آل سعود ومقامرة الهروب للأمام

المنشآت النفطية.. هدف سهل وخيار راجح!

هاشم عبد الستار

ماذا لو قررت مجموعة مسلّحة أو دولة خصم للنظام السعودي استهداف المنشآت النفطية في المنطقة الشرقية؟

واهم من يقول أن هذه المنشآت محصّنة إزاء أي صاروخ بدائي الصنع يمكن أن يوقف حركة الناقلات النفطية من ميناء رأس تنورة او الجعيمة الى الأسواق العالمية.

وواهم من يعتقد أن المنشآت النفطية لن تكون مدرجة في بنك أهداف الحرب الاقليمية المحتملة، بحجة أن مصالح الدول الصغرى والكبرى تحول دون اختيارها هدفاً.

ومن الغباء أن يظن آل سعود بأن ضلوعهم في مغامرات خارج الحدود يمنع الأطراف المتضررة من التفكير، أو بالأحرى التخطيط، لشن هجمات عسكرية ضد المراكز الحساسة والمؤلمة للنظام.

يدرك النظام هذه المخاطر، وفي ظل تدحرج الفوضى العبثية من بلد الى آخر في الشرق الأوسط سوف نجد جماعات متضررة منغمسة في العمل على توجيه ضربات قاصمة لاقتصاديات النظام السعودي وأسس استقراره، ولن تكون (القاعدة) وحدها من سيعمل على تحقيق هذا الهدف، بل سيجد النظام الهش في تكوينه أمام طيف من الخصوم الذين ينتظرون ساعة الصفر للإنقضاض على هذا النظام المسؤول عن وقوع الضحايا في عدد من البلدان العربية من مصر الى لبنان ومن سوريا الى العراق ومن اليمن الى السودان..

هل فكر آل سعود حقاً في عواقب الانغماس في أزمات الشرق الأوسط، والتحوّل الى عنصر تفجير في أكثر من بلد عربي، بحيث لم يعد يكترثوا بأية ردود فعل ضد سياساتهم. هل إن تجنيد عناصر انتحارية أو تسليح جماعات جاهزة للموت سيمنع دولاً أو جماعات وازنة عسكرياً من القيام باعتماد خيار مماثل بحيث تحيل المملكة الهشّة أمنياً الى ساحة حرب مفتوحة يصعب السيطرة عليها، بحيث تتحول الى مناطق متنازع عليها بين جماعات ودول، وربما تسهّل مخطط تقسيم المملكة التي لا يزال ينظر الأميركيون اليها باعتبارها كياناً غير قابل للحياة على المدى البعيد، ولا بد من تفكيكه من أجل السيطرة عليه قبل أن يصبح الكيان الكبير مسرح حرب فوضوية تؤدي الى الإضرار بالمصالح الحيوية للغرب.

يلفت مقال السر سيد أحمد بعنوان (المرافق النفطية هدفاً إرهابياً.. والعين على السعودية) المنشور في 24 يوليو الماضي الى قضية بالغة الخطورة، وينبّه الى جوانب حساسة وعلى قدر كبير من الأهمية، ويبدأ من حادث مجمع الغاز الجزائري في عين أميناس في مطلع العام الجاري، والذي نتج عنه مقتل 38 شخصا من جنسيات مختلفة. القوات الجزائرية تمكنت من احتواء الهجوم في ما بعد، إلا انه خلّف نتيجتين رئيسيتين: أولاهما، أن الصناعة النفطية، بامتداداتها الجغرافية الطويلة والمتسعة، أصبحت ميداناً جديداً للعنف، بسبب موجة التغيير التي تشهدها المنطقة عموما. وتكتسب هذه النقطة أهميتها كون الجزائر عاشت عقدا من العنف الأهلي لم يصب رشاشه المنشآت النفطية في تلك البلاد، ربما لقناعة وقتها من قبل تلك الحركات المسلحة المقاتلة بأنها تأمل في تولي السلطة يوماً، ومن ثمَّ فهي ستحتاج الى العائدات التي تدرها صناعة النفط والغاز. وثانيهما أن اتجاه الجماعات المسلحة الى التحرك بصورة فردية ومحلية، مفتقداً المركزية التي كانت سائدة من قبل، تجعل مرافق الصناعة النفطية ميداناً يغري بالاستهداف من قبل هذه المجموعات. وساعد على ذلك، التغييرات في المشهد السياسي في كل من ليبيا ومصر وتونس، وخروج بعض عناصر هذه المجموعات من السجون، وتفكك القبضة الأمنية والاستخبارية في هذه الدول.

