هستيريا بعد معركة القصير

آل سعود الى باريس لتعطيل جنيف 2

خالد شبكشي

للمرة الأولى يبدو النظام السعودي شديد القلق بعد معركة القصير، وحين يجتمع وزير الخارجية سعود الفيصل ورئيس الاستخبارات بندر بن سلطان في مهمة واحدة وعاجلة وبهذا الوضوح فإن الأمر يدعو للتأمل طويلاً..والأسئلة تتدفق سراعاً: لماذا سعود وبندر، ولماذا باريس، ولماذا التصويب على جنيف 2؟

من الواضح أن القضية أكثر من خطيرة بالنسبة للنظام السعودي، وهو ما يستدعي حضور صقري السياسة الخارجية سعود وبندر، وهما الخصمان اللدودان على المستوى الشخصي، بسبب تجاوز بندر لحدوده وخلافاته العائلية مع أبناء عمّه، وفي الوقت نفسه إخوة زوجته..

أما لماذا باريس، فهي كما في التجربة الليبية أكثر عواصم الاتحاد الأوروبي مغامرة في هذا النوع من الرهانات، وقد عاب عليها حلفاؤها الأوروبيون استعجالها المواقف، فيما يفضّل البريطانيون، على سبيل المثال، التريّث في التعاطي مع قضايا لا تبدو محسومة..وقد لحظنا كيف تراجع البريطانيون في موضوع تسليح المعارضة السورية، بل إن وزير الخارجية ويليام هيج أجّل موضوع البت في تسليح المعارضة الى ما سوف يسفر عن مؤتمر جنيف 2.

يضاف الى ذلك عامل العلاقة التاريخية بين فرنسا ولبنان، وأن موضوع التدخل في سوريا من قبل حزب الله يمس بمصالح فرنسا في لبنان وبلاد الشام، فإن ذلك يشجّع الفرنسيين على الدخول العاجل على خط الأزمة السورية..

ولكن ما يجدر إلفات الانتباه إليه أن باريس بوصفه طرفاً لم يلتزم بأي تعهد شفهي أو علني حيال مؤتمر جنيف 2 بعكس بريطانيا والولايات المتحدة فإنها تجد نفسها في حل من أي التزام أدبي أو سياسي..على أية حال، فإن واشنطن يبدو أنها تقاسمت أدوار مع باريس حيث أعلنت عن تبدّل مفاجىء في مواقفها واعلن البيت الأبيض في 14 يونيو عن تسليح المعارضة السورية، وأيضاً الاعلان عن استخدام النظام السوري للسلاح الكيماوي، وهو الذريعة للتدخل العسكري.

ما يلفت في كلام الناطق باسم الخارجية الفرنسية في 12 حزيران (يونيو) الجاري أنه أعلن عن رفض مؤتمر جنيف 2، وقال بأن (لا يجب عقد مؤتمر يشعر أحد طرفي النزاع فيه بالضعف والآخر بالقوة). وهذا تصريح مستهجن لأن كل مؤتمرات الحروب والنزاعات كانت دائماً تدور حول معادلة القوة والضعف.

الهدف من الزيارة كما هو واضح ومعلن: عدم السماح بسقوط حلب، وأن الجانبين السعودي والفرنسي متفقان (على ضرورة اتخاذ خطوات دولية عاجلة كي لا يتكرر في حلب ما حصل في القصير)، وهذه العبارة كفيلة بتلخيص الأزمة السورية، فالتهمة الموجّهة لحزب الله في معارك سوريا، نجدها واضحة بل فاضحة في هذه العبارة، إذ كيف يمكن لطرفين خارجيين يقرران عدم سقوط هذه المدينة أو تلك في دولة أخرى، في إشارة واضحة على التدخل في المعارك، دع عنك في شؤون دولة أخرى يفترض أنها لا تزال ذات سيادة بحسب القانون الدولي، لأن الجامعة العربية ليست الجهة المخوّلة بالاعتراف بالدول، حتى وإن كانت عربية. ثم ما هي الخطوات العاجلة المطلوب اتخاذها، إن كان التسليح فهذا اعتراف بالتدخل، وإن كان بدعم المسلّحين فهو تدخّل، وإن كان بعمل عسكري مباشر، فهو عين التدخل..وهل التدخّل له معان أخرى غير الذي يعرفه العالم، إلا إذا كان التدخل في سوريا من قبل ايران وروسيا وحزب الله يصبح محرّماً بينما يصبح حلالاً إذا كان المتدخّلون ممن رضي آل سعود عنهم..

