بندر الى موسكو

فشلت المهمة فتوسعت دائرة المعارك

هيثم الخياط

أراد أن يعقد إتفاقاً استباقياً قبل أن يحين موعد انعقاد مؤتمر جنيف 2، لأن الاتفاق بين موسكو وواشنطن لن يكون جزئياً، أي لن يقتصر على سوريا، بل سوف يشمل ملفات عديدة، وقد يطال خارطة جيوبوليتيكية تمتد من شمال أفريقيا الى الخليج.. هاجس آل سعود يبقى الخوف على وحدة الكيان، الذي لم يعد مقدّساً للدوائر القريبة ولا مضمون البقاء، أو بالأحرى ليس صالحاً لأمد غير معلوم بالنسبة للحلفاء الاستراتيجيين. زيارة رئيس الاستخبارات العامة بندر بن سلطان الى موسكو في 31 يوليو الماضي وبإلحاح منه لا تهدف الى إحداث تغيير استراتيجي في الموقف الروسي، وغاية ما كان يهدف اليه بندر من هذه الزيارة هو إجراء مقايضة تطال منظومة كاملة، وإن كان مركز الاستقطاب فيها هو العنوان السوري.

بندر: الملف السوري له الأولوية

قبل وصول بندر الى موسكو، كان رئيس الائتلاف الوطني السوري أحمد الجربا قد أطلق تصريحاً يبدي فيه استعداده للحوار مع النظام السوري بدون شروط مسبقة، متخلياً، في الظاهر على الأقل، عن شرط تنحي بشار الأسد..

أدرك بندر وأمراء آل سعود عموماً بأن ثمة تغييرات ميدانية كبرى حدثت في سوريا في الشهرين الأخيرين، بدأت بسيطرة الجيش السوري على بلدة العتيبة شرق العاصمة السورية دمشق، وتعد البلدة الشريان الحيوي لتزويد المقاتلين بالأسلحة، ويعتبر خط العتيبة مواز لخط درعا ـ دمشق، وأعقب ذلك خسارة القصير الاستراتيجية وهي المنفذ الحيوي الأكبر للأسلحة والمقاتلين من لبنان، وما تلى ذلك من انهيارات في معنويات الجماعات المسلّحة خصوصاً وصولاً الى سيطرة الجيش السوري على محافظة حمص بعد سقوط حي الخالدية والذي اعتبرها أحد قادة الجماعات المسلّحة بأن سقوط الحي سوف يؤدي الى سقوط الشمال بأكمله في يد النظام..

سقوط القصير كما أسلفنا في أعداد سابقة وجّه ضربة قاصمة لمشروع بندر بن سلطان، الذي كان يرى في القصير الرابط الموضوعي والحيوي لمشروع سياسي كبير يشمل سوريا ولبنان، حيث أن تأليف حكومة في لبنان موالية للنظام السعودي وسقوط النظام السوري سيؤول الى انهيار النفوذ الايراني وسيحل مكانه النفوذ السعودي المطلق..معركة القصير قضت على أحلام بندر، فقد أوقفت تدفق الاسلحة والمقاتلين من لبنان الى سوريا، وعطّلت مفاعيل انهيار النظام السوري، الأمر الذي جعل بندر يزهد في موضوع تأليف الحكومة اللبنانية..وجاءت سيطرة الجيش السوري على محافظة حمص تقريباً لتعجّل في زيارة بندر الى موسكو بهدف انقاذ ما يمكن انقاذه وعقد اتفاق استباقي مع موسكو تحصل فيها الرياض على بعض المكاسب قبل أن يتقاسم الروس والاميركان كعكة المنطقة.

زيارة بندر الى موسكو جاءت في ذروة العداء الروسي السعودي، والتي بلغت فيها التصريحات بين الطرفين مستوى خطيراً، دع المواجهة العسكرية غير المباشرة على الأراضي السورية. فقد فجّرت تصريحات سعود الفيصل، وزير الخارجية، بخصوص مشاركة الروس في حرب سوريا ودعم نظام بشار الأسد، واعتبارهم شركاء في قتل السوريين، الغضب الروسي الذي عبّر عن نفسه في تصريح لمسؤول روسي سابق بأن ثمة خططاً روسية معدّة من قبل سلاح الجو الروسي لقصف الرياض.

