خلاف الـ CIA والخارجية حول (المقاتلين السعوديين)

سعدالدين منصوري

في تطوّر لافت برز في 7 آب (أغسطس)، أطلقت وزيرة الخارجية الأميركية هيلاري كلينتون تصريحاً شديد اللهجة من جنوب أفريقيا إزاء ما وصفته بانتقال الارهابيين الى سورية للقتال بالوكالة وأن بلادها لن تتسامح في ذلك. وقالت كلينتون بأنها سوف تناقش هذا الأمر خلال زيارتها الى تركيا..هذا التصريح يأتي بعد تقارير معلنة عن قيام وكالة الاستخبارات المركزية الأميركية CIA بتدريب وتهريب مقاتلين عرب وأجانب الى داخل سورية عن طريق الأراضي التركية، بالتعاون مع كل من السعودية وقطر وتركيا والأردن.

على غرار الخلاف التقليدي الذي ينشب عادة بين ثلاث قوى فاعلة في صنع القرار الأميركي: البنتاغون والخارجية والـ CIA في قضايا ذات صلة بالاستراتيجيات والسياسة الخارجية، فإن تصريح الوزيرة كلينتون يكشف عن خلاف عميق حيال الترتيبات الجديدة التي جرت بين وكالة الاستخبارات المركزية الأميركية والقيادة السعودية والتي أفضت الى تعيين بندر بن سلطان، رئيساً جديداً للاستخبارات العامة بدلاً من عمه الأمير مقرن بن عبد العزيز.

بندر وديك تشيني: تمويل المقاتلين لخدمة الأغراض المشتركة!

الترتيبات بين مدير وكالة الاستخبارات المركزية الأميركية ديفيد بتريوس ونظيره السعودي بندر بن سلطان تقوم على تشجيع مقاتلي الجماعات الجهادية على الانتقال الى سورية والانخراط في مشروع إسقاط نظام بشار الأسد. وقد فرضت الترتيبات تزويد هؤلاء المقاتلين بمعدّات لوجستية وعسكرية وأجهزة اتصالات متطوّرة الأمر الذي يثير مخاوف من الارتدادات اللاحقة لمثل هذه الترتيبات على أوضاع المنطقة عموماً.

في محاولة لتطويق آثار صعود الاسلاميين في بلدان الثورات العربية وخصوصاً في شمال أفريقيا، وخشيته من بروز ظاهرة ثورية في المملكة والخليج بصورة عامة وسط التيارات الاسلامية والذي قد يؤول الى سقوط هذه الانظمة وقيام أخرى على غرار ما هو موجود في تونس ومصر، يجد النظام السعودي نفسه مدفوعاً لخلق جبهة بديلة يمكن من خلالها صرف اهتمام الاسلاميين وإبعاد خطرهم على النظام من خلال تكثيف التعبئة المتواصلة ضد النظام السوري وإبعاد الأنظار عن الأوضاع المحلية..

منذ اعلان وزير الخارجية سعود الفيصل في مؤتمر (أصدقاء سوريا) الذي انعقد في تونس قبل نصف عام بأن تسليح المعارضة فكرة ممتازة، إنطلقت حملات التبرّع والتعبئة وانتقال مقاتلين سلفيين الى سورية عبر الأراضي التركية والأردنية، وقد انكشفت هويات بعض هؤلاء المقاتلين الذي قام بعضهم بالحديث بصورة علنية وساذجة أحياناً عن أحوالهم الأمنية والعسكرية والأيديولوجية أيضاً، فيما قام بعضهم بتخصيص صفحات على مواقع التواصل الإجتماعي، للتواصل مع الجمهور وتجنيد المزيد من المقاتلين..

في سياق متصّل كشفت مصادر صحفية في 7 أغسطس الجاري عن أعداد المعتقلين السعوديين في سورية، والذي يعود تاريخ اعتقال بعضهم الى ما قبل الأزمة الراهنة، ولهم علاقة بتنظيمات مسلّحة مثل (فتح الإسلام) و(جند الشام) و(كتائب عبد الله عزام). بحسب تقدير بعض المصادر أن عدد المعتقلين السعوديين في السجون السورية يصل الى 300 معتقل. وتكشف طبيعة استفسارات ذويهم من الجمعيات والهيئات الحقوقية بأن هؤلاء عناصر في جماعات مسلّحة ولذلك لا يعرفون إن كانوا لا يزالون في المعتقلات السورية أو غادروها الى جهة أخرى أو لقوا حتفهم.

المصادر تذكر بأن التنسيق يجري حالياً مع الجيش السوري الحر لتأمين سلامة وعودة المعتقلين السعوديين فور سقوط نظام بشار الأسد..اللجنة الدولية التابعة للصليب الأحمر بعد زيارتها لعدد من السجون السعودية في العاصمة دمشق ومدينة حلب لم تدل بأية معلومات حول عدد المعتقلين السعوديين.

حقيقة الأمر، أن أعداد المقاتلين السعوديين قد تضاعفت منذ بداية الأزمة السورية حيث بدا واضحاً عمليات التجنيد والتعبئة على نطاق واسع ظهر في سقوط قتلى في صفوفهم عرف منهم قياديون ورجال دين.

