نموذج لدولة آل سعود

طـائفيـة (أوطـان)

محمد الأنصاري

هي بالفعل (أوطان) وليست وطناً واحداً، فالبرنامج الذي أسفّ فيه مقدّمه وضيفاه ونالوا من الطائفية الإسماعيلية وقبيلة يام في نجران عبّر بأمانة شديدة عن واقع هذا البلد، فهو لم يكن في يوم ما وطناً، وإنما أوطان شتى، لأن حكّام الدولة السعودية من المؤسس الى من خلفه من بعده في العرش فشلوا فشلاً ذريعاً في إرساء أسس الدولة الوطنية، لأن ذلك يتطلب تغييراً أيديولوجياً وبنيوياً في تركيبة الدولة والأيديولوجية التي تستمد منها مشروعيتها..

وإذ لا تجتمع الطائفية والوطنية في دولة واحدة، فإن تصعيد الخطاب الطائفي هذه الأيام يعني شيئاً واحداً وهو تقويض ما تبقى من فرص إعادة بناء الدولة على أسس وطنية، فقد باتت الغالبية السكانية على قناعة تامة بأن من غير الممكن بقاء الدولة السعودية على هذا الحال، طالما أنها تسعى لضمان استمراريتها عن طريق تمزيق النسيج الإجتماعي والديني للسكّان..

لم تكّف المؤسسة الدينية الرسمية وفروعها في التعليم والوعظ والارشاد والافتاء والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر عن مصادمة الجمهور العام، تارة عبر انتهاك الخصوصية الفردية والعائلية، وأخرى عن طريق التعريّض بشخصيات إجتماعية ودينية وفكرية، وثالثة من خلال عقد ندوات ومقابلات تنال من طوائف ومذاهب إسلامية..

كثرت انتهاكات المؤسسة الدينية ضد الأفراد والطوائف والمذاهب، بل يمكن القول بأن غالبية سكّان هذا البلد جرى إما تبديعهم، أو تكفيرهم، أو التعريض بهم في الصحف والقنوات الفضائية والكتب والنشريات والندوات والمنتديات والمؤتمرات..وبعضها يجري بإشراف أقطاب النظام السعودي.

في هذا البلد لا يمكن تطبيق (من أمن العقوبة أساء الأدب)، فهؤلاء الذين بلغت بهم الوقاحة في اللسان والسلوك يرجون المكافأة والترقية لقاء سوء أدبهم، فقد تحوّلت قلة الأدب الى منافسة بين كل من أراد الشهرة، والجاه، والمال، والشرهات. ولذلك، لا تجد أحد يرعوي عن إطلاق أقذع الألفاظ وأقذرها ضد من يختلف معهم، لأن هناك من يغطي ويدفع لمثل هؤلاء الذين لا يرعون الحد الأدنى من الخلق الإنساني، فضلاً عن القيم الدينية التي تشجب بشدّة التطاول على الآخر، مهما بلغ الإختلاف معه، فكيف بمن هم داخل المجال الإسلامي..

قنوات فضائية بتمويل سعودي لا وظيفة لها سوى إثارة النعرات الطائفية وتعزيز الإنقسامات الاجتماعية والعقدية، وتعمل في الليل والنهار تحت غطاء وهمي زائف تطلق عليه عنوان (حوار هادىء)، وفي حقيقته يشتمل على كل ما لا يتخيله عقل بشر من ألفاظ قذرة، ونزوعات اقتلاعية، وكل ذلك يأتي في سياق تبليغ الرسالة، وبيان حقيقة التوحيد التي جهلها العباد!

قناة (أوطان) ليست سوى مفردة في مشروع إعلامي سعودي يضطلع بمهمة تبليغ الدعوة الوهابية بطريقة (إما أنا أو لا أحد)، ولذلك تتوطن الغرائزية وسط الدعاة في هذا المشروع، ولأنّهم على معرفة مسبقة بما ستؤول إليه أخطاؤهم وخطاياهم، على الأقل إزاء ما يمكن صدوره من الملك والأمراء، فإنهم يزاولون أدوارهم دونما مراعاة لقانون أو قيمة أخلاقية ودينية أو وضع إجتماعي..

نعم، لعبة توزيع الأدوار قد تكون خياراً مناسباً لكل الذين ينخرطون بجرأة سافرة في المشروع الإعلامي الطائفي، فإذا تولى أميراً دور المعاقب تولى آخر دور المثيب والواهب. يصدق ذلك في كل المجالات، ويصدق هنا على قناة (أوطان) التي أعلن الملك عبد الله عن وقف بثها مدة شهر! وبعد شهر تعود القناة دون رادع قانوني وأخلاقي واجتماعي، لأن قرار الملك ليس قانوناً بل هو ضمن صلاحيات الملك المطلقة التي تجعلها يحرّم ما كان حلالاً ويحلل ما كان حراماً، وقد يغلق اليوم مؤسسة ريثما تهدأ غضبة الضحايا، وتبرد النفوس المكلومة..