زيارة بندر في الشكل يعني تنازلاً، لأن الرياض كانت ترفض بتاتاً أي كلام عن حل سياسي للأزمة السورية، فيما تصرّ موسكو على أن لا حل الا سياسي في سوريا. وبالتالي، فإن مهما قيل عن الشكل فإنّه يعبر عن خطوة باتجاه التفاوض مع موسكو. أرادها بندر أن تكون اتفاقاً مع أعلى مستوى في الدولة الروسية، متجاوزاً الخارجية والاستخبارات، ما يعني أنه اتفاق ذو طبيعة سياسية، وأن يكون حاسماً من الرجل الأول في الدولة.

بالنسبة للروس هناك موضوعات مشتركة مع ال سعود، فقد نشرنا في عدد سابق عن قلق الجانب الروسي من انتشار المقاتلين العقائديين الذين تشربوا المذهب الوهابي على الحدود الروسية وخصوصاً في الشيشان والقوقاز. لقد وضع بندر بن سلطان ملف هؤلاء المقاتلين الذي يشارك قسم منهم في القتال الدائر في سوريا. في تقارير خاصة، أن المقاتلين القوقاز الذين وقعوا في الأسر خلال معارك القصير جرى الاتفاق معهم بالعودة الى ديارهم، وتم ترحيلهم في ليل عن طريق مطار بيروت بعد الاتفاق على عدم ابلاغ حكوماتهم بخبر مشاركتهم في القتال في سوريا.

يبقى الملف السوري أولوية لدى الروسي والسعودي، خصوصاً مع انتفاء قدرة أي طرف على الحسم. وقد اعترفت السعودية عبر فضائياتها مؤخراً وخصوصاً قناة (العربية) بعدم وجود إمكانية لحسم عسكري في سوريا، ما يعني رجحان كفة الحل السياسي.

بندر جاء الى موسكو باعتباره المهندس الوحيد لحركة المعارضة السورية السلمية والمسلّحة، وهو يقدّم نفسه باعتباره المتحدث باسم المعارضة والمعني بأي اتفاق يمكن أن يتم حول الأزمة السورية..وبعد استبعاد الجانبين التركي والقطري، بات بندر بن سلطان ممسكاً بكل تفاصيل الأزمة السورية.

بندر وبوتين: المهمة المستحيلة

ما نفته موسكو حول العرض السعودي الذي حمله بندر تأكّد لاحقاً في هيئة تقارير ولقاءات خاصة مع مسؤولين روس، وأن الثعلب السعودي كما يحلو لأسياده الأميركيين نعته لم يكن عبقرياً ولا عقلاً استثانياً، فدبلوماسية المال وحدها التي كانت مطروحة على المائدة بين بندر وبوتين. عرض سعودي سخي ثمنه تخلي الروس عن النظام السوري، وبحسب رويتر عن دبلوماسيين أجانب أن بندر حمل صفقة مغرية عبارة عن 16 مليار دولار ثمن صفقات أسلحة روسية للسعودية واخلاء مكان الأخيرة لصالح الروس في سوق الغاز الأوروبية.. تكتم الروس عن الصفقة ثم ما لبث أن توالى النفي من أكثر من مستوى روسي، واخيراً صدر الموقف الروسي برفض المقايضة أو العرض السعودي..

ولكن المهم في ذلك كله هو خلفية التحرّك السعودي المفاجىء، لأن ذلك يضع الأمور في نصابها.

