السعودية تحكم أم تخسر لبنان؟

لماذا فشلت السعودية في إقامة علاقات مستقرة مع الشعب اللبناني ومع مؤسسات دولته

عبدالحميد قدس

كيف تنظر السعودية الى الملف اللبناني وما هي علاقتها بالاوضاع المتفجرة فيه؟ بل كيف تتعامل مع خليط القوى السياسية والطائفية في هذا البلد الذي قيل عنه يوما انه يختصر في صراعاته أزمات المنطقة كلها؟

اسئلة فرضت نفسها في الآونة الاخيرة بعد ان تفردت الرياض بادارة الملف اللبناني منذ العام الفين وخمسة وهي التي كانت شريكة فيه منذ العام ألف وتسعمئة وخمسة وسبعين، وخصوصا بعد تشكيل قوات الردع العربية وانسحاب القوات السعودية منها مع بقية القوى العربية المشاركة الى جانب القوات السورية التي تسلمت الملف الامني والسياسي تباعا نيابة عن الجامعة العربية وبرضا القوى الدولية الفاعلة، حينها رضيت السعودية بدور الشريك الصغير وراحت تخطط باستمرار لتوسيع دورها في هذا البلد.

المعادلة التي حكمت الدور السعودي في لبنان اعطت حكومة الرياض السيطرة على الملف الاقتصادي ومنه تسلل النفوذ السعودي ليحكم مفاصل اساسية في الاقتصاد اللبناني وحركة بعض القوى السياسية التي استطاع الرئيس رفيق الحريري ان يمثل عمودها الفقري ومحور حركتها.

لكن اغتيال الحريري عام ٢٠٠٥ وتداعياته على الوجود السوري الامني والسياسي في لبنان، منح الرياض فرصة لتوسيع هيمنتها والامساك بالملف اللبناني، لولا ان ضعف الديبلوماسية السعودية وعدم وجود استراتيجية واضحة لها في الخارج جعلها تتخبط، تاركة الامر للدور القطري ليلعب دور الوسيط بين القوى اللبنانية المتناحرة والمنقسمة على ملفات عديدة داخلية واقليمية.

ولعل السبب الاهم في فشل السعودية في اداء دور ايجابي على الساحة اللبنانية هو التزامها المطلق بالسياسة الاميركية الصهيونية من جهة، والمنهج الطائفي والمذهبي التي تتبناه في التعامل مع مجتمع متعدد الطوائف والانتماءات السياسية.

المال السياسي

لقد سجلت السياسة السعودية فشلا ذريعا على الساحة اللبنانية بالرغم من الاموال الطائلة التي استثمرتها لشراء الولاءات والمواقف. وبالرغم من ان التيارات الموالية للرياض ترفع شعار بناء الدولة، والتزام المؤسسات الشرعية في محاولة منها لاظهار الطرف الاخر الذي يقف خلف المقاومة وكأنه مناوئ للشرعية، فإن الرياض فعلت القليل لمساعدة الدولة اللبنانية على بناء مؤسسات فاعلة وقوية، او تنفيذ مشرعات تنموية وخدماتية لجميع اللبنانيين، بحيث تشكل عنصر استقطاب لفئات الشعب ومصدر امن وثقة للغالبية من المواطنين الباحثين عن الامن ولقمة العيش.

واذا كان المعروف ان المؤسسات الاهلية في لبنان قوية وناشطة وتقوم مقام الدولة في احيان كثير في تأمين الخدمات الصحية والتعليمية والمعيشية، حيث تتعدد المستشفيات الخاصة ومؤسسات التعليم الخاص من المدارس الابتدائية حتى الجامعات، فإن دور السعودية في هذا المجال كان هامشيا ومحدودا جدا، ولا يتعدى الانشطة الدعائية، بينما اغدقت السعودية اموالها على زعماء بعض الاحزاب الطائفية والمذهبية، وللتأثير في الانتخابات او تقديم المساعدات للافراد والاسر على شكل رشاوى موسمية مقابل مواقف سياسية محددة.

وليس من الصعب ان يكتشف المراقب ان المناطق الخاضعة لتأثير التيارات الموالية للسعودية في لبنان اصبحت في زمن الطفرة المالية واغداق العطايا على الموالين والاتباع، أصبحت تلك المناطق هي الاكثر فقرا وحرمانا وتخلفا في ظل انهيار مؤسسات الدولة وعزوف المال السعودي عن القيام بمهام تنموية او خدماتية عامة تعوض للمواطن ما خسره من غياب المؤسسات الحكومية او عجزها.

لذا فإن الحديث عن المال السياسي في لبنان ينطبق على ما تزعم مصادر السعودية بوسائلها الاعلامية والدعائية انها تقدمه الى لبنان، وهو في حقيقة الامر لا يتعدى تقديم الدعم للمحاسيب وتأمين كلفة الحروب السياسية والامنية التي تخطط لها المخابرات السعودية في لبنان لحسابات الصراع الاقليمي تارة، ولمصلحة الاستراتيجية الاميركية تارة اخرى.

