العوامل المضادة للتغيير والثورة في السعودية

يحي مفتي

كان النظام السعودي على دراية تامة بأن الاحتجاجات الشعبية ستندلع في بعض مناطق المملكة، بل كانت التحضيرات الأمنية قبل اليوم المقرر للحراك الشعبي المعروف بإسم ثورة حنين في الحادي عشر من آذار (مارس) 2011 كشفت عن مستوى الهلع لدى النظام السعودي، حيث بدت شوارع المدن الكبرى وخصوصاً الرياض وجدة خالية في ما يشبه فرض حظر تجول منعاً لتجمهرات شعبية في الشوارع العامة.

لجأت العائلة المالكة الى تدابير مضادة لربيع ثوري محتمل في المملكة، وكان الغرض هو إجهاض الحراك الشعبي قبل أن ينتشر ويتمدد الى المناطق كافة ما يصعب ضبط السيطرة عليه إن لم يؤد في نهاية المطاف الى انهيار النظام. ونشير هنا الى أهم الإجراءات المضادة التي اعتمدتها العائلة المالكة للحيلولة دون وقوع انفجار ثوري واسع:

التقديمات الاجتماعية

بدا تقليداً دارجاً أن يتم اللجوء الى التقديمات الاجتماعية أو العطايا والهبات المالية لامتصاص الاحتقانات السياسية والشعبية، هذا حال كل الاحتجاجات الشعبية التي شهدتها البلاد طيلة تاريخها.

مع بدء ارهاصات حراك شعبي في المملكة، عاد الملك عبد الله من رحلة علاج ونقاهة وأمر في 24 فبراير2011 بسلسلة تقديمات إجتماعية تمثّلت في تثبيت علاوة غلاء معيشة بنسبة 15% ودعم رأس مال صندوق التنمية العقارية وميزانية الهيئة العامة للاسكان. وأمر برفع رأس مال البنك السعودي للتسليف والادخار وبرفع الحد الاعلى لعدد الافراد في الاسرة التي يشملها الضمان الاجتماعي من ثمانية افراد الى 15، وتقديم دعم مالي للاندية الادبية والرياضية، كما امر بالافراج المشروط عن سجناء الديون.

وقد بلغت حجم التقديمات الاجتماعية التي أعلن عنها الملك نحو 37 مليار دولار (110 مليار ريالاً).

وفي 17 مارس من العام 2011، أي بعد أقل من شهر على سلسلة التقديمات الإجتماعية السابقة، أذاع التلفزيون السعودي الرسمي كلمة الملك عبد الله الى المواطنين لم ترد فيها إشارة الى الاصلاح السياسي، بل اقتصرت على تقديمات اجتماعية فيما حذّر من (المساس بأمن الوطن واستقراره) وتوجّه الى القوات السعودية المسلّحة قائلاً: (انتم اليد الضاربة لكل من تسول له نفسه المساس بأمن الوطن واستقراره).

ونصّت الأوامر الجديدة على (صرف راتب شهرين لجميع موظفي الدولة من مدنيين وعسكريين) و(صرف مكافأة شهرين لجميع طلاب وطالبات التعليم الحكومي). كما نصّت على (اعتماد صرف مخصص مالي قدره الفا ريال شهرياً للباحثين عن العمل في القطاعين العام والخاص). وبالإضافة إلى ذلك أمر الملك عبد الله بتوفير 60 ألف فرصة عمل جديدة في مجال الأمن بوزارة الداخلية. وحذّر من التعرّض لرجال الدين. وجاء في القرارات الملكية أيضاً اعتماد بناء 500 الف وحدة سكنية لتوزيعها على المواطنين باعتماد 250 مليار ريال، ورفع قيمة حد القرض السكني من 300 ألف ريال إلى نصف مليون ريال. وشملت الأوامر بناء مشاريع صحية وتوسعة نطاق وظيفة هيئة كبار العلماء حيث طالب وسائل الاعلام كافة بالتوقف عن نقد أعضاءها والا حلّت العقوبة ضد من يتعرّض لأي منهم.

كان واضحاً أن التقديمات الاجتماعية بقيت، في جزء منها على الأقل، في إطار الوعود ولم تدخل حيز التنفيذ، وكانت أشبه بعلاجات مسكّنة ومؤقتة وموضعية، ولذلك فقدت التقديمات الاجتماعية مفعولها سريعاً، لأن ظواهر البطالة والفقر وأزمة السكن والفساد المالي والاداري وغيرها بقيت دون تغيير لافت، الأمر الذي جعل وتيرة الاحتجاجات الشعبية تتسارع وتنتقل الى مناطق كانت مصنّفة بأنها محصّنة إزاء الاحتجاج كونها المنطقة الأثيرة لدى السلطة.