بعد عزل محمد مرسي عن الرئاسة، تبعثرت التحالفات الاقليمية، بل وعلى مستوى الدولة الواحدة، فقد تبدد التوافق التركي السعودي، بفعل تناقض مواقف الجانبين بخصوص مصر، وتصاعد الخلاف التركي المصري بعد عزل مرسي. بل لحظنا انقساماً داخل المملكة فهناك جبهتان متقابلتان إزاء موضوع مصر، جبهة النظام الداعم للتغييرات التي حدثت بدعم الجيش المصري وقيادته الممثلة في عبد الفتاح السيسي، وجبهة التيار الصحوي ـ السلفي الذي لا يزال يتمسك بشرعية مرسي ويصف ما حدث في 30 يونيو الماضي بأنه انقلاب على الشرعية.

هذا الإنقسام بدأ ينعكس على مواقف الغرب، فبينما انحاز النظام السعودي الى جانب السيسي والرئيس المؤقت عدلي منصور، بدا الغرب موارباً في مواقفه حيال (الاخون) بل جاءت تصريحات وزير الخارجية الاميركي جون كيري في 6 أغسطس واضحة في توصيف ما جرى في مصر بأنه انقلاب، ما يعني عدم اعتراف بالنظام الجديد..هذا الموقف يشكّل بالنسبة للسعوديين قلقاً كبيراً، وهم الذين يسعون الى استبعاد الاخوان ليس من الحكم في مصر، وفي تونس، بل وفي الخليج الذي استقبل بحفاوة بالغة التغييرات الثورية في مصر وتونس وليبيا بصعود التيار الاسلامي الحركي الى الحكم..

قد يكون بندر تنبّه الى هذا التعارض مع الأميركيين في موضوع (الاخوان) ما يدفعه الى عدم الاتكال على التحالف مع واشنطن، وقد يرى في ما يعتبر خطراً مشتركاً بين الرياض ودمشق، أي الأخوان، مدخلاً لنوع من التفاهم الجزئي مع نظام بشار. لم يكن مستغرباً إسقاط الرياض خيار التواصل مع (حماس) طيلة الفترة الماضية، حتى مع تدهور علاقاتها مع نظام بشار ومن ثم ايران وحزب الله.

التغييرات في مصر جاءت بعد انهيارات ميدانية في سوريا، وأحاديث مستفيضة عن انهيارات معنوية في صفوف المقاتلين وتراجع البيئة الحاضنة لهم، وعودة أعداد من المقاتلين في صفوف الجيش الحر الى الجيش النظامي. الى جانب ذلك، يحقق الأخير انتصارات عسكرية في عدد من المحافظات، وهو ما انعكس بشكل مباشر على المواطنين السوريين في محافظة دمشق ومحافظات أخرى، حيث زال حجم الخطر بصورة شبه كاملة عن العاصمة دمشق، وتراجعت كثيراً حدة الاشتباكات والقصف مقارنة بالأشهر الماضية، لذلك أيقنت السعودية أن العناوين التي رفعتها المعارضة السورية بالنيابة عنها لا أمل في تحقيقها، وبالتالي فإن التسوية اليوم أفضل من التسوية غداً.

أدركت السعودية أن الحل حول سوريا لن يكون الا بموافقة الروس، لأن هم الأميركيين أصبح حفظ أمن اسرائيل وإنجاح التسوية بين الفلسطينيين والإسرائيليين التي سارعت واشنطن لفرضها دون الطلب من العرب لعب أي دور، مستغلة حالة الضعف الذي تعاني منها حركة حماس بعد انهيار حكم الاخوان في مصر.

ينقل العارفون أن القطريين عبر رئيس وزرائهم السابق حمد بن جاسم كانوا ينفذون ما تطلبه واشنطن سريعاً، ويذكر السعوديون كيف ان بن جاسم مارس في الجامعة العربية يوماً ضغوطاً كبيرة على الرئيس الفلسطيني محمود عباس لإجهاض مطلبه الاعتراف بالدولة الفلسطينية أممياً، يومها استمر الشيخ حمد لساعات يقنع ابو مازن بالتراجع تحت حجة «ما وقتها الان» ، يومها رد عباس: ماذا اقول لشعبي؟ ماذا اقول للناس؟ ردّ حينها بن جاسم: لا مشكلة انت وافق والمخرج جاهز ونحولك لبطل.