فقد أعلن عن مقتل إمام وخطيب مسجد العباس في العاصمة الرياض.. في درعا، وكان قد دخل الى الأراضي السورية في مرحلة مبكرة من الأزمة السورية. وفي 26 تموز (يوليو) الماضي أعلنت قناة (الميادين) من بيروت عن مقتل القيادي في تنظيم القاعدة السعودي إبراهيم غازي الحامدي مع كامل أفراد مجموعته في اشتباك وقع مع قوات الجيش السوري بديرالزور. وما لبث بعد ذلك أن أعلن عن مقتل زعيم تنظيم القاعدة في سوريا السعودي محمد سالم الحربي..وآخرهم موسى العتيبي الذي لقي مصرعه في معارك حلب في 8 آب (أغسطس) الجاري. وكشف وثائق قانونية عثر عليها الجيش السوري بعد دخوله حي صلاح الدين في حلب تعود الى مقاتلين سعوديين وجنسيات عربية وأجنبية أخرى.

تحدث مغرّدون كثر على موقع (تويتر) عن انتقال سعوديين الى الأراضي السورية عن طريق تركيا والاردن. وكنا قد نقلنا طرفاً من سيرة مقاتل سعودي يدعى عبد الرحمن القويعي الذي كشف عن توافد مقاتلين من كل مكان الى بلاد الشام، وذكر أسماء حركية لمقاتلين سعوديين من بينهم عسكر وأبو سعد (يدرس ويعلم القرآن للمجاهدين)، وأبو بكر..وقد كشف القويعي بوضوح عن دور تركيا والسعودية وقطر في تمويل وتسليح وتجهيز المقاتلين القاعديين بمعدّات اتصال متقدّمة..يتحدث القويعي عن وجود أعداد من السعوديين وفي واحدة من تغريداته يقول (أكثر السوريين عند معرفتهم بأننا سعوديون تخنقه العبرة ويردد رحم الله الخطاب وأسامه).

خاض فريق الخارجية الأميركية صراعاً مريراً مع فريق الـ CIA على خلفية توظيف مقاتلين قاعديين أو تحت الطلب (مرتزقة) بدعوى تحقيق تطلعات دينية في حروب الولايات المتحدة وحلفائها ضد الخصوم..كانت العراق أول تجربة خاض فيها الفريقان (الخارجية والاستخبارات) الى جانب بطبيعة الحال البنتاغون الذي كان معنياً بإدارة ملف العمليات العسكرية، خلافاً مفتوحاً أمام العراقيين الذين تنبّهوا الى وجود تباينات حادّة في مقاربات هؤلاء الأفرقاء لموضوعات رئيسية في السياسة الخارجية الأميركية..

كانت فكرة إنشاء الصحوات في العراق محاولة لاحتواء أخطار القاعدة، ولكن تلك التجربة لم تخل من نزاعات بين البنتاغون والاستخبارات، فقد تبيّن أن هامش الخطأ في تلك التجارب أكبر مما توقّعه مبتكر فكرة الصحوات، حين أراد تثمير غضب العشائر من جرائم عناصر القاعدة في تحويلهم الى مقاتلين بالنيابة.

كلينتون: خطر القاعدة؛ والفيصل: تسليحها في سوريا فكرة ممتازة!

في لبنان، عمل بندر بن سلطان في صيف 2007 مع فريق ديك تشيني، نائب الرئيس الأميركي السابق، لجهة تجنيد المقاتلين من تنظيمات قاعدية مثل (جند الشام) و(فتح الاسلام) حيث تقاطر مئات المقاتلين من العراق والسعودية وشمال أفريقيا الى الشمال اللبناني، استعداداً لخوض معركة ضد الجيش اللبناني تكون مقدمة لمواجهة شرسة مع حزب الله لتعميم فوضى عارمة في المنطقة تؤول الى نهاية المعسكر الممتد من طهران وصولاً الى لبنان وفلسطين ومروراً عبر العراق وسوريا.

لم يقدّر لتلك الخطة النجاح، هو ما أدى لاحقاً الى اختفاء بندر بن سلطان لمدة عامين في الفترة ما بين 2008 ـ 2010، قبل أن يعود مجدداً لمزاولة مهمة أخرى.

أميركياً، لم يكن لوزيرة الخارجية السابقة كونداليزا رايس موقف مباين كونها جزءً من فريق المحافظين الجدد، بالرغم من أن تداعيات فشل خطة تشيني ـ بندر في لبنان كانت خطيرة على فريق 14 آذار الحليف للرياض وواشنطن، حيث انتهت المحاولات الى إسقاط الحكومة بقيادة فؤاد السنيورة بعد إصدار قراري الشبكة اللاسلكية واندلاع أحداث 7 أيار (مايو) الشهيرة، والتي قادت الى (إتفاق الدوحة).

عودة بندر الى الظهور على خط الأزمة السورية يعني شيئاً واحداً: إعادة تفعيل خطة التخريب عبر توظيف مقاتلي القاعدة والجماعات الجهادية في مشروع إسقاط النظام السوري وفي الحرب على ايران وحزب الله وحركات المقاومة اللبنانية المستقلة..