هذا الحادث لم يكن عابراً، يتكرر اليوم في أكثر من بلد عربي ويحدث بصورة شبه يومية في نيجيريا واليمن ومصر وسوريا والعراق. وبحسب قاعدة للمعلومات عن الإرهاب الدولي في جامعة ميريلاند الأميركية: يشهد كل أسبوع وقوع ثلاثة حوادث إرهابية حول العالم تستهدف مرافق وأشخاصاً يعملون في صناعة النفط في مكان ما من الكرة الارضية. وهناك حوالي 40 دولة فيها صناعة واستثمارات مقدَّرة في الميدان النفطي، ما يجعلها هدفا لمثل هذه العمليات، خاصة مع تراجع العملية السياسية وصعود وتيرة العنف الأهلي والإقليمي.

حقول وامدادات النفط والغاز: هل هي محصّنة؟

لكن، رغم التطورات التي شهدتها الصناعة النفطية وبروز مناطق إنتاج جديدة، ما يخفف من الانعكاسات السلبية لانقطاع الإمدادات بسبب حادث إرهابي، إلا ان الصناعة النفطية لا تزال مهجوسة باحتمال وقوع حادث من هذا النوع في السعودية تحديداً، وهي التي ظلت متربعة على مرتبة الملجأ الأخير للسوق، وكأنها المصرف المركزي للصناعة النفطية العالمية.

يعرض السر سيد أحمد لبعض ما ورد في تقرير نشرته مجلة (الايكونوميست) في أيار (مايو) من العام 2004، وهو تقرير معمّق تحت عنوان (ماذا لو؟). التقرير تناول بالتحليل احتمالات قيام زعيم القاعدة أسامة بن لادن بالعمل على تنفيذ حديثه عن أهمية استهداف الدول الغربية بقيادة الولايات المتحدة في أوضاعها الاقتصادية، وذلك عن طريق توجيه ضربة الى بعض مرافق المنشآت النفطية السعودية وإغلاقها لبضعة أسابيع، الأمر الذي يمكن أن يحدث اضطراباً اقتصادياً عالمياً كبيراً. بعد عامين من نشر ذلك المقال، حدث هجوم إرهابي عبر عربتين مفخختين على مجمع المعالجة المركزية في أبقيق، في المنطقة الشرقية من السعودية، وهو الذي يقوم بإعداد نحو 60 في المئة من الخام السعودي وتجهيزه للتصدير. ومع ان الهجوم تم احتواؤه في المنطقة الخارجية من المجمع، ولم تتأثر به العمليات الإنتاجية ولا المرافق الفنية، إلا أن سعر البرميل سجل ارتفاعاً بنحو دولارين، وذلك في رد فعل مباشر على أنباء الهجوم. فالمملكة لا تجلس فقط على ربع الاحتياطيات العالمية المؤكدة من النفط الخام، وإنما تتمتع بمميزات أخرى تجعل أي لفحة برد تلحق بصناعتها النفطية تصيب بقية العالم بالزكام. وعلى رأس هذه المميزات ان كلفة استخراج برميل النفط في السعودية هي الأقل عموماً في العالم، وتتراوح بين دولار ودولارين للبرميل.

وساعد على ذلك قرب المكامن من السطح، وضخامة مساحة الحقول والإنتاج، الى جانب الاستقرار السياسي والأمني النسبي. وهناك أيضاً تعدد منافذ التصدير لديها على جانبي الخليج عبر مرفقي رأس تنورة والجعيمة، وعلى البحر الأحمر في ميناء ينبع. ثم ان الصناعة تحت السيطرة الحكومية الكاملة التي تديرها وفق استراتيجية خاصة، ومن ذلك الاحتفاظ الدائم بطاقة إنتاجية فائضة في حدود مليوني برميل يومياً على الأقل، وذلك للتعويض عن أي نقص في الإمدادات لأي سبب ومن أي مكان حول العالم، مثلما حدث عندما انقطع الإنتاج النفطي للعراق والكويت مطلع العقد الماضي، أو الإنتاج الليبي قبل عامين، أو تراجع الإنتاج الفنزويلي أو النيجيري لأسباب سياسية داخلية.

هذه الطاقة الفائضة تمثل عبئاً مالياً لم تبدِ أي دولة منتجة أخرى، حتى روسيا مثلاً التي تتجاوز صادراتها اليومية ما تقدّمه الرياض للسوق، أو الشركات الكبرى أمثال أكسون موبيل، رغبة في تحمله. وهو ما جعل السعودية «المنتج المرجِّح» في العالم، الذي يوازن الى حد كبير بين العرض والطلب. لذا، فإن أي حادث إرهابي يؤدي الى إضعاف هذا الدور أو تقليصه، ستكون له انعكاساته السياسية والاقتصادية العالمية، ويمكن أن يدفع بسعر البرميل الى 250 دولارا أو أكثر كما يرى بعض المحللين، خاصة أن بعض المعلومات تشير الى أنه في الفترة ما بين عامي 2003 و2007، تم إحباط 180 محاولة إرهابية من قبل تنظيم القاعدة في السعودية.