لذلك، يستحضر السعوديون تلك الحادثة كمثال للمقارنة اليوم مع تدخل واشنطن بشخص وزير خارجيتها جون كيري وتعيين مارتن أنديك للمتابعة وفرض التسوية دون حاجة لقطر ولا للرياض.. هم الأميركيين اسرائيل لا غير. بينما أمر سوريا قابل للتفاوض، ألم يتراجع الأميركيون حول سوريا؟ من يتحدث اليوم عن توقيت سقوط بشار الاسد بعد؟..في حقيقة الأمر، أن الأميركيين مرتاحون لما يجري في سوريا حيث يستنزف الخصوم كل قواهم في هذه الأرض، النظام السوري ينهار، وايران وحزب الله تكرّسان قواهما في دعمه، وكذا الحال بالنسبة للقاعدة وفروعها، فيما تعيش اسرائيل في مأمن مما يجري.

سارع بندر لمقاربة الملف السوري بطريقة انقاذية، بعد أن أوصدت أوروبا أبوابها أمام فكرة تسليح المعارضة السورية وكذا فعل الكونغرس الاميركي، فاختار البوابة الروسية للتفاوض بعد جولة قام بها في اوروبا وسمع من الألمان والفرنسيين والبريطانيين قلقا بشأن الإسلاميين وتوجها لإعادة النظر بالأزمة السورية ولم يستطع إقناعهم بأبسط الامور حول سوريا ولمس تغييراً جذرياً متدرجاً. ومن هنا كانت مسارعة بندر لفتح صفحة جديدة مع الروس، والاستعداد للنقاش حول سوريا، مع إدراكه سلفاً ان الروس لن يتنازلوا في الملف السوري بعد صمود وانتصار أقلّه في عدم سقوط النظام و فشل رهان الآخرين.

ترشيشي: حوافز مهمة بندر الى موسكو

يرصد طارق ترشيشي في مقالته الموسومة (أيّ خلفيات لزيارة الأمير بندر لموسكو؟) في صحيفة (الجمهورية) اللبنانية في 1 أغسطس الجاري، المعطيات المحيطة بزيارة بندر الى موسكو، ومنها اعلان رئيس الائتلاف السوري المعارض أحمد الجربا استعداده للتفاوض في «جنيف 2» مع ممثلين للنظام السوري، وانضواء القيادة القطرية تحت لواء القيادة السعودية إثر تنحّي الأمير حمد بن خليفة عن الحكم لنجله الامير تميم، وتنحّي رئيس الوزراء القطري السابق الشيخ حمد بن جاسم عن رئاسة الحكومة ووزارة الخارجية القطرية، بعدما كانت له صولات وجولات في التحرّكات العربية والدولية التي حصلت في شأن الأزمة السورية. وأيضاً، تأتي الزيارة لموسكو قبل أسابيع من لقاء القمة بين أوباما وبوتين. وتأتي الزيارة أيضاً بعد سقوط حكم «الإخوان المسلمين» في مصر ومسارعة السعودية ومعها الإمارات الى تقديم الدعم للسلطة المصرية وللاقتصاد المصري مادياً وسياسياً. كذلك تتزامن هذه الزيارة مع معاودة المفاوضات العلنية والسرّية بين الفلسطينيين والإسرائيليين برعاية الإدارة الاميركية بعد انقطاع دام سنوات.

ترشيشي: حوافز بندر لموسكو

هما يكن، فإن التكتم الذي أحاط بموضوعات الزيارة تبدد سريعاً بعد أيام حيث بدا كل شيء يوحي بالفشل التام، بل قيل بأن العرض الذي قدّمه بندر لم يلق استجابة روسية، وإنما عاد الى الرياض خالي الوفاض. وفيما يبدو، فإن بندر عاد وجرّب لغة التهويل مجدداً مع الجانب الروسي الى جانب الإغراءات المادية السخيّة. دخل بندر الى مربع الثوابت الروسية في الشرق الأوسط بهدف العبث به، من قبيل التخلي عن حلفائها في الشرق الأوسط مقابل منحها مناطق نفوذ في أفريقيا، وهو ما رفض الروسي المساومة عليه، الى جانب عقد صفقات عسكرية سخيّة، ومعالجة ملف المقاتلين الوهابيين في القوقاز الذين يهدّدون الأمن القومي الروسي.