على أية حال، منذ الاعلان عن التقديمات الاجتماعية في مارس 2011 توقف الحديث عن وجبات جديدة بل حدث عكس ذلك تماماً حيث تخلّت (حافز) عن دفع معونات شهرية لأكثر من 600 مواطن، بحجة أن المدة المقررة للدعم قد انتهت، فيما بقيت نسب البطالة والفقر وأزمات السكن والخدمات العامة على حالها، كما كشفت عن ذلك تصريحات وزير العمل وأعضاء مجلس الشورى المشار اليها أعلاه.

كان واضحاً أن المقاربة الريعية للحراك الشعبي بدت فاشلة..صحيح أن المقاربة مثّلت دائماً الحل الأمثل للدول الريعية، وفي السعودية حيث تمثل مداخيل النفط في كل مراحله وصوره خاماً وتصفية وصناعة المصدر الرئيسي لموازنة الدولة، حيث تحصل على ما يربو عن مليار دولار يومياً، وقد فّرت للنظام السعودية هامشاً واسعاً للمناورة في الداخل والخارج للهرب من استحقاقات التغيير والاصلاح. وكانت تستغل هذه الأموال لجهة دعم المؤسسات الأمنية والعسكرية والدينية المسؤولة عن ترسيخ أسس السلطة ومشروعيتها، كما وهبت العائلة المالكة قدرة مالية على شراء ولاء شيوخ العشائر والنخب الإقتصادية والاجتماعية والثقافية، الى جانب بطبيعة الحال التقديمات الاجتماعية التي كان الغرض منها تبريد مناطق التوتّر.

لا شك أن الإشادة المفرطة في حجم الميزانية لهذا العام والتي وصفت بأنها موازنة فلكية بلغت تقديراً 829 مليار ريال سعودي أي ما يربو عن 230 مليار دولار، بفائض يقدر بـ 9 مليارات، تجعل من النظام مرتاحاً في تخصيص مبالغ مالية للتخفيف من الاحتقانات الاجتماعية والسياسية، وخصوصاً في ملفات ساخنة مثل البطالة والفقر، مع تزايد نسبة العاطلين عن العمل..ولكن تلك الاشادة ما تلبت أن تنقلب الى كدر وغضب حين يضاء على ظاهرة انتشار الفساد المالي والإداري التي باتت متفشية في كل أجزاء الدولة ومؤسساتها الى حد أن رئيس هيئة مكافحة الفساد يرفع يديه مستسلماً بأنه لا يستطيع تتبع جذور الفساد ولا الوصول الى كل الأذرع الفاسدة المتنفّذة.

التعبئة الدينية

تستند العائلة المالكة في مواجهة كل أشكال الاحتجاج الشعبي على دور المؤسسة الدينية بكل أذرعها في احتواء الأخطار التي يتعرض لها النظام الحاكم. ولذلك أولى الأخير أهمية خاصة لبناء شبكة من الايقونات الدينية التي يمكن تثميرها في دعم النظام في حال تهديد النظام لمشروعيته ووجوده. وتمثل التعبئة الدينية قوة تحصينية فاعلة إزاء احتجاجات شعبية ومطالبات بتغيير جزء أو كل النظام السياسي. ولذلك، تلعب شبكة المساجد والجوامع المنتشرة في أرجاء المملكة دوراً مركزياً في دعم مشروعية وبقاء النظام السعودي، وتبرير سياساته العامة، ومقاومة كل الدعوات المطالبة بالاصلاح والتغيير. تشير إحصاءات وزارة الشؤون الإسلامية والأوقاف والدعوة والارشاد لعام 1428/1429هـ الى أن الاجمالي الكلي لعدد المساجد والجوامع في المملكة هو 55266 مسجداً، فيما ذكرت إحصاءات نشرتها صحيفة (الرياض) في 11 يونيو 2012 عن وزارة الشؤون الإسلامية تفيد بأن عدد المساجد والمصليات في المملكة تصل الى 61 ألفاً فيما ذكرت إحصائية أخرى لوزارة التخطيط تقول بأن عدد المساجد والمصليات بالمملكة 71 ألفاً.