في تقاسم أدوار بين معسكر الولايات المتحدة، أوكلت مهمة تخريب مؤتمر جنيف 2 الى الثنائي الفرنسي السعودي، الذين اتفقا بحسب فحوى اللقاء الذي جمع وزير الخارجية الفرنسي لوان فابيوس مع بندر بن سلطان وسعود الفيصل على ألا ينعقد مؤتمر جنيف لأن في ذلك تكريساً لخسارة المعارضة السورية.

بندر وفابيوس: لا تكرار لتجربة القصير

من الواضح أن الجانب السعودي يشعر بأن الذهاب الى جنيف 2 سوف يرسم معالم جديدة تشتمل على التزامات متبادلة وسوف تفرض على الجانب السعودي خيارات ضيقة للغاية، وهذا ما يرفضه النظام السعودي..وهذا يفسر الى حد كبير الحرب الاعلامية المفتوحة التي انطلقت بعد سقوط القصير في يد النظام السوري.

في واقع الأمر أن النظام السعودي عمل منذ العام الماضي، ومنذ بدأ الحديث عن خيار تسوية أميركية روسية في الموضوع السوري، على إفشال كل خيارات التسوية والتمسّك برهان إسقاط النظام مهما كلّف الأمر، وبالمناسبة هذا الرهان يمثّل بالنسبة للأمير بندر بن سلطان (حياة أو موت)، فهو من أقنع وكالة الاستخبارات المركزية سي آي أيه، برئاسة مديرها السابق ديفيد بترايوس بخيار تشجيع عناصر القاعدة على الانتقال الى سوريا لمحاربة النظام السوري..لم يكن بندر ولا بترايوس على قناعة بأن الجيش السوري الحر الذي ترعاه تركيا ولا جماعة الاخوان المسلمين المدعومة من قطر سوف تحققان الهدف، أي اسقاط النظام السوري، ولذلك كان الإصرار على توظيف مقاتلي القاعدة المتواجدين في عدد من البلدان العربية بالهجرة الى سوريا، وتحويلها الى أرض رباط..

آلاف المقاتلين في ليبيا وتونس والجزائر واليمن وصولاً الى الشيشان التحقوا حديثاً بتنظيم القاعدة، وأصبحوا جزءاً جوهرياً من (جبهة النصرة) القاعدية التي تسرّب الخلاف الى صفوفها في الآونة الأخيرة بعد خسارة منطقة القصير الاستراتيجية التي كانت تمثّل منفذاً حيوياً للسلاح والمقاتلين من كل أرجاء العالم، والتي أدت الى توقف هذا الشريان الحيوي وكذلك تبعثر الجماعات المسلّحة التي كانت ترابط في هذه المنطقة، والأمر الآخر هو الخلاف العميق بين تنظيمي (دولة العراق الاسلامية) و(جبهة النصرة في سوريا)، بعد الاعلان عن اندماجهما من قبل أبو بكر البغدادي، زعيم دولة العراق الاسلامية، في إبريل الماضي. وطالب زعيم القاعدة أيمن الظواهري من قيادتي التنظيمين (وقف الجدال) ما يشير الى خلافات حادة بينهما حالت دون تحقّق الاندماج، حيث أكّد الظواهري في 10 حزيران (يونيو) الجاري بأن زعيمي الجناحين (سيستمران في قيادة تنظيمهما لمدة عام لحين البت في الأمر من قبل القيادة العامة)، الأمر الذي يعني إلغاء فكرة الاندماج، على الأقل في الوقت الحاضر.