وفي تدابير حمائية واحترازية قامت بها السلطات السعودية في العقد الأخير، وقعّت في العام 2008 أربع اتفاقيات استراتيجية مع الولايات المتحدة، من بينها اتفاقية أمنية تخضع كامل المجال الجغرافي للمملكة تحت الرقابة الأميركية، وتكون المنشآت النفطية والحيوية خاضعة لإشراف أمني مباشر من الولايات المتحدة. وقد تناولت وثائق ويكيليكس جوانب من هذه الاتفاقيات التي جرت بصورة أساسية بين الأمير نايف وإبنه محمد بن نايف من جهة ومسؤولين أمنيين كبار من هيئة التحقيق الفيدرالية الأميركية إف بي آي.

يبقى، إن هناك مخاوف من حالة التركيز التي تقوم عليها الصناعة النفطية السعودية التي تتموضع بصورة رئيسية في المنطقة الشرقية جغرافيا، وتتوزع على 80 حقلاً منتجاً، ثمانية منها تضم معظم الاحتياطيات وعلى رأسها حقل الغوار، الذي يعتبر أكبر حقل نفطي في العالم. هذا الى جانب خطوط أنابيب بأطوال تصل الى 11 ألف ميل.

والمخاوف لا تقتصر على العمليات الإرهابية التقليدية، وإنما تشمل أيضا احتمالات ما يطلَق عليه بسيناريو «بيرل هاربور الكترونية»، وذلك في إشارة الى الهجوم الإلكتروني على بعض المواقع الخاصة بشركة أرامكو في آب/اغسطس من العام الماضي، نتج منها توقف نحو 30 ألف جهاز حاسوب في الشركة عن العمل. لكن ذلك الهجوم لم يصل الى الحواسيب المرتبطة بالعمليات الإنتاجية، وبالتالي لم يحدث تأثير يذكر. الهجوم اعتبر الأكبر من نوعه الذي يوجه ضد منشأة مفردة، قامت به مجموعة أطلقت على نفسها «السيف القاطع للعدالة». وقالت المجموعة انها تحصلت على بعض الوثائق من هذه العملية ستقوم بنشرها، إلا ان ذلك لم يحدث. وبعد بضعة أشهر، قال أحد المسؤولين في أرامكو ان الهجوم كان يستهدف وقف الإنتاج وانه تم تنسيقه عبر مجموعات تعمل في أربع قارات، ما يشير الى وقوف قدرات دولة واحدة على الأقل خلفه، ولو انه لم يتم توجيه اتهام رسمي الى جهة محددة. بعض التحليلات أشارت الى ضلوع إيران في ذلك الهجوم التقني، الأمر الذي يعطي بعداً إقليمياً للمخاطر على الصناعة النفطية السعودية، والمواجهات بين البلدين على مختلف المستويات ليست بالأمر الجديد. ففي أواخر العام الماضي، أرسل مندوب السعودية لدى الأمم المتحدة عبد الله المعلمي، رسالة الى الأمين العام للمنظمة بان كي مون، يشير فيه الى قيام إيران باختراقات عسكرية جوياً وبحرياً فوق بعض المنشآت النفطية السعودية، وان الرياض تحتفظ بحقها في الرد.

اهتمت السعودية بقضية تأمين صناعتها النفطية منذ وقت مبكر. ووفقاً للباحث السعودي في الشؤون الأمنية، نواف عبيد، الذي عمل في عدة مواقع بحثية غربية، فإن مخاطر هجوم إرهابي على المرافق النفطية تظل «متدنية»، وذلك لأنه على مدار الساعة هناك قوات من 30 ألف رجل أمن يحرسون هذه المنشآت، الى جانب الرقابة التقنية والطائرات التي تحلّق باستمرار والمسنودة بدفاعات مضادة للطائرات. ويضيف انه منذ عامي 2003 و2004، أضيف مبلغ 750 مليون دولار الى ميزانية تأمين هذه المرافق التي تتراوح بحدود خمسة مليارات دولار سنويا.

وفي العام 2009، تقرّر تأسيس قوات خاصة بأمن المنشآت النفطية، تم اختيار عناصرها بعناية فائقة، وأوكل أمر قيادتها وقتها الى الأمير محمد بن نايف الذي كان مساعداً لوزير الداخلية وتولى مقعد الوزارة في ما بعد. وهي قوة منفصلة عن الجيش النظامي والحرس الوطني، وتعتبر قوات خاصة بتدريبها الذي يهدف الى جعلها ذات كفاءة قتالية عالية ويشمل إعدادها أيضا استخدام الليزر والقدرة على قراءة الصور الخاصة بالأقمار الصناعية وكيفية إدارة الأزمات. وتقوم شركة لوكهيد مارتين الأميركية بعمليات التدريب. والهدف أن تبلغ هذه القوة 35 ألف عنصر، وذلك عبر استكمال تأهيل ثمانية آلاف كل عام على الأقل. وتحل هذه القوة الجديدة محل الحرس القديم الخاص بشركة أرامكو وقوات الحرس الوطني التي كانت تساعد أرامكو على تأمين منشآتها النفطية.