مهما يكن الحال، فإن وجود هذا العدد الكبير من المساجد لا تقتصر مهمتها على مجرد إقامة الصلاة وممارسة طقوس عبادية وروحية محضة، بل تضطلع بمهمات أخرى تخدم السلطة بشكليها الديني والسياسي، وهي في نهاية المطاف مراكز تعبئة وضبط للأفراد. نشير هنا الى أن منابر الجوامع جرى توظيفها بكثافة في السنوات الأخيرة لدعم سياسات الحكومة ومعارضة دعوات الإصلاح والتغيير. وبالرغم من معارضة الأمراء انغماس المشايخ وأئمة المساجد في شؤون السياسة وضرورة إبعاد الدين عن السياسة للحيلولة دون نشوء حركة احتجاج سياسي على قاعدة دينية، إلا أن الاحتجاجات الشعبية التي شهدتها المملكة في السنتين الأخيرتين دفعت النظام السعودي الى إقحام أعضاء هيئة كبار العلماء وأئمة الجوامع في إتون المواجهة مع المحتّجين.

فبعد أيام من إجهاض الموعد المقرر لانطلاق ما عرف بـ (ثورة حنين) في الحادي عشر من آذار (مارس) 2011، أعلنت وكالة الأنباء السعودية في 29 مارس من العام نفسه (إن المملكة العربية السعودية تطبع 1.5 مليون نسخة من بيان أصدرته هيئة كبار العلماء يحرم التظاهر في المملكة). وكان أعضاء هيئة كبار العلماء أصدروا فتوى بحرمة التظاهر كما أصدرت وزارة الداخلية بياناً تحذّر من التظاهرات..وقد تم القاء هذا الفتاوى الى جانب خطب الجمعة حول حرمة التظاهرات والخروج على ولي الأمر، ووجوب طاعته.

لقد مثّل التحالف بين العائلة المالكة والمؤسسة الدينية الوهابية قوة مناهضة للتغيير والاصلاح، وقد أثبت هذا التحالف بأنه بقدر ما يحقق أغراض السلطة الدينية والسياسية فإنه في الوقت نفسه يفضي دائماً الى تقويض مسار الإصلاح وتعطيل حركة التحوّلات الاجتماعية الضرورية للإنتقال بالنظام السياسي وبالمؤسسات الاجتماعية. التحالف السياسي ـ الديني بين ال سعود والوهابية كان بمثابة العهدة المتوارثة بين الملوك والأمراء المتعاقبين على السلطة، كونه يؤمّن وصفة المشروعية المطلوبة لتبرير سياسات الدولة السعودية. وبالرغم من الاختلالات التي تعرّض لها التحالف في فترات محدّدة طيلة ما يربو عن قرنين منذ الاعلان عنه في العام 1744 بين الشيخ محمد بن عبد الوهاب والأمير محمد بن سعود، إلا أن الملوك والأمراء السعوديين تمسّكوا بالتحالف وتقديم كل ما من شأنه الإبقاء على دور فاعل للعلماء في أزمنة محنة الحكم. فقد زوّد التحالف بين آل سعود والوهابية نظام الحكم بجرعات دعم جوهرية في أوقات كانت الاحتجاجات الشعبية تواجه المشروعية الدينية للنظام، أو وحدة السلطة السعودية.

ربما كان إنشقاق حركة جهيمان العتيبي في مكة المكرمة العام 1979 إيذاناً ببدء تصدّعات خطيرة في بنية التحالف، على الأٌقل من جانب المؤسسة الدينية الوهابية. وكانت ظاهرة (مشايخ الصحوة) عقب الاحتلال العراقي للكويت العام 1990 وبروز مشايخ من الطبقة الثانية في التراتبية الدينية الوهابية يشكّكون في مشروعية النظام ويطالبون بإعادة أسلمة الدولة السعودية كما ظهر ذلك بوضوح في (مذكرة النصيحة) التي رفعها أكثر من مائة شخصية دينية وهابية في يوليو 1992 أي بعد إعلان الملك فهد عن الأنظمة الثلاثة (الأساسي والشورى والمناطق) في مارس 1992، والتي تضمّنت مطالعة تفصيلية لواقع وزارات الدولة من الناحية الشرعية/الدينية واختتمت بمطلب رئيسي يتمثل في حركة تطهير واسعة النطاق لمؤسسات الدولة وصولاً الى إعادة تأسيسها على أرضية دينية وهابية.

