تآكل مشروعية الدولة

آل سعود وتحدي الوجود

محمد قستي

في سياق شرعنة العلاقة بين القيادة والطاعة يحدد ماكس ويبر ثمان مصادر رئيسية للمشروعية: التعاهد، العقد، المبادىء العالمية، القداسة، الخبرة المصحوبة بالمعرفة الواسعة، التوافق الشعبي، الروابط الشخصية، والخصائص الشخصية. وقد اختصرت هذه المصادر في خمسة: التعاهد، والقداسة، والروابط الشخصية، والخصائص الشخصية، والعقلانية.

تفقد اليوم الدولة القائمة في الجزيرة العربية، وبصورة تدرّيجية، العناصر الحيوية المسؤولة عن وحدة وبقاء هذه الدولة، في ظل انعدام مصادر رئيسية للمشروعية ومنها وجود تعاهد بين الحكام والمحكوم، وإن وجد فهو بين الحاكم وفئات صغيرة الحجم ولا تمثل سوى نسبة ضئيلة من المجموع السكاني، وكذلك القداسة حيث تواري هالة القداسة التي كانت تضفيها بعض الجماعات على الدولة باعتبارها حامية للحرمين الشريفين، أو حتى بحكم التزام أهل الحكم بالتعاليم الدينية، فأمراء العائلة المالكة ينظر إليهم في الغالب باعتبارهم فاسدين أخلاقياً واجتماعياً، بل ومنهم من صار يلعب دوراً إفسادياً..

على مستوى الروابط الشخصية، فإن العائلة المالكة باتت تعتمد بسبب سياسات التمييز التي تتبعها على أساس مناطقي وقبلي ومذهبي فقدت الكثير من الفئات الإجتماعية التي كان يمكن الرهان عليها في تعزيز مشروعيتها، فثمة انسحاب لفئات عديدة من دائرة السلطة بعد أن تكبّدت خسائر فادحة من سمعتها، ومصالحها رجاء الحصول على مكاسب محددة سياسية واجتماعية وحتى اقتصادية، أو ربما درء أخطار ومفاسد محتملة من النظام. ما يجري اليوم أن أسماء كبيرة تفارق هذا الكيان ومن فيه بسبب اليأس من حصول التغيير فيه، وبالتالي التطلّع الى أن يقع التغيير من خارجه، وبفعل عوامل داخلية موضوعية وربما خارجية.

أما الحديث عن الخصائص الشخصية، فإن موجات الدعاية التي انطلقت قبل وبعد وصول عبد الله الى العرش تراجعت بشكل لافت منذ التراجع الحاد في أحواله الصحية. في واقع الأمر، أن الملك عبد الله بدا كما لو أنه دفع ثمناً باهضاً لدعاية لا تناسبه، فقد أحيل منه إصلاحياً وهو لا يملك سلطة الإصلاح، فضلاً عن أن يملك أدواته، ولذلك لم يحدث طيلة سبع سنوات على اعتلائه العرش ما يمكن وصفه بقفزة إصلاحية حقيقية بملء إرادته، بل هي في الغالب وعود وقررات مؤجّلة دع عنك تفاهة مضمونها. لقد تكشّفت في الآونة الأخيرة حقيقة الدور المحدود الذي يمكن للملك عبد الله أن يلعبه، فقد بات أسيراً لكتلة متحالفة من الأمراء الكبار وبعضهم من قادة الأجهزة الأمنية الذين يملون عليه ما يجب فعله وقوله، وأن العمل جارٍ على تمرير حقبة الملك عبد الله بهدوء ريثما يعتلي الأمير نايف، ولي العهد الحالي، العرش، إن أمهله المرض، والذي قد يأتي دون خصائص شخصية لافتة، بل سيثمل حدثاً انفجارياً داخلياً، ولا يبدو من سلوك نايف والمؤسسات المتحالفة معه: هيئة كبار العلماء، هيئة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، مشايخ الصحوة، أن الدولة ستشهد هدوءاً في المرحلة المقبلة، بل ستكون شخصية نايف خلافية في المجمل.

وهذا ينقلنا الى باقة أخرى من مصادر المشروعية، ومنها مشروعية العمل، والمرتبطة بقوانين إجرائية متّفق عليها، ومشروعية الأداء، والتي تعرّف بارتباطها بمفعولية ونوعية المنافع والخدمات العامة (في الأوضاع المرتبكة يلعب الأمن دوراً مركزياً)، ولا أظن أن هناك سواء من المواطنين أو المراقبين من يختلف على حقيقة تراجع حاد في هيبة الأجهزة الأمنية، كما ظهر في التجابه الحاصل بين الناس من ناشطين وفاعلين سياسيين وحقوقيين أو أناس عاديين، وهذا ربما ما دفع أول مرة الملك عبد الله في 17 مارس من العام الماضي الى إصدار بيان يحظر فيه نقد الملك وولي العهد وكذلك أعضاء هيئة كبار العلماء، ما يشير الى تحوّل كبير في طريقة تعاطي الناس مع الرموز السياسيين والدينيين للدولة، ما يعني أن الدولة تتجه الى مأزق خطير، خصوصاً حين تفقد الرموز قدسيتها..