قناة (أوطان) من بين قنوات فضائية ومؤسسات إعلامية وثقافية وتعليمية رسمية مارست وتمارس الانتهاك لحرية الاعتقاد وحق السكّان في التعبير عن معتقداتها الدينية والدفاع عنها، ولذلك كان لابد من قانون يجرّم الانتهاك لحرية وحق المذاهب الأخرى، فضلاً عن التحريض على الكراهية الدينية..

ذاك هو ما طالبت الطائفة الإسماعيلية في نجران، لأن من غير المقبول الاكتفاء بمجرد وقف بث القناة لمدة شهر، ثم بعد انقضاء المدّة تعود القناة، ويعود غيرها الى نفس النهج التمزيقي الطائفي..

من المستهجن، أن وزير الثقافة والاعلام عبد العزيز خوجه، المعني بصورة مباشرة بالبت في قضايا وسائل الإعلام صحفاً كانت أم قنوات فضائية أم مجلات أو مواقع الكترونية مرخّصة، وجد نفسه عاجزاً عن حسم موضوع قناة (أوطان)، وقال بأن صلاحياته لا تتعدى وقف البرنامج وليس وقف بث القناة، فذلك (لا يتم إلا من أعلى سلطة في البلاد)، ما يعني أن القنوات الفضائية هي تبث وتموّل وتعمل بأوامر من الملك وكبار الأمراء مثل نايف وسلمان حصرياً، وبالتالي فهم المسؤولون عن كل ما يصدر عنها من مخالفات وانتهاكات ضد السكّان والمواطنين..

حاكم نجران، مشعل بن عبد الله، نجل الملك، وفي مسعى لتهدئة غضب الطائفة الإسماعيلية الكريمة في نجران، أقنع والده ـ الملك، باتخاذ قرار يفضي الى تهدئة أهالي نجران، إزاء ما صدر عن ضيفي القناة (أوطان) وهما الشيخ سعد السبر والشيخ محمد حجازي، إضافة الى مقدّم البرنامج صبري عسكر، مصري الجنسية.

نشير هنا الى أن ما يربو عن 5 آلاف شخص من أتباع المذهب الإسماعلية وقّعوا على عريضة تطالب أمير نجران بسرعة محاسبة المشائخ المسيئين لأتباع الطائفة الإسماعيلية ومعتقداتها وتجريمهم وتقديمهم للعدالة درءاً للفتنة الطائفية التي قد تتسبب في زعزعة الاستقرار وتهدد اللحمة الوطنية. وتحدّثت بعض التقارير الخبرية عن زيارة قام بها وفد يمثل الطائفة الاسماعيلية الى الرياض والتقى محمد بن سويلم رئيس شؤون المواطنين في الديوان الملكي السعودي لشرح موقفهم من هذه التجاوزات للملك. وتضاربت الانباء حول تنسيق موعد رسمي للوفد الذي يقوده نواب مشائخ شمل قبائل يام وهم: الشيخ سالم بن أحسن بن منيف، الشيخ جابر بن شرفي أبو ساق، الشيخ جابر بن عبود نصيب للالتقاء بالملك.

برنامج طائفي

يبدو أن قدر هذا البلد أن يكون مرتعاً خصباً لكل الخصومات الدينية والطائفية، فما إن تنتهي قصة صادمة للرأي العام المحلي أو العربي والإسلامي والدولي حتى تبدأ فصول قصة أخرى مماثلة وربما أشد وقعاً وتأثيراً، ولعل النظام السعودي يأنس بهذه المشاغلة المستمرة كيما تبتعد الأضواء عنه، بل ليس مستغرباً أن يطلب أقطاب النظام من بعض المشايخ تفجير مثل هذه القصص من أجل صرف الإنتباه عن جرائم النظام السعودي.

فتاوى مستغربة، وأخرى في غير وقتها، وثالثة بلا مناسبة، ورابعة لمجرد تحريك أوراق معينة، أو المشاغبة عل مشروع معين.. هي هكذا تسير المؤسسة الدينية الرسمية وفق آلية مبرمجة يريدها النظام أن تكون في خدمة أغراضه ومشاريعه..

لا يعقل أن يصدر موقف ورأي، وبصورة متكررة في بلد ليس فيه قوانين تكفل حرية التعبير ما لم يكن هذا الموقف والرأي صادرين عن إرادة رسمية أو في الحد الأدنى غضب نظر من الطبقة الحاكمة. فمهما كانت المبررات، لم يعد مقبولاً أن تتكرر الأخطاء، ويحمّل المسؤولية صاحب الخطأ وحده، وإعفاء الحكومة والعائلة المالكة من كل ذلك. نعم لو كنّا نتحدث عن دولة ديمقراطية، تنعم فيها الصحافة بالحرية، وتكفل القوانين حرية التعبير، فإننا حينئذ يمكن إيجاد مبرر ما هنا وهناك، رغم أن في أجواء الديمقراطية والحرية تقل الانتهاكات والتعدّيات لأن كل طرف يدرك بأن الجميع يمتلك ذات السلاح الذي يحارب به، وقد يرتدّ على الجميع. ولكن حين يصدر العدوان من جهة واحدة فقط، وهي المؤسسة الرسمية، فإن من تقع عليه المسؤولية الكاملة هو النظام المسؤول عن حماية ودعم المؤسسة الرسمية.