في المقابل، دفعت العائلة المالكة حينذاك بكبار العلماء المقرّبين منها لمواجهة ظاهرة مشايخ الصحوة. فقد انبرى المفتي السابق الشيخ عبد العزيز بن باز لإصدار فتوى تجيز استقدام القوات الأجنبية (الكافرة) الى الجزيرة العربية للدفاع عن النظام السعودي في مقابل التهديدات التي فرضها نظام صدام حسين، وهي فتوى تتناقض مع أخرى سابقة له حرّم فيها الاستعانة بالقوات الاجنبية بحسب ما جاء في كتابه (نقد القومية العربية).

وجرى توظيف المفتي وهيئة كبار العلماء في مواجهة المشايخ المطالبين بإصلاحات وزارات الدولة خصوصاً الاعلام والأجهزة الدينية والقضائية. وقد عارض أعضاء في هيئة كبار العلماء أسلوب التعامل مع المشايخ ورفضوا التوقيع على بيان يندد بمطالبة الأخيرين بالإصلاح الديني، فقام الملك فهد بعزل كامل أعضاء الهيئة وتعيين غيرهم.

ويجري استغلال المفتي وأعضاء هيئة كبار العلماء بطريقة مبتذلة وابتزازية منذ بدء ثورات الربيع العربي في مواجهة الاحتجاجات، وصار المفتي الشيخ عبد العزيز آل الشيخ يخصص خطبة الجمعة من كل اسبوع لمعارضة الانتقادات التي يوجهها ناشطون للنظام السياسي السعودي ويطالبون بالتغيير والاصلاح، الى درجة أنه انتقد بعنف استخدام المشايخ لمواقع التواصل الاجتماعي، مثل (تويتر). وقد وصف المفتي في خطبة الجمعة في 22 مارس الماضي موقع (تويتر) بأنه (مجلس للمهرجين والتغريدات الكاذبة).

يسقط يسقط ابن نايف: شعبنا كله ما عاد خايف!

وتزامن ذلك مع اعلان هيئة الاتصالات وتقنية المعلومات في 25 آذار (مارس) 2013 بأنها طلبت من الشركات المشغلة لبرامج اتصال مرئية مثل سكايب وتطبيقات للتحادث كالواتساب وفايبر مراقبتها أمنيا تحت طائلة حظرها إذا لم تتمكن من ذلك، كما نقلت وكالة الأنباء الفرنسية. لم يكن الهجوم الأول للمفتي على مواقع التواصل الاجتماعي فقد وصف في مطلع شهر مارس الماضي استخدام شبكات التواصل الاجتماعي (تويتر وفيسبوك) لمناصحة ولي الأمر بأنه (فضيحة وليس دعوة).

يشارك آل الشيخ عدد آخر من أعضاء هيئة كبار العلماء والمشايخ من الصفوف الدنيا، خصوصاً الخطباء الشعبيين، ويعتبر عضو هيئة كبار العلماء الشيخ صالح الفوزان من أبرز العلماء المتصدّرين للدفاع عن حكم آل سعود والمعارضين لأسلوب التظاهر السلمي. نشير هنا الى أن وزير الداخلية محمد بن نايف يحتفظ بعلاقة وثيقة مع الشيخ الفوزان، التي تأتي استكمالاً لعلاقة سابقة تربط الأخير بوالد الوزير الحالي، وقد قام الأخير بزيارات متكررة لمنزل الشيخ الفوزان لتعزيز العلاقة معه. وكان الفوزان قد أصدر تصريحات في الآونة الأخيرة تشدّد على طاعة ولي الأمر وحرمة الخروج عليه، وتندد بأسلوب التظاهر في التعبير عن الآراء والمطالب.

الرهان الأمني

لم يكف آل سعود في أي وقت عن استخدام القوة المجرّدة أو التلويح بها حين لا يكون لرهانات الإيمان والتقديمات الإجتماعية مفعول مباشر ومؤثر. لم تتردد قوات الأمن السعودية في إطلاق الرصاص الحي على المتظاهرين السلميين في محافظة القطيف بالمنطقة الشرقية، فقد خلت تجهيزات هذه القوات من خراطيم المياه، أو الغازات المسيلة للدموع، أو أدوات مكافحة الشغب المعمول بها في كل أنحاء العالم، وبقي الرصاص الحي وحده الحاضر للتعامل مع التظاهرات الشعبية. وكانت الحجّة المألوفة التي تعتنقها وزارة الداخلية في مثل هذه الاحتجاجات أن (المتظاهرين قاموا باستعمال العنف ضد رجال الأمن)، فيما لم يثبت سقوط أي من رجال الأمن قتيلاً، فيما بلغ عدد القتلى من المتظاهرين 16 قتيلاً وعشرات الجرحى..

