بين مسار سياسي مؤجل وانتعاش إقتصادي مؤمّل

السعودية: سباق بين إصلاح النظام وانهيار الدولة

بعد سنة يبدأ المجلس البلدي نصف المنتخب عمله بدون صلاحيات.. وبعد أربع سنوات يبدأ مجلس الشورى المعين ثلثاه بالعمل.. أما الإصلاحات الإقتصادية والإجتماعية والحريات العامة ففي رحم الغيب.

منذ الآن وحتى أربع سنوات قادمة، يمكن القول أن الإصلاحات السياسية شبه معطّلة (إن لم نقل معطّلة بالكامل).. أما أن تكون فاعلة، بحيث يكون الإنتخاب لكل أعضاء مجالس البلديات والمناطق والشورى ففي علم الله. قد يستغرق الأمر عشر أو عشرين سنة، حسب مزاج الأمراء السعوديين وتقديراتهم للأمور. وأما أن تكون هذه المجالس فاعلة وتغيّر واقع الناس المعاشي، فهي على الأرجح لن تكون قبل خمس سنوات في حال حصلت هذه المجالس على صلاحيات، وهي لم تحصل بعد على أيّ منها، سوى (مقولة) أن المواطنين، أو بعضهم على الأقل، باعتبار أن النساء سيحرمن من حق الإنتخاب الجزئي أصلاً.. أن المواطنين انتخبوا!

إذن لا يرجح أن يكون لمشوار الإصلاح السياسي بالصورة التي ظهرت علينا أي دور إيجابي ينعكس على أوضاع المواطنين المعاشية الضنكة.

لنفترض أن مسارات الإصلاح متعددة وبواباتها مختلفة. لنقل جدلاً أن الإصلاح الإجتماعي الثقافي الإقتصادي لا يتساوق بالضرورة مع الإصلاح السياسي شبه المعطل. ولنفترض أيضاً، أن مسار الإصلاح الإقتصادي سيتخذ مساره منفصلاً عن السياسي، رغم الشكوك المحيطة بذلك.. فمتى وكيف ستكون الإصلاحات الإقتصادية؟ وكم يحتاج المواطنون من وقت ليروا تغيّراً فعلياً على الأرض؟ وهل لديهم الرغبة أو حتى الإمكانية للإنتظار؟ وهل الضغوط الداخلية والخارجية تبحث عن حلول لازمة عاجلة أم أن إرجاء ذلك أمرٌ ممكن؟

الواضح أن هناك قناعة ثابتة لدى المواطن السعودي، بأن الأزمة الإقتصادية لا يمكن الخروج منها بدون حلول سياسية.. أي أن التعويل يرتكز على صلاحيات سياسية لممثلي الشعب تفرض مبدأ التوزيع العادل للثروة ومكافحة الفساد ومبدأ المحاسبة وغير ذلك. ترى الى أي حدّ يمكن للعائلة المالكة أن تتبنّى الإصلاح الإقتصادي مختارة، بدون إكراه، وبدون تنازل سياسي، أو بالأحرى بإصلاح سياسي (جزئي) مؤجل لأربع سنوات على الأقل؟ هل تستطيع العائلة المالكة أن تثبت للناس أنها ليست عقبة أمام الإصلاح الإقتصادي كونها المنتفعة والمتهمة بالفساد والإفساد، وهل تستطيع أن تثبت للشعب أن الإصلاح السياسي غير ملحّ، وأنها تستطيع وبأسرع وقت ممكن تغيير الوضع الإقتصادي والمعاشي كيما يتنازل المواطن عن بعض حقوقه السياسية، ولتثبت مرة أخرى أن لا تلازم بالضرورة بين مسار سياسي مؤجل وبين انتعاش اقتصادي مؤمّل؟!