نعم، أرادت الدولة إثبات هيبتها الأمنية في 11 مارس، اليوم المقرر لانطلاقة ربيع السعودية، حيث بدا واضحاً من حجم الاستعدادات وكثافة الحضور الأمني الى جانب موجة الترويع الديني من التظاهرات التي قادها مشايخ وعلماء المؤسسة الدينية الوهابية لجهة إحباط التظاهرات الشعبية..ولكن لم تنته القصة هنا، فثمة فصول أخرى لاحقة لابد من قراءتها.

في المنطقة الشرقية اندلعت التظاهرت وتواصلت على مدى عام كامل وحتى الآن، وسقط العشرات بين قتيل وجريح برصاص قوات الأمن السعودية، وفيما كانت هناك محاولات لخروج تظاهرات في مناطق أخرى، فإن أشكال الاحتجاج سلكت مساراً آخر ومنها الاعتصامات المتكررة أمام الوزارات والمحاكم والمؤسسات الحكومية، إلى جانب موجة المقالات والكتابات النقدية لسياسات الدولة والمطالبة بالتغيير والانتقال الى دولة ديمقراطية يشارك فيها الشباب..واخيراً التجمهرات الاحتجاجية الطالبية في أبها بنات وبنين.

ظاهرة أخرى لافتة، وتتصل حميمياً بالهيبة الأمنية، أن الذين ينتقدون الملك وأمراء آل سعود لم يعد يتلطّون وراء أسماء وهمية، فقد اختاروا الكلمة الصادقة والمواجهة الشجاعة، ظهر ذلك في مناسبات عديدة وخصوصاً على مواقع التواصل الاجتماعي (فيسبوك، تويتر، يوتيوب..). عاصفة التعليقات التي هبّت على مواقع لأمراء مثل عبد العزيز بن فهد، وطلال بن عبد العزيز، أو على قضايا مثل قرار تغيير أسماء أبواب الحرم المكي، أو استعمال الأمير سلمان، وزير الدفاع، كلمة بحبوحة في مقابلة مع صحيفة (السياسة) الكويتية، ينضاف الى ذلك حملات التضامن مع المعتقلين السياسيين والناشطين الحقوقيين، مثل محمد البجادي، وحبيب المعاتيق، المعتقلون المنسيون وغيرهم، وكذلك الحملات النسائية ذات الطابع الحقوقي، والتي كشفت عن تحوّل جوهري وهائل حصل في هذا البلد، بحيث لم يعد للهيبة الأمن أثر عملي على حركة الناس ومواقفها وأفكارها، وهذا ينبىء عن تآكل هيبة الدولة وضمور الهالة الأمنية المحيطة بها.

وباطلالة سريعة على المصادر الأخرى للمشروعية يتبيّن كيف أن النظام السعودي ساهم في تفتيتيها الواحدة تلك الأخرى ومنها المعتقدات المشتركة، بما في ذلك الاحساس بالمجتمع السياسي، والعقائد الدينية، والتقاليد، والقيادة الكاريزمية. فإن النظام السعودية وباعتماده مبدأ (فرّق تسد)، حيث يستمد آل سعود سلطتهم من خلال ترسيخ أسس الإنقسام الاثني والديني والسياسي في المجتمع، أدّت في نهاية المطاف الى خلق بيئة عقيمة لجهة إنتاج المشتركات، وصار البحث عن عناصر الإنقسام والخلاف، بحيث باتت الأغلبية السكانية في جبهة أخرى بفعل سياسات التمييز والتقسيم التي رسمتها الدولة السعودية لنفسها.

يقال بأن المحسوبية أو الاستزبان تقوم مقام نوعي المشروعية العملية والأدائية، خصوصاً في دول اعتادت على نمط من العلاقات الاجتماعية والعائلية في المجال العام. يبدو أن كتلة الزبائن تتآكل حين تصاب الطبقة الحاكمة ببارانويا السلطة، فتقوم بمصادمة حتى الحلفاء المحتملين..

نعم هناك مصادر غير داخلية تبقي على مشروعية الدولة السعودية، ومنها المشروعية الدولية، رغم ما تستبطنه الأخيرة من تعارض مع العقائد الدينية، والذي يظهر دائماً في علاقة الديمقراطيات الغربية والأميركية على وجه الخصوص مع النظام السعودي الذي يمثل نموذج الدولة الرجعية على المستويين الديني والسياسي. فكيف تستقيم ديمقراطية مع شمولية، وهذا ما يجعل اشتراك الولايات المتحدة والسعودية في مشروع دمقرطة في اليمن أو سوريا مثيراً للسخرية والإزدراء.

من الدقة العلمية والواقعية القول أنه ليست هناك دولة في العالم تعتمد على مصدر وحيد للمشروعية، ولكن لابد من التفريق بين مشروعية الدولة نفسها ومشروعية النظام أو الحاكم.