بندر جاء الى موسكو بقلة من الأوراق التي يلعب بها، ولوّح بورقة توسعة جغرافية المعارك في سورية. ما قيل عن معركة حلب مبالغ فيه كثيراً، ويبدو أن لا النظام ولا قوات المعارضة على استعداد لخوض هذه المعركة الكبيرة والاستراتيجية لأنها تتطلب تعزيزات عسكرية وحشد عسكري كبير قد يستنزف قوة المنخرطين في الحرب.

النظام عزّز من وجوده العسكري في عدد من مناطق القتال، وخصوصاً بعد أن حقق الجيش السوري انجازات عسكرية لافتة في القصير وتلكلخ وخالدية حمص والغوطة الشرقية وغيرها من جبهات القتال، وجعله أكثر إصراراً على مواصلة انجازاته العسكرية في ظل تخبط جماعات المعارضة، خصوصاً دخولها في مواجهات مسلّحة شرسة مع الأكراد، الذين فقدوا أبناءهم في معارك استفزازية ومهينة مع جبهة النصرة.

كليب: مهمة بندر لوقف القتال أو تغذيته!

الإعلامي سامي كليب كتب في 2 أغسطس مقالاً في (السفير) بعنوان (هل توقف زيارة بندر لموسكو القتال في سوريا أم تغذيه؟) ووضع الزيارة في نطاق احتمالين لا ثالث لهما، إما أن تنجح هذه الزيارة في وقف القتال في سوريا أو أن ترفع من وتيرة المصادمات الدموية على الأرض السورية. ورغم ان كليب ينطلق من حقيقة أن زيارة بندر تعبر عن تغيير في الموقف السعودي وليس الروسي، كونها تأتي بعد تصريحات نارية للدبلوماسيين السعوديين بما في ذلك سعود الفيصل الذي اتهم الروس بـ (دعم الإبادة الجماعية) في سوريا، وقبل ذلك تصريحات تنذر الروس بخسارة مصالحهم في الشرق الأوسط بسبب دعمهم النظام السوري الحالي، ومع ذلك من جاء الى موسكو هو بندر بن سلطان، فيما لم يصل الى الرياض أي مسؤول روسي من أي مستوى..

سامي كليب: بندر وتغذية القتال

من رؤية لبنانية محضة، يرى كليب بأن زيارة بندر الى موسكو ما بين تهدف الى تحقيقه هو ضرب معسكر الممانعة الذي يمتد من حزب الله الى ايران مروراً بغزة والعراق وصولاً الى طهران، وأن ضرب النظام السوري الحالي يسقط الحلقة الموصلة بين هذه الأطراف..

ما توقعه كثيرون قد لا يكون له رصيد كبير في حسابات الدبلوماسية السعودية، مثل الكلام عن تقارب بين واشنطن وطهران، لأن الرياض تدرك بأن ليس هناك من عاصمة إقليمية يمكن أن تقدّمه من تنازلات كالذي قدّمته الرياض لواشنطن، وأن الأخيرة لا يمكن أن تفرّط في حليف أعطاها كل شيء وعلى استعداد لأن يفعل ذلك في كل مرّة، في مقابل أطراف قوية ويصعب التعامل معها بسهولة، أو بالأحرى يصعب انتزاع تنازلات منها بسهولة.

لا ريب ان وضع خارطة مستقبلية لسوريا، تحتفظ فيها روسيا بمصالح استراتيجية ستكون موضع اهتمام الروس، مع أن فكرة تقسيم سوريا الى ثلاث دويلات: سنيّة، علويّة، كردية لا تبدو خياراً راجحاً بالنسبة للسعوديين الذين يعيشون في مملكة هشّة ومتصدّعة..

