الدولة الساقطة

في الفيزياء هناك قانون يسمى (free fall)، ويعني السقوط الحر، الناجم عن عوامل عديدة إذ تسقط الأشياء نتيجة فقدان القدرة على السيطرة، ويكون قانون الجاذبية وحده الفاعل في مثل هذه الحالة، بحيث لا يوجد ما يعطّل فعله وتأثيره فتصبح الأشياء الساقطة سقوطاً حراً عديمة الوزن..تماماً كما في حالة الذين يهبطون بالمظليّات، حيث يسقطون مدة ثمان ثوان على الأٌقل سقوطاً حراً قبل أن يطلقوا الحبل الذي بدوره يفتح المظّلية ويكبح السقوط، وتالياً ينظّم عملية التحليق في الهواء والنزول التدريجي.

ينطبق قانون السقوط الحر على مجالات عديدة بما في ذلك الاقتصاد، وتطبيقاته عديدة كما في الركود الاقتصادي، والأسواق المالية، وحركة الأسعار..فهي تخضع لقانون السقوط الحر، فتفقد العملة قيمتها، والأسواق وزنها، ولا يكون هناك ما يحول دون السقوط الحر..

ينطبق القانون نفسه على الدول، فتسقط بحكم قانون السقوط الحر وحده دون وجود قوة مضادة تحول دون ذلك، تماماً كما لو رميت حجراً من مرتفع نحو الأرض، فإن الحجر يسقط بسرعة عشر أمتار في 0.1 ثانية، فكل دولة تسعى لامتلاك عوامل مضادة للسقوط، وتتفاوت إرادة وقدرة كل دولة على توفير ما يمنع سقوطها الحر..

وفي الرؤية العامة، فإن كل الدول حين نشأت إنما سعت للبقاء وليس للسقوط، ولذلك وضعت إمكانيات ضخمة في سبيل تعطيل كل ما يهدد بقائها وتصدّعها. العوامل المضادة قد تكون مادية ومعنوية، فالوفرة المالية، وتوفير متطلبات معيشية محتشمة، وتحسين الخدمات العامة الصحية والتعليمية، وإشاعة الأمن بين الناس، ودرء الفساد والمفسدين، وتطبيق العدل وتحقيق المساواة بين المواطنين، وإشراك المواطنين في الشأن العام، وضمان الحريات الفردية، واحترام حقوق الإنسان تعدّ، هي وغيرها، من العوامل المضادة للسقوط..

الدولة المستبدّة التي تنظر الى السلطة بوصفها احتكاراً فئوياً أو إرثاً عائلياً، تلجأ غالباً الى مصادر أخرى تمنع السقوط مثل الأيديولوجية الدينية الشمولية التي تحاول من خلالها شرعنة احتكارها للسلطة، ومصادرة حق الناس في القرار، وانخراط الشعب في الشأن العام، كما تتوسّل بالقوة الأمنية الغاشمة وتضخيم دور المؤسسات الأمنية وكثافة حضورها في المجال العام، فيتحول الجهازان الديني والأمني الى قوتي حماية لاستبداد أهل السلطة، وفسادها بكل أشكاله، وقمع الشعب، ومصادرة حرياته وحقوقه..بمعنى آخر، أن الدولة اختارت القوى المضادة لسقوطها ولكن ليس عبر السبل الطبيعية والراسخة.

وهنا لابد من التفريق بين نوعين من القوى المضادة: قوى مستهلكة، وقوى ثابتة. فقد تبني الدولة قوى مضادة لسقوطها، ولكن هذه القوى كالمصادر الطبيعية غير المتجدّدة، قد تحقق أغراض السلطة لفترة من الزمن، ولكن لن تضمنه على المدى البعيد، خصوصاً إذا ما واصلت الطبقة الحاكمة استبدادها، وقمعها، وفسادها، بحيث يصل الشعب الى نقطة لا يعود يشعر بهيبة الدولة ولا قواها المضادة للسقوط، فلا عالم الدين تصبح له كلمة مسموعة، ولا جهاز الأمن يكون له تلك القدرة التخويفية، ولسان حال الناس (ليس هناك ما نخسره).

آل سعود أسّسوا دولة قائمة على دعوى الحق التاريخي للعائلة المالكة والإيديولوجية الدينية الوهابية، وأيقنوا طيلة عقود بأن هذين الأساسين ـ القوتين يمكن الركون إليهما في منع خطر السقوط، وعزّزوا ذلك من خلال بناء جهاز أمني ضخم يتولى ترسيخ هذين القوتين إلى جانب استعمال بعض المال لشراء الولاءات وصمت القوى الفاعلة في المجتمع..

وإذا كانت هذه التركيبة أو الخطة صالحة في مرحلة ما كان فيها أهل الحكم يملكون كل شيء في مقابل شعب ليس بيده أدنى مصادر القوة، فإن الحال تبدّل تدريجاً، وإن مجرد قراءة إجمالية لما جرى منذ العام 1932، أي منذ إعلان الدولة السعودية، وحتى اليوم فإن سير الأمور تكشف بما لا يدع مجالاً للشكل أن الطبقة الحاكمة كانت تفقد بمرور الوقت سيطرتها على الأمور، وإن ما كان عامل قوة للسلطة ومانعاً دون سقوطها لم يعد كذلك اليوم، فالأجيال المتعاقبة لا تحمل سمات متشابهة في النظرة الى آل سعود، ولا الى جهازيهم الديني والأمني، فكل جيل يعقب آخر يتحرر من تخويف السلطة، حتى بات هناك اليوم من هم على استعداد لدخول مواجهة بالصدور العارية مع الرصاص الحي دون خوف..

لا الخطاب الديني الرسمي بمضمونه التفزيعي يمنع غالبية الشعب، وهم الشباب، من نقد العلماء والأمراء والتعبير عن مواقفهم الصريحة من الأوضاع السياسية والاقتصادية والاجتماعية، ولا التهويل الأمني عبر بيانات الداخلية منعت الإصلاحيين من كل القوى السياسية والاجتماعية والفئات العمرية من الرد عليها حين تتجاوز حدود اللياقة واحترام الرأي الآخر..

حقيقة الأمر، أن المصادر المضادة للسقوط لم تعد بالقوة التي كانت عليها في المرحلة السابقة، كما أن النظام السعودي لم يعد يتمتع بالهيبة كما في السابق، وإن الزخم الدعائي الذي أسبغ على الملك عبد الله، لم يدم طويلاً، خصوصاً بعد أن تبيّن أن اعتناقه للنهج الإصلاحي كان مؤقتّاً ولأغراض شبه شخصية، وفور وصوله الى العرش عاد الى استبداده القديم..

ومهما يكن، فإن الدولة اليوم لا تملك من القوى المضادة للسقوط سوى ما تبقى من قدرتها على توفير (المال)، ودفعه في هيئة (تقديمات إجتماعية) و(شرهات)، و(مكرمات)، وحين تفقد هذه القدرة فإن لحظة سقوطها الحر تصبح واقعة ومدوّية.

الصفحة السابقة