مهما يكن، فإن بندر بن سلطان الذي يتعامل مع عناصر القاعدة عن طريق قنوات محدّدة تصل اليها الأموال والأسلحة، تواجه صعوبة كبيرة بعد معارك قصير لأن المنافذ الأخرى باتت تحت رعاية إما تركيا أو الأردن، وكلاهما له شروطه الخاصة. فمن المعروف أن تركيا فرضت قيوداً صارمة على تحرّكات عناصر جبهة النصرة، وقد ألقت القبض على بعض أفرادها الذين كانت بحوزتهم غاز السارين المحظور دولياً وكان يراد استخدامه في الحرب في سوريا..

كان بندر بن سلطان يأمل في أن تصبح منطقة القصير، معبراً لمشروعه الاستراتيجي والسياسي، فمن جهة هي المنفذ للمال والسلاح لجبهة النصرّة بالتنسيق مع فريق تيار المستقبل، برئاسة سعد الحريري وعقاب صقر وآخرين، ومن جهة أخرى عوّل بندر كثيراً على أن يؤلّف تمّام سلام حكومة بمواصفات سعودية تكون مقدّمة لعودة آل سعود الى لبنان عبر انتخابات يكون وليد جنبلاط قد حسم فيها خياراته وحقق الاصطفاف السياسي المطلوب انتخابياً ومستقبلياً، ويكون ذلك تمهيداً لنفوذ سعودي واسع النطاق بعد السيطرة على سوريا..نعود هنا بالذاكرة القريبة الى التصريحات الودودة التي انطلقت فجأة من قبل السفير السعودي في لبنان علي عسيري والتي قدّم فيها دعوة مفتوحة لحزب الله لزيارة المملكة، وأن أبواب الأخيرة مفتوحة له متى شاء. تصريحات أخرى مماثلة صدرت عن سعد الحريري، رئيس تيار المستقبل، تعتبر حزب الله مكوّن رئيسي في لبنان وله مكانته..

الفيصل وبندر في باريس

كل تلك التصريحات تبدّلت فجأة بعد معارك قصير، حيث أصبحت شيطنة حزب الله هدفاً رئيساً، وبدا المشهد واضحاً أن النظام السعودي، وبندر بن سلطان على وجه الخصوص، فقد رهاناته جميعاً، فسقوط القصير أسقط معه مسعى تأليف الحكومة، وإجراء الانتخابات، ثم ما لبث أن صدرت تصريحات من فريق تيار المستقبل بأن من غير الممكن المشاركة في حكومة يكون حزب الله طرفاً فيها، فيما انطلقت حرب شاملة إعلامية وأمنية وسياسية واقتصادية ضد حزب الله في الخليج، وهناك من لاقى الحرب في عواصم عربية وأوروبية وأفريقية..

النظام السعودي، وبندر بن سلطن على وجه الخصوص، يشعر بأن ما جرى في القصير هزيمة لرهاناته وحده دون الأتراك والقطريين، فالأتراك سعوا الى إقناع الأوروبيين والأميركان بدعم الجيش السوري الحر كونه لا يتبنى فكر القاعدة، ويؤمن بالديمقراطية خياراً ونهجاً وليس الإمارة والخلافة..

ما يقوم به بندر بن سلطان من تحرّكات دبلوماسية وتحريضية وعاجلة ناجم عن معطيات جديدة أهمها:

• الاحتجاجات المباغتة والمتصاعدة في تركيا والتي تركت تأثيراتها المباشرة على الدور التركي في الملف السوري، في ظل إصرار رئيس الوزراء التركي رجب أردوغان على التعاطي الحاد مع التظاهرات ووصفهم بالغوغائيين ورفض حتى مجرد الاصغاء الى نصيحة حلفائه الأميركيين الذين نصحوا القادة الاتراك في الحكومة الحالية بتخفيف اللهجة كونها المسؤولة عن تصاعد التوتر في المدن التركية..