فكرة تقسيم سوريا تراجعت مؤخراً بعد سيطرة الجيش السوري على عدد من المناطق الحيوية بما في ذلك داريا التي ظهر فيها الأسد كتعبير عن انتصاره على المعارضة المسلّحة، وكذلك الانجازات العسكرية في ريف دمشق التي يستعيد الجيش جزءه الأكبر دون ضجيج، وهو ما يجعل الجماعات المسلّحة تهرب الى مناطق جديدة للقيام بمعارك ذات طبيعة معنوية تسترد فيها جزءاً من الخسائر الاستراتيجية الكبيرة.

جاء بندر الى موسكو بعنوان الحل السياسي، وكان يخفي وراء ظهره الخيار العسكري، رغم ان الغرب لم يوافقه على ذلك، خشية وصول السلاح الى المتطرفين، وهو ما أكّدته تقارير الغربيين أنفسهم الذين لحظوا كيف وصلت أسلحة استراتيجية الى جماعات قاعدية وبعض أفرادها من جنسيات أوروبية.

تلويح بندر بورقة المقاتلين الشيشان في وجه بوتين لم يمر بسهولة، لأن الروس تعاملوا مع الأمر على انه جزء من معركة سوريا، وقالوا بأن النصر في سوريا هو انتصار على كل مسلحي القاعدة، وإن الهزيمة في سوريا يعني وصول المقاتلين الى قلب موسكو..

بندر لا يزال يتمسك بالخيار العسكري، ولكن فتح نافذة لتسوية سياسية لا يخرج منها خاسراً في الاحوال كلها. ولذلك كانت موسكو تذكّر السعوديين على الدوام بضرورة وقف تدفق السلاح والمسلّحين الى سوريا، وتشجيع المعارضة السورية على القبول بالحوار، وكان الروس واضحين في إشاراتهم الى السعوديين والأميركيين.

اكتشف بندر بأن الروس أشدّ تمسكاً بحلفائهم في الشرق الأوسط، وهم اليوم أكثر من أي وقت مضى على قناعة تامة بأن من غير الممكن التفريط في النظام السوري أو حتى ايران، وهو ما يجعل الطرفين واثقين من أن موسكو لن تتوانى في توفير الغطاء السياسي الدولي لنظام بشار، وسوف تمنع أي قرار من مجلس الأمن يجيز التدخل العسكري.

يبدو أن زيارة بندر لم تحقق أهدافها في موسكو، وما كان متوقعاً في مثل هذه الحال قد وقع، حيث انفجرت المعارك في مناطق كانت محصّنة أمام أي نزاع مسلّح، ولكنها اليوم باتت في صلب أولويات المقاتلين، المموّلين من السعودية بإدارة بندر بن سلطان. قرار تعديل موازين القوى قد بدأ بعد الزيارة مباشرة وليس قبلها، وكأن بندر أراد أن يثبت بأنه يمتلك الورقتين: الحرب والسلم، وأن ما وقع في ريف اللاذقية هي رسالة واضحة الى موسكو مباشرة بأن ما رفضتموه في السياسة سوف ترغمون على القبول به بالسلاح.