ربما استطاعت العائلة المالكة قبل عقود خلت الفصل بين مشروعية الدولة ومشروعية النظام، على اعتبار أن كيانية الدولة مستقلة عن النظام، وربما المثال الوحيد الذي يساق هو عهد الملك سعود الذي شهد صراعاً شبه مفتوح على السلطة بين أجنحة الحكم، ونزعت مشروعية الملك بفتوى من كبار العلماء في يناير 1964 تقضي بعزل الملك سعود عن العرش وتعيين فيصل بدلاً منه. وفي 29 مارس من العام نفسه صدرت فتوى من العلماء برئاسة الشيخ محمد بن ابراهيم آل الشيخ (المفتي العام لاحقاً) يقضي بتسليم السلطة بأكملها لفيصل مع ابقاء سعود ملكاً بالإسم ولكن دون صلاحيات. وفي 28 تشرين الأول (أكتوبر) 1964م اجتمع علماء الدين في منزل مفتي الديار السعودية محمد بن إبراهيم آل الشيخ، ثم عقدوا اجتماعاً آخر مع الأمراء في فندق (صحارى) بالرياض، حيث بلغ عدد المشاركين في الإجتماعين ـ كما يذكر دي غوري ـ زهاء مائة أمير و 65 عالماً، أي كل الفئة العليا من الهرم السياسي الديني في السعودية.

وفي 2 نوفمبر 1964، صادق مجلس الوزراء على قرارين: فتوى العلماء بمبايعة فيصل ملكاً، ورسالة وقعها جميع أفراد الأسرة المالكة تبايع فيصل ملكاً وتدين له بالولاء؛ كما بايع الملك الجديد أعضاء مجلس الشورى وممثلو أهم المحافظات؛ وتوجّه أعضاء الحكومة برئاسة خالد إلى سعود لإعلامه بالقرار الذي رفضه. وفي 4 تشرين الثاني (نوفمبر) أقسم الحرس الوطني يمين الولاء لفيصل، ولكن سعود ظل متردداً في قبول ما حدث آملاً في حدوث معجزة، فهدده فيصل بحرمانه من أملاكه ووضعه تحت الإقامة الجبرية إذا استمر متعنتاً. حينذاك وقّع سعود تنازله عن العرش، وفي كانون الثاني (يناير) 1965م غادر سعود البلاد، بعد أن أدّى يمين الولاء لأخيه. وفي آذار (مارس) 1965م عين فيصل أخاه غير الشقيق الأمير خالد ولياً للعهد.

وفي واقع الأمر، أن مشروعية الدولة السعودية غير قابلة للقسمة على إثنين، وهذا ما تستشعره العائلة المالكة، ويعبّر عنه الأمراء في أحاديثهم الخاصة بأن حركة الاحتجاجات الشعبية تستهدف الكيان برمّته، ولذلك يجري التعامل معها باعتبارها (مصدر تهديد للوحدة الوطنية) وهو المكافىء لوحدة الدولة في الوعي الرسمي!

مشروعية الدولة هي جانب رئيسي للعلاقات بين الدولة ـ المجتمع. وأن قمع الدولة وعنفها الذي يحدث في السياقات المتأثرة بالنزاع، تنجم عن تجارب سلبية للمواطنين مع الدولة، أي إرث الشك والإرتياب، ورفض مشروعية مؤسسات الدولة. في أوضاع هشّة كالتي تمرّ بها الدول العربية حالياً يصبح عجز أو عدم رغبة الدول بتقديم الرعاية للمواطنين لتحسين مستويات المعيشة قد أدى الى تقويض الثقة بين الدولة والمجتمع والمشروعية.

تطرح اليوم موضوعات الفقر والبطالة وتردي مستوى الخدمات في سياق الإحتجاج السياسي المفتوح، ما يعني أن مشروعية الدولة بلغت نقطة الحرج، حيث تخضع الدولة لامتحان الجدارة وهو أول ما تختبر به قدرة الدولة في الحصول على الجدارة وذلك عبر: توفير الحد الأدنى من الحقوق: المأوى والمأكل..

مشروعية الدولة قد تستمد من مصادر عددة، بما فيها كفاءة المؤسسات العامة في أدائها لوظائف متعددة، مثل تقديم الخدمات، وأنظمة الحماية الإجتماعية، ودرجة التمثيل والمحاسبة. ولا يمكن، على أية حال، أن تستمد المشروعية من مجرد مؤسسات وظيفية كفوءة. فمثل هذه المؤسسات يجب أن تكون صدى للمجتمعات في سبيل أن تصبح شرعية وأن تصبح مؤطّرة في المجتمع. وهذا يتعلق باختراق الدولة للمجتمع كأن يأخذ المواطنون حضور الدولة وقوانينها كأمر مسلم به، وأن يقبلوا حق الدولة في الحكم وموقعها باعتبارها أعلى سلطة سياسية.

في تطبيق ما سبق على الدولة السعودية، نجد أن الفساد الأداري لم يترك تأثيراته على كفاءة عمل المؤسسات والأجهزة الرسمية فحسب، بل بدّل بصورة عملية نظرات الفئات الاجتماعية ومواقفها وانتقل الاحتجاج من مجرد نقد الدولة وسياساتها ورموزها الى ترجمة النقد الى نشاطات عملية على الأرض.

الصفحة السابقة