بدت وزارة الداخلية منذ بداية العام 2013 وبفعل توقّعات باحثين أوربيين وأميركيين بأن هذا العام سوف يكون ربيع الثورة في السعودية وكأنها في حالة هلع إزاء القادم المجهول، الأمر الذي دفعها لوضع خطة أمنية تقوم على اصطياد الرموز الفاعلة في الاحتجاجات الشعبية والنشاط الحقوقي والسياسي المدني. وكان واضحاً أن النظام السعودي لم يعد يملك رهانات عديدة بل هو الرهان الأمني الذي تعوّل عليه أخيراً عبر اعتقال الرموز والناشطين منذ بدء الاحتجاجات الشعبية في مارس 2011 وحتى اليوم حيث زجّ بالمئات من الفاعلين السياسيين، ويتم استغلال القضاء والمحاكمات الصورية لتبرير اعتقال الناشطين، أمثال الدكتور عبد الله الحامد والدكتور محمد القحطاني وقبلهم محمد البجادي والشيخ توفيق العامر وخالد الجهني والشيخ نمر النمر وفاضل المناصف، فيما تحضّر الداخلية لاعتقال رموز أخرى سياسية ودينية فاعلة..

ولكن ما يظهر بوضوح حالياً، أن التدابير الامنية القمعية التي تقوم بها وزارة الداخلية لم تحقق أغراضها، فالاحتجاجات الشعبية في العالمين الافتراضي والواقعي مازالت متواصلة وبنفس الوتيرة، وأن الإصرار على التغيير والاصلاح الشامل يزداد رسوخاً واتساعاً ما يثبت أن الزمن قد تجاوز الرهانات الأمنية المجرّدة.

المستقبل

من الناحية المبدئية لا بد من إقرار حقيقة أن الحراك الشعبي في المملكة لم يعد حدثاً عابراً، ولا ظاهرة معزولة، بل هي يكاد يغمر المشهد الشعبي بكامله، وإن تصاعد حملات القمع والاعتقالات لم تؤد الى إخماده، وإن من يرقب أشكال الاحتجاج السائدة يدرك تماماً بأن الحراك الشعبي في تزايد. صحيح أنها لم تصل حتى الآن الى مرحلة التحدي الوجودي للنظام السعودي، ولكنها بالتأكيد تؤسس لمسار قد يفضي الى هذه المرحلة في أي وقت قادم، لأن هذا المسار لم يعد بالإمكان تغييره أو حرفه، فهو مسار لا يمكن تجاوزه مهما فعل النظام، وأن كل مصادر قوة النظام من تقديمات إجتماعية الى فتاوى دينية الى تدابير أمنية قمعية لم تؤل الى اضمحلال الحراك الشعبي.

بل حتى الرهان على محاصرة هذا الحراك وإسباغ صفة مذهبية/ شيعية عليه باعتبار أن المظاهرات الشعبية كانت تنطلق في محافظة القطيف دون سواها من المحافظات سقط بعد خروج مظاهرات واعتصامات في قلب القصيم ومناطق أخرى في مكة وجدة وعرعر وغيرها، بل إن خروج النساء والأطفال في المناطق الأخرى كسر (تابوات) سياسية واجتماعية كانت تحول دون انخراط المرأة في الشأن العام. لقد تجاوز الناس مفاهيم تهويلية مثل (الفئة الضالة)، و(الخروج على ولي الأمر)، و(العمالة للخارج)، وغيرها مما كان يبرر إنزال أقصى العقوبات ضد الناشطين. لم يعد هناك إمكانية اليوم لأن تغلق العائلة المالكة الأجواء على الرموز الفاعلة في الساحة وعزلهم ومعاقبتهم. بعد أيام من تنفيذ عقوبة السجن ضد الرمزين الحقوقيين الدكتور عبد الله الحامد والدكتور محمد القحطاني، أعلنت مجموعة من الناشاطين عن تأسيس جمعية حقوقية أهلية تستمد موادها وأفكارها من أدبيات جمعية الحقوقية السياسية والمدنية (حسم) التي كان يديرها الحامد والقحطاني، الأمر الذي يعني أن ثمة تواصلاً بين الناشطين، فما إن يغيب ناشط أو مجموعة ناشطين حتى يخلفهم آخرون وربما بعزيمة أكبر وإصرار أشدّ.