حتر: الحرب الطائفية بعد الفشل

في مقال للكاتب الأردني ناهض حتر في (الأخبار) اللبنانية في 7 اغسطس الجاري بعنوان (السعودية تعلن الحرب الطائفية في سوريا)، معطيات جديّة حول التحوّل في الاستراتيجية السعودية بعد فشل زيارة بندر الى موسكو. يلفت حتر الى أنه خلال أشهر الحرب الطويلة في سوريا، نفّذت المجموعات التكفيرية الإرهابية، العديد من الجرائم المذهبية والطائفية، لكنها كانت جزئية أو مفردة أو تستهدف تجمّعات شيعية منعزلة، أو تحدث في سياق قتالي أعمّ تحت عنوان (إسقاط النظام). لكن هذه العمليات لا تقود إلى الصدام المباشر مع كتلة مذهبية كبيرة. إلا أن الهجمات الهمجية المصمّمة التي يشهدها ريف اللاذقية، منذ 4 أغسطس، تشكّل إعلاناً صريحاً للشروع في استراتيجية الحرب المذهبية الشاملة؛ فالقرى المستهدفة في ريف اللاذقية لا تشكّل أهدافاً عسكرية بذاتها، ولا تحقق أهدافاً عسكرية تالية، ولا يمكن المسلحين السيطرة الدائمة عليها. وهي ليست قرى منعزلة، بل تنفتح على مناطق الكثافة السكانية للعلويين. وإذا كانت موازين القوى لا تسمح للإرهابيين، بحال من الأحوال، بتحقيق شعار «تحرير الساحل»، يغدو هذا الشعار، إذاً، مجرد غطاء للقيام بغزوات مذهبية ضد مدنيين علويين، بروح الإبادة الجماعية بالذبح والخطف والتعذيب والاغتصاب والسبي، ودفع السكان إلى النزوح الجماعي، تحت وطأة الهلع.

ناهض حتر: الحرب الطائفية السعودية

هذا هو، حسب حتر، عنوان انتقال الملف السوري إلى الأيدي السعودية: إشعال الحرب الصريحة ضد «الطائفة العلوية». وإذا كان هذا النوع من الحروب ينسجم، كلياً، مع العقلية الوهابية الإجرامية السوداء، فإنه يرمي إلى تحقيق الأهداف الآتية:

أولاً، ضرب ما يعتبره السعوديون المعقل الاجتماعي الصلب للنظام، وترويعه، وتحطيم حياته وأمانه، والفتّ في عضده، وكسر صلابته، ودفعه إلى الخوف والضغط السياسي الداخلي على النظام؛

ثانياً، ملاقاة الضربات الإسرائيلية لسواحل اللاذقية المستمرة لتدمير واردات السلاح ومخازنه وتجميد حركة القوات السورية؛ ثالثاً، شل حركة الميناء بوصفه المنفذ التجاري والتسليحي الرئيسي للدولة السورية في ظروف الحرب؛ رابعاً، زعزعة الاستقرار الاجتماعي السياسي في المناطق الأكثر أمناً واستقراراً في البلاد؛ خامساً، ضرب معنويات قسم ليس صغيراً من ضباط الجيش العربي السوري وجنوده على الجبهات المنتشرة في البلاد من خلال إثارة مخاوفهم على عائلاتهم وزوجاتهم وأبنائهم وأعراضهم وممتلكاتهم؛ وسادساً، والأهم، تحطيم الوعي الوطني السوري اللاطائفي في صفوف المكوّن العلوي، ودفع العلويين إلى الرد من خلال ميليشيات طائفية، تقوم بعمليات انتقامية من الصنف التكفيري الإرهابي نفسه، والتوصل إلى تحقيق الهدف السعودي الأساس، ألا وهو إشعال حرب طائفية في سوريا.

ويعلّق حتر على ذلك، بأنه لا تختلف العقليتان الوهابيتان في كل من الدوحة والرياض، ولكن الأولى جرى «تطويرها» لتتزين بمشروع سياسي عماده الأول الإخوان المسلمون في سياق خطة إقليمية، ليست سوريا ــــ على أهميتها المركزية في المشروع ــــ سوى جزء من كل يشمل العالم العربي. وفق تحليل حتر، فإن ذلك المشروع، بما قُيّض له من علاقات وتنظيمات ووسائل سياسية وإعلامية الخ، ربما كان قادراً على التضليل وتحقيق إنجازات لولا اصطدامه بالصخرة السورية، أما الوهابية السعودية الفظة المعتمدة، كلياً، على الأدوات الإرهابية المجردة، فليس في جعبتها مشروع ولا سياسة ولا تنظيمات ولا إعلام، بل تحطيم سوريا والمقاومة وإيران، وسلاحها الرئيسي هو اشعال الحروب الطائفية باستخدام مجموعات تكفيرية إرهابية تعمل بالقطعة والغرائز. وهكذا، فنحن، مع الوهابي المتأمرك، بندر، نكون قد وصلنا إلى مرحلة جديدة خطيرة جداً من الحرب المستمرة ضد الدولة السورية.

