقودة على السلطة في الاصلاح. وهذا لا يحتمل بأية حال تبرير سلوك جماعات العنف، فسيظل العنف بأي شكل كان، وبصرف النظر عن مصادره سواء كانت السلطة أو المجتمع مرفوضاً ومداناً مهما كانت مبرراته وايديولوجيته، ولكن في ذات الوقت لا يجب إبراء ذمة الدولة في هذا التطور، دع عنك دور الدولة نفسها في رعاية هذه الجماعات أو قسم كبير من أفرادها حين كانوا في أفغانستان وضمن مشروع الجهاد ضد الاتحاد السوفيتي السابق.

وثمة أمر آخر تلفت إليه عميات تهريب الاسلحة وبالكمية والنوعية التي نسمع عنها جميعاً وما خفي ربما كان أعظم، أن عقيدة هذه الجماعات تقوم على أساس أن التغيير السياسي يجب أن يتم بقوة السلاح وبالمواجهة العسكرية وباستعمال كافة الاسلحة الخفيفة والثقيلة، أي بمعنى آخر إعلان الحرب على الدولة. وهذا أمر ربما لم تلتفت اليه الدولة قبل بدء تكثيف حملات المداهمة والتفتيش والملاحقة، ولكنها تدرك الآن بأن تهديداً خطيراً يحيق بالأمن الوطني وبوحدة الدولة معاً، والسبب في ذلك أن نوعية الاسلحة لا تستهدف عمليات صغيرة ومحدودة بل هي تستعمل في الحروب بين الدولة.

ولكن في ذات الوقت..هناك ما يدعونا نحن كجزء من تيار إصلاحي عام أن نؤكد المرة تلو الأخرى بأن العنف لا يواجه بالعنف، لاسيما وأن مصادر العنف، أسبابه، وأيضاً حلوله باتت معروفة ولا تنبىء مثل خبير كالدولة في موضوع بات معلوماً لدى الجميع، فهذا الاسترسال العنيد نحو إشاعة أجواء توتر في مناطق عديدة من المملكة بحجة ملاحقة الجماعات الارهابية والقضاء على العنف هو كما يقال (تطبيش)، ولم يسفر عن إستعادة الاستقرار الأمني بحال. بل قد يستعمل فشل الدولة في إعادة الهدوء والاستقرار الى المناطق التي شهدت ومازالت حوادث عنف وجرائم قتل صغيرة وكبيرة ضد الدولة ذاتها.

فإنهيار الوضع الأمني يعتبر مؤشراً خطيراً، لأنه يضيف عنصراً جديداً في الاحتجاج الشعبي على الدولة، وذلك بعدم قدرتها على حفظ أمن وسلامة المواطنين، كما يضيف إخفاقاً آخر الى قائمة إخفاقاتها في المجالات الأخرى وبخاصة المتعلق منها بوظائف الدولة الرئيسية كالتعليم والصحة والخدمات العامة، فإذا أضيف لها الأمن جاءت المحصلة النهائية كارثية، وحينئذ تصبح الدولة فاقدة لمبدأ القيمومة والسيادة.

وصول الدولة الى مرحلة اللاعودة لا يترك لها خياراً آخر غير الدخول في مواجهة شاملة مع المجتمع، اذا ما رفضت مبدأ الاصلاح السياسي الجوهري والشامل. فالاهتزازات العنيفة في بنية الدولة قد تتسع وتكتسب مزيداً من الزخم والأنصار في ظل تعامل السلطة الساخر أحياناً كثيرة مع دعاة الاصلاح، ونبذ الأصوات الراشدة في هذا البلد.

فالدولة بمنهجها غير الرشيد مع التيار الاصلاحي السلمي العام، تفسح الطريق لنشوء ظواهر عنفية بأشكال غير مسبوقة. فاليأس الذي ينتاب التيار الاصلاحي العام من الدولة يجعل الخيارات السلمية هزيلة وهشة وغير مجدية، فيما تسهم الدولة بسلوكها اللاأبالي وأحياناً المذلّ في تعزيز الخيارات الراديكالية كما هو حاصل الآن، حيث تعيش الحكومة معركتها الخاصة مع جماعات العنف.

استبداد الشعور لدى العائلة المالكة بأن الاصلاح السياسي كما العنف يستهدف ابتداءً وإنتهاءً تدمير ملك آل سعود، وسرقة التركة السياسية منهم، هو ما يجعل أساليب الحل دائماً وفق ذلك الشعور، فالاصلاح مرفوض لأنه سيفضي الى تآكل الملك ومصادرة الحق التاريخي للعائلة المالكة، والعنف مرفوض لأنه يقود الى تفتيت سلطان آل سعود. وينسى أفراد هذه العائلة بأن الأضرار التي أصابت المجتمع بسبب هذا الشعور المستبد كانت كفيلة بإعلان حالة طوارىء حقيقية لانقاذ المجتمع من أزمات خلقتها الدولة. هذا رغم أنه لم تعلن أي جهة في داخل البلاد حتى الآن عزمها أو تبنيها فكرة مناجزة العائلة المالكة أو الدعوة الى إسقاطها، واذا كان هناك من يعمل على اسقاطها فهم جماعة العنف.