وهذه في كل الحالات لا تقيم علاقات مستقرة مع الشعب اللبناني ولا مع مؤسسات الدولة، بحيث تبقى العلاقة انتهازية ابتزازية يبرع بعض السياسيين اللبنانيين في الاستفادة منها، وقد اصبح بالفعل لها محترفوها ومدمنوها على الساحة اللبنانية.

السعودية: دعم جماعات السلف التكفيرية

الابتزاز بلقمة العيش

واخر وجوه السياسة السعودية الخارجية في هذا المجال على صعيد علاقتها بالشعب اللبناني، تمثل في الجريمة الانسانية التي بدأت السعودية بتنفيذها والتي تهدد بتوسيعها ضد اللبنانيين العاملين في السعودية او الطامحين للانضمام الى سوق العمالة الهائل فيها.

فقد عمدت الرياض الى استصدار قرار من مجلس التعاون الخليجي بطرد ومصادرة اموال اللبنانيين من طائفة محددة، ثم وسعتها لتشمل كل المتعاطفين مع هذه الطائفة او احزابها السياسية.. ولو لم تكن الرياض ترغب في هذا القرار وتخطط لاستخدامه للتأثير في الداخل اللبناني لما كان القرار اتخذ اصلا.

وهذه السياسة عطفا عن انها تمتهن كرامة الانسان وتتجاوز كل الاعراف والقوانين الدولية، فانها تشكل ادانة اضافية للسياسة السعودية القائمة على المذهبية والغارقة بالكيدية السياسية، وهو ما يعمق مشاعر النفور والكراهية لسياسة المملكة ويقلل من مستوى الثقة فيها والاعتماد عليها كمرجعية يمكنها التعامل مع الملفات اللبنانية بما يجلب الاستقرار والتقدم الى لبنان.

وكما يقول معظم اللبنانيين اليوم فان المملكة السعودية باستغلالها لظروف العاملين اللبنانيين في اراضيها وفي دول الخليج الاخرى لابتزازهم سياسيا واجبارهم على التعامل معها، فانها ستفعل ذلك غدا مع اي طرف يعتقد انه متحالف معها اليوم، كما ان ذلك يشعر اللبناني الذي يعمل في السعودية بانه مهدد باستمرار، وان ما يجنيه بعرقه وخبرته وكفاءته يبقى في نظر الحكومة السعودية منّة تستوجب الطاعة، او مكرمة يمكن وقفها في اي وقت، وتعتمد على مزاج الحاكم ليس الا.

دعم الارهاب والتطرف

الا ان فشل السعودية في بناء قاعدة ثابته من الموالين لها في لبنان طيلة السنوات الماضية، جعلها تذهب بعيدا في ملف عدائها لقسم من اللبنانيين تحت ذريعة سلاح المقاومة وما يجره عليها ذلك من خصومة مع اكثرية الشعب اللبناني.

وموقف السعودية من سلاح المقاومة مرتبط بعلاقتها بالسياسة الاميركية اكثر منه باستراتيجيتها الخاصة لمعالجة الملفات اللبنانية. والكل يعلم ان مسألة المقاومة والسياسة الاميركية في لبنان هي سياسة صهيونية بامتياز وتعتمد المصلحة الاسرائيلية والحاجات الامنية للكيان الاسرائيلي العدواني بالدرجة الاولى.

ولعلها كانت المرة الاولى التي يجاهر بها السعوديون في حربهم المعلنة على المقاومة في العام ٢٠٠٦ حيث بادر وزير الخارجية السعودي الى الاصطفاف خلف المحور الاسرائيلي في تحميل حزب الله مسؤولية الحرب حينها، ثم اقدامه على حشد الموالين له في لبنان عبر الحكومة التي كان يرأسها فؤاد السنيورة حينها للتضييق على المقاومة ابان الحرب، وتبرير كل جرائم جيش الاحتلال والمجازر التي ارتكبها ضد المدنيين اللبنانيين، بل ان هذا الفريق المدعوم والموجه سعوديا بدأ يعد الخطط والاجواء الاعلامية تمهيدا للقضاء على المقاومة وقتل او اعتقال قادتها.

ولم يكن سرا ما اعلنه مسؤولون اسرائيليون من ان مسؤولين لبنانيين وعربا ألحوا على اسرائيل بعدم وقف عدوانها على لبنان ومواصلة حربها التدميرية الظالمة، بالرغم من بوادر الهزيمة التي بدأ يستشعرها قادة الاحتلال العسكريين والسياسيين، وادراكهم بأنهم ليسوا عاجزين عن انجاز هذه المهمة وحسب بل انهم تورطوا في حرب ستكشف هشاشة بنائهم الداخلي، مع توسيع الحرب وقدرة المقاومة على نقل المعركة الى الداخل المحتل لاول مرة في تاريخ الصراع العربي الاسرائيلي.