وهنا يأتي دور بندر..

فالنقطة الجوهرية التي ينبغي إبرازها، هنا، بوضوح، هي الآتية: إن مخطط بندر الإجرامي لإشعال الحرب الطائفية الصريحة في سوريا، يحظى بدعم كامل من واشنطن، وبتغطيتها السياسية لجرائم الإبادة الجماعية. ويظهر تاريخ الأميركيين، بلا مراء، أن السياسة الأميركية لا تتضمن أي بعد أخلاقي، وأن الإجرام، بكل أشكاله، هو جزء لا يتجزأ من عقيدتها السياسية والعسكرية.

السعودية دولة تقوم، ببنيتها، على وهابية متعصبة قبلية تتساوى، كلياً، مع العقيدة الدينية ـــ الحربية لليهودية المقاتلة، المؤسّسة على اعتبار قتل «الأغيار»، والتنكيل بهم، ومخالفة كل وصايا الله بشأنهم، أمراً شرعياً من صلب العقيدة الدينية، وهو ما يجمعها، في العمق، مع العقيدة الإسرائيلية والأميركية. وهذه الدول الثلاث هي مصدر الشر والإرهاب على مستوى العالم كله.

وهذه العقيدة لا تتعارض، بل تستكمل العقيدة البراغماتية الأميركية؛ فأفظع الشرور، عند البراغماتيين، مبرر ما دام يمكنه تحقيق الأهداف السياسية المتوخاة. واقتراح بندر لإشعال الحرب ضد العلويين بوصفهم «طائفة»، وما قد ينتج منها من إضعاف النظام السوري وجلبه نحو تسوية بالشروط الأميركية الاسرائيلية، ملائم تماماً لاحتياج الأميركيين للذهاب إلى المفاوضات مع الروس من موقع أقوى يتضمن التلويح بمرحلة جديدة من الحرب في سوريا، عنوانها طائفي صريح، فج وإجرامي، ومفتوح الاحتمالات على الأسوأ.

في كل الاحوال، مهمة بندر الى موسكو فشلت فتوسّعت دائرة المعارك في سوريا، وما لبثت أن أعقبها اعلان فشل قمة أوباما بوتين، التي فشلت قبل الموعد المقرر لها، بعد اعلان البيت الأبيض من جانب واحد في 7 أغسطس بإلغاء القمة دون بيان الأسباب، الأمر الذي أسف له الكرملين، وأبقى الدعوة الى أوباما بحضور القمة قائمة ومفتوحة.

كان اعلان البيت الأبيض متزامناً مع تطوّر ميداني، وكأن أوباما كان ينتظر مبرراً قوياً يستند اليه في الغاء القمة، فقدّم له بندر بن سلطان ورقة مطار منغ العسكري في ريف حلب، ومعارك ريف اللاذقية على أساس أنها خاصرة رخوة للنظام السوري. ونتذكر كيف كان أوباما نفسه يتحدث عن تعديل في ميزان القوى قبل التفكير في الذهاب الى مؤتمر جنيف 2.

في الأخير، يمكن القول بان ماهو متوقع ليس إيجابياً على الإطلاق، ولا يدعو على التفاؤل بتاتاً، فقد أوصد البيت الأبيض أبوابه امام أي تسوية ممكنة من خلال لقاء أوباما ـ بوتين، ومن غير المرجّح أن يكون هناك مؤتمر جنيف 2 في المدى المنظور، وما هو منتظر هو مزيد من الدماء والدمار في سوريا..حماها الله من بعض العرب وكل الغرب.

الصفحة السابقة