الآن وقد بلغت أوضاع البلاد ذروة الخطورة، هناك من يخشى، خشية مشروعة ومنطقية، من أن تدخل البلاد مرحلة إنفلات أمني حقيقي، قد تؤول ـ لا قدّر الله ـ الى حرب أهلية، وتتحول الدولة الى جزء من تلك الحرب. نقول ذلك لأن هناك مصادر عديدة أخبرتنا بأن كميات السلاح والمتفجرات التي تسرّبت الى داخل البلد كانت هائلة للغاية، وأن المكشوف منها يعد ضيئلاً جداً، وأن هذه الكميات قابلة للاستعمال ضد الدولة والمجتمع معاً، فحرب جماعات العنف مفتوحة مع كليهما، طالما ان مبررات هذه الحرب متكافئة، ففتاوى التكفير قد صدرت ضد الحكومة وشخصيات دينية وثقافية وسياسية عديدة في المجتمع، وأن ثمة تكليفاً عملياً في هذه الفتاوى يقضي بإستعمال السلاح إنفاذاً لأحكام الشريعة في قتل الكافر والمرتد والضال..

إن ما يبعث القلق الجاد هو أن العنف حين يستعمل في مجتمع تعددي لا يعدو أن يقبر تلقائياً وعلى نحو سريع أي إنتماءات وطنية وهويات جامعة، فسيعود الجميع الى التمسك الشديد والوحيد بالروابط التقليدية، التي ستتحول الى مصدر حماية نهائية لكل جماعة، وحينئذ لن تكون الدولة دولة بالمعنى الحقيقي بل ستصبح جزءا من جماعة، خاصة وأن هذه الدولة لم تكن في يوم ما ممثلاً مشتركاً وإطاراً وطنياً جامعاً للجماعات المنضوية بداخلها. وستكون نزعات الانفصال أول ما يظهر في ثقافة هذه الجماعات، وخصوصاً تلك التي خسرت بوجود الدولة كثيراً وأن إنفصالها يحررها من هيمنة الدولة ويمنحها القدرة على التعويض عن خسائر الانتماء لدولة غير وطنية.

تدرك الدولة كل ذلك، ولكن الإصرار على تجاهل حله الآن لا يغيّر من حقيقة أننا بتنا أمام وضع يوشك أن يتداعى ولا يفيد حينئذ الحديث عن إصلاح سياسي، فسيكون هذا الحديث في الوقت الضائع، لأن الدولة لن تكون حينئذ موجودة، بل سترتد في إدراك الجماعات الى موقعها الطبيعي، الاقليم والمذهب والعائلة، وسيتم التعامل معها كجزء من جماعة محددة ومناوئة.

الاستئناس بتصريحات الاستنكار من قبل زعماء القبائل والمناطق ووجهاء البلاد والتجار والمثقفين ضد مبدأ وحوادث العنف قد يحقق تعويضاً نفسياً فحسب للعائلة المالكة وقد يلبي جزءا من سياستها في تأكيد الولاء لها في أوقات الشدائد، ولكن العائلة المالكة تدرك تماماً بأن ذلك التعويض لا يرقى الى مستوى الاصطفاف الشعبي والمبايعة للدولة، فهذا الأسلوب يستعمل كعنصر في معادلة المصالح المتبادلة ليس الا. فاختبار التصريحات يتم حين لا تكون الدولة قادرة على ضمان مصالح وأمن من تستأنس بإستنكاراتهم المعلّبة.

دولة تضييع الفرص

فرص عديدة كانت أمام الدولة للخروج من أزماتها المستفحلة، ولكن السياسة كانت واحدة وتتلخص في ترحيل المشاكل وتأجيل الحلول. ربما كانت هذه السياسة منقذة في فترات سابقة وأيضاً محتملة، في ظل أوضاع اقتصادية وسياسية وأمنية مستقرة نسبياً، الا أن التدهورات المتوالية في أوضاع البلد الاقتصادية والاجتماعية والسياسية والأمنية أدّت الى تقلّص حاد في فرص الحل، ولهذا السبب فإن خيارات المواجهة مع الدولة تطوّرت هي الأخرى من التناصح الى الالتحام العنيف مع الدولة.

مقولة شاعت ومازالت بين الناس بأن هذا البلد يمشي بالبركة، تعبيراً عن أن سيراً غير طبيعي يحكم حركة الدولة ولكن هو اللطف الالهي الذي يحول دون إنهيارها. ولكن هذه المقولة أخذت تفقد جزءا كبيراً من صدقيتها، فهذه البركة زالت او هي على وشك أن تزول تماماً منذ أن بدأت لغة العنف والشاحنات المفخخة وصواريخ سكود تسود، حتى بات الافراد يهجسون بأمنهم الشخصي قبل أمن البلد والدولة، فهذا الخطر المحدق بالجميع لا يترك مجالاً لأحد بأن يفكّر في مصير الدولة، التي لم تبادل السكان شعوراً مماثلاً. وما يخشاه السكان الآن بعد زوال البركة أن تعم الفوضى في البلاد ويصبح الافتراس الداخلي حاكماً، ويصبح القتل واهراق الدم جزءا من مشهد الهلع القادم.

في ظل ضياع الكثير من فرص الحل يبقى أمام الدولة فرصة حل أخيرة، ممثلة في مشروع إنقاذ وطني لأن البلاد وهذا ليس سراً مقبلة على إنهيار خطير ونرجو أن يخرج من هذه العائلة من يحمل بجد وأمانة مسؤولية المشروع.

الصفحة السابقة