الا ان الموقف السعودي لم يتوقف عند هذا الدرس ولم يستنتج العبر اللازمة منه، بل امعن في التطرف والعدوانية ضاربا بعرض الحائط مصلحة لبنان واللبنانيين، ومغامرا مرة أخرى بتدمير لبنان خدمة لاوهام سياسية، او تنفيسا لاحقاد لدى بعض المسؤولين السعوديين.

وقد تجلى ذلك في دعم وتشكيل البؤر الامنية وتمويل جماعات تكفيرية وارهابية متعددة في مناطق نفوذ اداتها السنية في لبنان المسمى تيار المستقبل، بحيث تحولت مدينة مثل طرابلس في الشمال الى منطقة تعج بأمراء الحرب المذهبيين والتكفيريين وخارجة عن سلطة الدولة فعليا، يمارس فيها المسلحون حروبا عبثية انهكت الدولة واضعفت سلطتها على منطقة الشمال تقريبا.

كما ان المال السعودي والرعاية السياسية من ادوات السياسة السعودية في لبنان ساعدا في تفريخ البؤر التكفيرية والامنية في البقاع وصيدا ولم تسلم منها بيروت نفسها، تحت شعارات مذهبية لتوتير الاوضاع الداخلية وتعميق الانقسام والتشرذم الداخلي، وتهيئة المسرح لحرب مذهبية وطائفية جديدة وتفجير لبنان خدمة لسياسات ومراهنات تدور في اذهان بعض المسؤولين السعوديين.. وتحت وهم القدرة على تجريد المقاومة من سلاحها واخضاع المعارضين للوصاية السياسية السعودية الباحثة عن موطئ قدم لها في لبنان وسورية لدعم دورها الاقليمي الموعود.

بندر يسمي رئيس الحكومة

ولعل قمة النفوذ الذي بلغه الدور السعودي في لبنان تمثل في ابريل الماضي بالتحكم بتسمية رئيس وزارء جديد في لبنان اثر استقالة حكومة نجيب ميقاتي بطلب من السعودية ذاتها.

ويعرف اللبنانيون جميعا ان اطرافا لبنانية ذهبت الى الرياض واستمعت مطولا الى تقييم الامير بندر بن سلطان بن عبد العزيز رئيس الاستخبارات السعودية للاوضاع وانتظرت منه كلمة السر لتسمية الرئيس تمام سلام لتولي منصب رئيس الحكومة.

الا انه وبالرغم من حصول سلام على شبه اجماع في المجلس النيابي واعطائه الفرصة من كل ممثلي القوى السياسية اللبنانية لتشكيل الحكومة الجديدة فانه فشل حتى الان في مهمته وما زال يتنقل بملل بين قصره في المصيطبة والقصر الجمهوري في بعبدا، يلوك تصريحات مملة وغير مقنعة لاخفاء المأزق الذي اوصلته اليه السياسة السعودية في لبنان التي شهدت تقلبات حادة في الاسابيع الماضية على صعيد تعاملها مع الملف اللبناني.

ان النتيجة البديهية التي نصل اليها من خلال هذا العرض السريع تتضمن النقاط التالية:

أولا: ان السعودية تتعامل مع لبنان باعتباره ساحة لاعلان نفوذها الاقليمي من جهة، ومنصة للتعامل مع المشكلات الاقليمية الاخرى وخصوصا الازمة السورية.

ثانيا: لقد اعادت السعودية لبنان الى نقطة الصفر بعد نحو اربعة عقود من حربه الاهلية الطاحنة والمضاعفات السياسية والاجتماعية والاقتصادية التي نجمت عنها.. وقد بات لبنان اليوم عبر المجموعات الارهابية والتكفيرية التي تتعيش على المال السعودي على فوهة بركان الانفجار الكبير.

ثالثا: ان الوسيلة التي تعتمدها السعودية لفرض سياستها في لبنان تقوم على التهديد بالارهاب والتفجيرات والاغتيال السياسي، واطلاق يد المجموعات التكفيرية المنتشرة في مناطق عدة من لبنان.

رابعا: ان التدخل السعودي الفج والمباشر في الشأن اللبناني يمثل تهديدا جديا لوحدته الوطنية وسلمه الاهلي، لان القائمين على هذه السياسة يضربون مصلحة اللبنانيين والمصلحة الوطنية عرض الحائط، ويحولون لبنان الى تفصيل صغير في مشروعهم الاقليمي الذي يتوهمون ان الولايات المتحدة نقلت ملفاته من دور قطر الآفل الى الدور السعودي المأمول.

وبديهي القول ان هذه السياسة تعد بكارثة للبنان وللسعودية في آن معا.

الصفحة السابقة