بدا واضحاً أن ثمة ربيعاً تركياً يمكن أن يغيّر المشهد كلياً خصوصاً مع إصرار المتظاهرين على مطلب استقالة اردوغان وإجراء انتخابات مبكرة، فيما يبدو أن التدابير القمعية قد أخرجت الاحتجاجات من عنوانها الأولي المتعلّق بمجرد إقامة مشروع تجاري في حديقة في محيط ساحة تقسيم..وهذا ينذر بتحوّل كبير في تركيا، وسوف ينعكس حكماً على وضعها في المنطقة، مع عودة التيار العلماني التركي بوتيرة أشد، فيما ستصبح أحاديث التسوية في الملف السوري مقبولة في أجواء تركية مشحونة بكل أشكال التشاؤم مع استمرار التظاهرات في المدن..

• المعطى الآخر هو ما نشرته صحيفة (دايلي تيلغراف) البريطانية في 10 يونيو الجاري بأن قطر ستشهد قريباً عملية لانتقال السلطة من أمير البلاد حمد بن خليفة آل ثاني لنجيله تميم بن حمد البالغ من العمر 33 عاماً. وأن مسؤولين رفيعي المستوى في قطر قالوا لشركائهم بأن الوقت حان ليتولى ولي العهد السلطة في البلاد.

وأشارت الصحيفة الى أن الأمير الحالي يعاني من مشاكل صحية منذ فترة طويلة، وأنه مصاب بمرض السكري والذي أدى الى فشل كلوي. وقد انتشرت شائعات عن أن الشيخ حمد، أمير قطر الحالي، لن يترك وحده السلطة بل سوف يرافقه وزير الخارجية الشيخ حمد بن جاسم بن جبر آل ثاني، وهو على غير وفاق مع زوجة الأمير، موزة، ونجله تميم. وقد ترك هذا الأمر تأثيراً على أداء قطر في الآونة الأخيرة.

ـ التغييرات الميدانية في أكثر من منطقة داخل سوريا، حيث استعاد الجيش السوري زمام السيطرة في عدد من المحافظات وشكّلت استعادته لمنطقة القصير رافعة معنوية للقوات السورية النظامية التي بدت في حال أحسن مما سبق، الأمر الذي شجعها على مواصلة العمليات العسكرية في حلب وضواحي دمشق وحمص وإدلب ودرعا..

تحرّكات بندر بن سلطان الأخيرة مشفوعة بغطاء إعلامي كثيف تكشف عن هلع شديد. عارفون بأحوال بندر يقولون بأن الرجل يشعر بمرارة الخسارة ما دفع به للتحرر من بعض عقده، خصوصاً الخوف من تعرّضه للإغتيال والقتل من قبل جهة ما تتربّص به الدوائر. يحاول مسابقة الزمن حتى لا تخرج الأمور من تحت يده، ما يقرّب ويعزّز فرص انعقاد مؤتمر جنيف 2، وهو ما يحاول إفشاله، بالتعاون مع حلفاء فرنسيين وبريطانيين..

التسوية قادمة، وألا مجال لمواقيت إضافية وإلى ما لانهاية وهو ما يحاول بندر بن سلطان منعه، رغم أن هامش المناورة بات ضيقاً الى حد كبير..وإن أقصى ما يمكن القيام به لا يتجاوز مستوى المشاغبة..هناك محاولات سعودية هذه المرة من أجل إقناع الأميركيين والأوروبيين بأن من غير الممكن استبعاد خيار التدخل العسكري، وعلى الطريقة الاسرائيلية سوف تتدخل منفردة لتضع الأميركيين والأوروبيين أمام أمر واقع تدفع بهم للتدخل والمواكبة في بداية أو منتصف الطريق.

الصفحة السابقة