إن أهم ما تكشف عنه هذه التحوّلات أن الإعتقال أو حتى القتل لا يعني نهاية الحركة المطلبية والنشاط الاحتجاجي، بل ثمة فضاء رحب أمام الناشطين للعمل والتواصل والابداع، وهو ما يجعل إمكانية وقوع ربيع عربي بخصائص مختلفة وربما بخصوصية فريدة أمراً وارداً..

المفتي والفوزان: فتاوى غير قادرة على ضبط الشارع!

وفي ظل غياب أي مبادرة من قبل النظام لحل شامل لأزمة الدولة، فإن كل الاحتمالات واردة على حركة احتجاجات مفتوحة، لن يكون فيها للرهان الأمني قدرة الحسم كما كان في السابق حين كان النظام يرخي الحبل لجهة رصد الناشطين والرموز لتمهيد الانقضاض عليهم في مرحلة لاحقة، لأن رقعة المطالب لم تعد مقتصرة على فئة أو منطقة أو تيار سياسي بل هي مطالب شعبية عامة مورد إجماع وطني، وباتت واضحة ومحددة.

يرجع ناشطون ومراقبون غياب المبادرة المنتظرة الى شيخوخة النظام وعجزه عن الاضطلاع بأدوار خلاّقة، فهو يدافع عن وجوده الآن، وليس تجديد هياكله المتآكلة. الكلام عن نقل السلطة الى الجيل الثالث لم يكن سوى عملية تقاسم للسلطة بين المتنافسين الكبار عليها، ولذلك لم يختلف أداء محمد بن نايف عن أبيه في وزارة الداخلية، في التعامل مع المطالب الشعبية السلمية، بل في عهده أدخل الناشطون الحقوقيون الحامد والقحطاني السجن، كما جرى تخريب علاقة التقارب التي عقدت بين رموز شيعة مثل الشيخ حسن الصفار وتوفيق السيف وجعفر الشايب وغيرهم مع السلطة من خلال الاستدعاءات المهينة التي قام بها جهاز المباحث التابع للداخلية وما أعقب ذلك من قرارات بمنع السفر والاعتقال للمطالبين بالإصلاح والإفراج عن المعتقلين السياسيين.

يضاف الى ذلك الصراع المحتدم في الخفاء بين الأجنحة الرئيسية والمهمّشة في العائلة المالكة، ما يحول دون حدوث تغييرات حقيقية في بنية السلطة بما يسمح بالشراكة الشعبية، فالصراع على السلطة بين أمراء آل سعود يلمح الى عدم تماسك السلطة، وهو ما يبرر تعزيز الاجراءات الأمنية والقمعية ضد الاحتجاجات لإخفاء ضعف النظام.

ومع تواري الملك عبد الله عن الأنظار تدريجاً، فإن غياب كاريزما قيادية قادرة على ضبط الصراع داخل العائلة المالكة سوف يؤول الى انقسامات كبيرة، ما يجعل بروز أكثر من رأس في العائلة المالكة مؤشراً على انفلاش السلطة، وبدوره سوف يؤدي ذلك انقسامات شعبية عميقة.

تبقى هناك مسائل شائكة في الحراك يمكن رصدها على وجه السرعة منها ضعف العمل الحزبي وغياب تنظيمات سياسية فاعلة ومؤثرة في الشارع، وكذلك تنظيمات مدنية/ أهلية وازنة، ويبقى أمام الناشطين في المناطق الساخنة تحدي نزع الصفة المذهبية للحراك الشعبي وتجسير الفجوة، وتأهيل العمل الاحتجاجي كيما يدخل في طور التنظيمات الشعبية التي تقود الحراك نحو أهداف محددة وواضحة.

وأخيراً، فإن ثمة دوراً منتظراً يمكن أن تلعبه البيئة الحاضنة للسلطة في الدفع بالحراك الشعبي الى مرحلة تقرير مسار ومصير السلطة، وإن كان ذلك يتوقف أيضاً على دور المدن الرئيسة التي يعوّل على انخراطها في الحراك الشعبي كيما يبدأ ربيع عربي بمواصفات مثالية.

الصفحة السابقة