ولكن السؤال هل تستطيع كل تقنيات العالم من منع وقوع هجوم من قاذفة صواريخ محلية الصنع، بالقرب من المنشآت النفطية، وهل نجحت كل أعقد أنظمة الحماية في العالم من الحؤول دون سقوط صواريخ محلية الصنع انطلقت من قطاع غزة وأرغمت عشرات الآف من الاسرائيليين على النزول الى الملاجئ وتالياً دفعت الحكومة الاسرائيلية الى طلب هدنة عاجلة بعد أن أحدثت موجات الصواريخ ما يشبه توازن رعب مع خامس أقوى دولة في العالم عسكرياً.

في ضوء ذلك، ستظل الصناعة النفطية جاذبة للاستثمارات، رغم المخاطر السياسية والأمنية التي تحيط بها. وكونها في مناطق نائية تجعل من توفير الحماية لها كل وقت أمراً صعباً، لأنها ببساطة تنطبق عليها القاعدة الاقتصادية الذهبية القائلة انه بقدر المخاطر تكون العوائد. وكلما كانت المخاطر عالية جاءت العائدات مرتفعة، وتستمر الشركات في العمل. ولهذا، فكل ما تفعله الشركات النفطية الأجنبية العاملة في أقطار أخرى، هو توفير المزيد من التحوطات والترتيبات الأمنية، إما وحدها كما في نيجيريا مثلا، أو بإيكال الأمر لسلطات البلد المعني كما في الحالة الجزائرية، وتستمر الأمور في وتيرتها المعهودة. وعقب حادث عين أميناس الجزائري، قالت شركة بيرتامينا الإندونيسية انها ستستمر قدما في خططها بشراء حصص في ثلاثة حقول جزائرية كانت قد أكملت اتفاقيات مبدئية بشأنها مع شركة كونوكو فيليبس الأميركية العاملة هناك، وذلك بمبلغ يزيد على مليار ونصف المليار دولار. وهو ما يؤكد حقيقة تعايش الصناعة النفطية مع المهددات الأمنية. ومع انه لا يمكن الجزم بوجود تأمين كامل، ولو بطريقة شاملة، للصناعة النفطية لا يمكن اختراقه، إلا ان التنبه السعودي المبكر لهذا الجانب، واتخاذ العديد من الإجراءات بسبب حساسية وضعية السعودية كركن رئيس لصناعة النفط العالمية، قلل من المخاطر الأمنية. لكن الاحتمال يبقى قائما لجهة تنامي وتشرذم المجموعات المسلحة، وتحركها وفق أجندة محلية.

استعراض السر السيد أحمد للمخاطر الامنية التي تواجه المنشآت النفطية السعودية يلامس جانباً واحداً ذاك المتعلق بالقاعدة أو بايران، ولكن ما يلزم تناوله على أفق واسع هو ما ينجم عن انخراط السعودية في أزمات المنطقة، وردود الفعل المتوقعة من الدول والجماعات المتضررة. فهل حسب آل سعود كيف ستكون رد فعل جماعات مسلّحة غاضبة في العراق بسبب القتل والتفجير والفوضى الأمنية التي تقف وراها السعودية عبر تمويل جماعات قاعدية أو محلية..فماذا لو قررت هذه الجماعات أن تطلق صواريخ موجّهة من أقرب نقطة حدودية مع المملكة باتجاه المنشآت النفطية السعودية مثل الخفجي أو حتى من البصرة باتجاه راس تنورة، أو تنفيذ هجوم مسلح ضد ناقلات نفطية من أجل إرغام الحكومة السعودية على الكف عن التدخل في الشأن العراقي ووقف تمويل العمليات الارهابية، وماذا لو قررت جماعات يمنية مثل الحوثيين على التسلّل الى البلاد والوصول الى منشآت نفطية، وماذا لو قررت جماعات متعاطفة مع الاخوان المسلمين برد فعل انتقامي ضد دعم ال سعود لحكومة عبد الفتاح السيسي، وماذا لو نجح النظام السوري في إرسال مجموعة انتحارية الى المنشآت النفطية..وفي الحد الأدنى هل يتطلب تفجير الانابيب عملاً معقداً، فهو يجري في العراق والسودان واليمن ومصر وسوريا بصورة شبه يومية، فهل تكفي أكبر وأعقد شبكة أمان في الدنيا شر الهجوم على جسد مكشوف؟!

الصفحة السابقة