تصريح كلينتون في لغته الجازمة ينطوي على إشارات واضحة بأن مقاربة الخارجية الأميركية تختلف تماماً عما يحاول مدراء الاستخبارات القيام به حالياً عبر تجنيد كل المقاتلين وتزويدهم بكل المعدات والتجهيزات الاتصالية والعسكرية في الحرب ضد نظام بشار الأسد. ترى الخارجية الأميركية في ذلك خطورة شديدة على الأوضاع المستقبلية، خصوصاً بعد زوال نظام بشار الأسد، وهو ما لفتت كلينتون الإنتباه إليه مراراً بأننا لابد من التفكير في مرحلة ما بعد بشار، ما يعني أن هناك مخاوف من آثار ما يجري القيام به حالياً من انتشار السلاح بين جماعات لا يمكن السيطرة عليها بل قد يؤدي انفلات الأوضاع الأمنية في سورية الى تهديد كل المناطق المجاورة والتي قد تمتد الى المناطق الحاضنة للمصالح الحيوية الأميريكية..

وبخلاف المرات السابقة، فإن الترتيبات التي تجري حالياً هي مع إدارة ديمقراطية لم تكن تاريخياً على وفاق تام مع النظام السعودي، وإن انجازات بندر بن سلطان تعود الى عهود جمهورية بدرجة أساسية. وخلال عهد الرئيس الحالي، باراك أوباما، لم يحدث أن لعب بندر دوراً مركزياً بل أطول فترات غيابه وقع في عهد أوباما..

على أية حال، فإن المصالح الاستراتيجية بين النظامين تفرض تجاوزاً لكل التباينات وتحقيق مستوى مقبول من التنسيق المشترك في قضايا جوهرية. لاشك أن بندر الأميل الى التعامل والتنسيق مع فرق الاستخبارات يواجه موقفاً صارماً من الخارجية الأميركية التي ترى في مقاربة الـ CIA كارثية لأنها كما يقول مقرّبون من الخارجية إعادة تكرار لنفس الأخطاء السابقة والوصول الى النتائج نفسها التي لن يكون هناك بدٌّ من تفادي الوقوع فيها مرة أخرى..

كلينتون التي بعثت من خلال تصريحاتها برسالة واضحة الى كل الأطراف الراعية للجماعات المسلّحة (السي آي أيه، المخابرات التركية والسعودية والقطرية..)، بأنها لن تصمت حيال وقوع أخطاء قاتلة من هذا القبيل لأن ذلك سوف يؤسس لمرحلة انفلات أمنية مفتوحة وغير قابلة للسيطرة. وعلى ما يبدو، فإن حضور ديفيد بتريوس الى المملكة برفقة بندر بن سلطان كانت لتعزيز مقاربة الاستخبارات في الأزمة السورية، فيما تراجع دور التنسيق بين واشنطن والرياض على مستوى وزراء الخارجية..

كرّرت كلينتون مراراً رفض خيار الحرب في سورية، وأضافت مجدداً بعداً آخر حين حذّرت من وقوع حرب طائفية. لقد توصّلت الخارجية الأميركية الى قناعة بأن السعودية تسعى الى تثمير الأزمة السورية الى أقصى ما يمكن أن يمنع من تفجّر أزمات داخلية على وقع الربيع العربي. ويدرك فريق الخارجية بأن السعودية التي رفضت منذ البداية تصوّر الخارجية الأميركية للأزمة السورية وألا خيار أمام السوريين والعالم سوى القبول بخطة مبعوث إلإمم المتحدة كوفي أنان، كانت تحاول إطالة أمد الأزمة السورية لأن أي نهاية إيجابية سوف يعيد إحياء فرص اندلاع احتجاجات داخلية واسعة النطاق في المملكة..يعي فريق الخارجية أيضاً أن جمود بعض الملفات الداخلية في المملكة هو نتيجة للتعبئة الكثيفة والمتواصلة إزاء الأزمة السورية، بما أدى الى تخفيض الاهتمام بالقضايا المحلية، وتأجيج الخطاب الطائفي الذي لعب دور المشاغلة نسبياً..

مهما يكن، فإن الخلاف الحاصل بين فريقي الاستخبارات والخارجية في واشنطن يعود أولاً الى الرغبة في عدم السماح لتكرار سيناريوهات سابقة أفغانية وعراقية ولبنانية دفعت واشنطن ثمنها غالياً من خلال تدريب وتمويل الجماعات المسلّحة لتقوم بالانتقام لاحقاً من أربابها. بالنسبة للنظام السعودي، فإنه يواجه مأزقاً تاريخياً خطيراً يهدد وجوده، الأمر الذي يدفعه الى استغلال الأزمة السورية الى أقصى حد، لأن ذلك يخلط الأوراق ويوجّه طاقات الاسلاميين المحليين نحو قضية خارجية بدلاً من التفكير في تكرار تجربة تونس ومصر، ولكن في نهاية المطاف سوف تضطر واشنطن الى تحمل تبعات فشل بندر ـ بتريوس.

الصفحة السابقة