أوطان التي بدأت البث في شهر يوليو 2008 من الرياض، ويرأس إدارتها الشيخ عبد الرحمن عبد الله الطيّار، وضعت لنفسها أهدافاً عقدية، وفي أولها (تغيير المبادىء الخاطئة)، وتشمل تغيير الأفكار والهوية والقناعات والقيم..وحول انتماء القناة، ورد بأنها (قناة عامة تهتم بقضايا الأمة العربية الإسلامية و الوطنية وتعمل على دعم الانتماء الإسلامي و العربي لجميع الشعوب العربية). وحول القيم فهي بحسب ما ورد في صفحتها (قناة فضائية تعمل على تدعيم القيم الإسلامية والإنسانية وجمع الأسرة العربية..بأسلوب هادئ وطرح متزن لا يعمل على التحريض ويلتزم المبادئ المهنية في إطار عمل إعلامي مؤسسي متناغم متكامل).

بمجرد أن نقف على عنوان برنامج قناة (أوطان) الذي صدر منه وعنه النيل والتعريض، وهو (حوار هادىء مع المخالفين) فكلمة مخالفين لا تومىء إلى شيء محايد، فهو ينزع الى شحن اللاوعي لدى المشاهد بفكرة أن المخالف ليس سوى فرد لا يعتنق الدين الصحيح، وهو على ضلال وإن الحوار لا يهدف سوى الى كشف ضلاله ولكن بطريقة هادئة..إنه في حقيقة الأمر، ليس حواراً، فالحوار ينعقد بين طرفين مختلفين، ولكن البرنامج يستضيف شخصية أو أكثر من نفس المدرسة العقدية..أين الحوار في ذلك؟!

البرنامج المذكور إعتاد على توجيه سهامه ضد كل من يختلف مع المذهب الرسمي للدولة السعودية، وبطريقة لا أخلاقية، فلا يتورّع الضيف الوهابي عن الافتراء ضد (المخالفين)، والنيل منهم والكذب عليهم، لأن في عقيدته يباح الكذب على المخالف لأنه لا حرمة له ولا ذمّة.

(أوطان) التي تبث من الرياض، شارك في برنامجها الصاخب (حوار هادىء مع المخالفين) الشيخان محمد حجازي وسعد بن عبد الله بن عبد العزيز السبر، عبر حلقات عدّة حفلت جميعها بالإساءة بصور شتى للطائفة الإسماعيلية. ومن بين ما قاله السبر: ان (أتباع المذهب الإسماعيلي يعطون زوجاتهم وبناتهم للمكرمي ليتمتّع بهن ويتفل في وجوههم)، كلام في غاية الهبوط والدناءة والاسفاف، خصوصاً حين يقال لقبيلة عربية عريقة تضع القيم الاجتماعية في دائرة المقدّس وتربطه بشرف وكرامة القبيلة. ويواصل السبر مغالطاته وإسفافه بالقول بأن أهل نجران (جاهلون بالإسلام، وأنهم يتآمرون مع دولة أخرى ـ اليمن ـ وحركة مسلحة قريبة منهم ـ الحوثيون ـ لإسقاط الحكم السعودي).

هي تلك أوطان التي لم تنتهك القوانين التي وضعتها لنفسها فحسب، بل هي تمثّل نموذجاً فاضحاً لنهج التعامل مع الآخر.

نلفت هنا الى أن الموقع الرسمي لشبكة السبر نشر في 26 آذار (مارس) الماضي اعتذاراً رسمياً من الشيخ سعد السبر (لكل المكارمة والاسماعيلية ولأهل نجران ولكل قبائل نجران) جاء فيه: (أعتذر لكل شيوخ الإسماعيلية والمكارمة ولكل إسماعيلي ولكل يامي من خطأ غير مقصود أو فهم خاطئ فُسر به كلامي أو أي تعبير خرج بغير قصد وإرادة وفُهم منه الإساءة لأحد أو التفرقة أوالقذف).

وبصرف النظر عن قبول الاعتذار من عدمه، فإن كتاباً وعلماء ووجهاء في نجران وغيرها من المدن والمذاهب الاسلامية ترى بأن إيقاف القناة ليس بالحل الحاسم، بل الحل يكمن في سن قوانين تجرّم الطائفية. وقال د. محمد العسكر، وهو ناشط بارز في طائفة الشيعة الاسماعيلية، (هذا نتاج الفكر التكفيري الذي يمس الأعراض دون خجل وينال من الوحدة الوطنية ويسعى لتأزيم الأمور بين الدولة وشعبها). وأضاف العسكر في صفحته على فيسبوك (لقد تصرّف أهل نجران ومريدي المذهب الإسماعيلي بتعقّل، لكنهم أصروا على أن يجرّم الفاعل وتجاوزه وأن تردع القناة ومسؤوليها رسمياً، وأن يكون هناك مسار مكمل قضائي وقانوني وإعلامي، حتى لا يأتي متخرص أهوج آخر ويدّعي المعرفة وهو غارق في جهله).

الصفحة السابقة