حتى الآن، فإن كل مشاريع لجان الحكومة الإقتصادية ومجالسها العليا الإقتصادية والتخطيطية ومجالس مكافحة البطالة لم تجدِ نفعاً، لا لخلل في النظرية فحسب، بل لخلل في التطبيق أيضاً، لدرجة أن كل ما قدّمه ولي العهد وغيره لم يكن بالإمكان تفعيله فضلاً عن أن ينجح في حل المعضلة. الحكومة فشلت في حل الأزمة الإقتصادية وهي تتصاعد بحدّة جارفة معها الملايين الى مستويات متدنية من العيش والفقر والحاجة، ولا توجد أية أداة لإيقاف التدهور، رغم أن فائض الميزانية هذا العام يصل الى 112 مليار ريال! الأزمة سببها فساد في النفوس والإدارة، إنها أزمة العائلة المالكة الجشعة التي لا تستطيع ضبط أفرادها كباراً او صغاراً، والتي لا تريد أية قيود عليها في التلاعب بأموال الوطن. الأزمة الإقتصادية في السعودية هي أزمة مصطنعة.. إنها أزمة تنبت في بلد لا يشكو من السيولة! في بلد تزداد ديونه برغم الفائض في الميزانية! وفي بلد تزداد البطالة فيه بقدر ازدياد العمالة الأجنبية التي تصل الى ستة ملايين نسمة!

عجز الحكومة عن إصلاح الوضع الإقتصادي حقيقة، ولو افترضنا أنها جادّة في حلّها فهي تحتاج الى زمن ليس بالقصير.. على الأقل هي بحاجة الى عشر سنوات. وقد تبدو عشر سنوات طويلة، ولكن في المملكة لا يمكن أن تتم الحلول الراديكالية، وحتى هذه تحتاج الى زمن طويل! إذا كان مسؤول لجنة دراسة الفقر في المملكة أقرّ بأن المملكة بحاجة الى ثلاثين عاماً (لتخفيف) الفقر! فلن يكون حينئذ عشرة أعوام بعيدة عن التوقع! خاصة وأن إقناع الأمراء بالتخلي عن امتيازاتهم (بعضها بالطبع) سيكون تدريجياً، والقرارات الإقتصادية لمكافحة الفساد والبطالة بحاجة الى زمن لتفعيلها، وكذلك سياسات ضبط الإنفاق واختيار الخطط الناجعة بل وتجربتها.. كل ذلك يتطلب زمناً.

فعشر سنوات إذن ليست بالكثيرة لوضع السعودية على خط إقتصادي صحيح إذا ما بدئ بالأمر الآن، وعلى نحو من السرعة والشمولية.. وتتوازى مع هذه العشر عشرٌ أخرى ليكتمل الحد الأدنى من الإصلاح السياسي، فإننا بعبارة أخرى نطلب من المواطن الإنتظار لعشر سنوات صعبة، ولا نقول عجافاً. قد يتحملها المواطن إذا ما رأى النيّة جادّة في ذلك، وهو يلمس نتائج الإصلاح يوماً بعد آخر على شكل تحسّن في الأوضاع الخدمية وغيرها.

لكن المشكلة أن الثقة بين المواطن والحكومة معدومة. فهو لا يعتقد أنها بصدد إصلاح إقتصادي أو سياسي، وبالضرورة خدَمي. ولذا فقدرته على التحمّل بدون أن يرى مسيرة الإصلاح قد بدأت أمرٌ مشكوك فيه، ولن تكون الوعود ذات قيمة أو مصداقية. ولذلك يمكن القول بكل وضوح أن وقت الإصلاحات قد شارف على الإنتهاء، ولكنه لم ينته.. وبدأت مسيرة (إنهيار الدولة).. الدولة وإن بدَت واقفةً شامخةً فإنها إنما تقف على قواعد من الملح!

بين مسار الإصلاحات الشاملة الذي يستعجله المواطن، وبين ثورته وعنفه المترافقة مع تضعضع أجهزة الدولة وتحللها بالفساد والمحسوبية والخدمة الخاصة.. مجرد خيط رفيع. إنهما مساران يتسابقان نحو النهاية المنتظرة للدولة: الأمل بالإصلاحات ضعيف، وانتظار نتائجها على المدى البعيد غير متحمّل، يقابله اتجاه عكسي من سقوط مريع لهيبة الدولة ومشروعيتها ونزوع الى الثورة والتظاهر والعنف لا يوقفه شيء، حتى جهاز الأمن نفسه أصابته العلل شأنه شأن كل الأجهزة الحكومية الأخرى.

من يتغلب على الآخر والحال هذه؟ الشهور القليلة القادمة ستحكم على مسيرة الإصلاح وعلى حيوية الدولة.. والمؤشرات الحالية تفيد أن ما يسمى بالدولة السعودية الثالثة قد أزِف، وعلى ركاب السفينة أن يتهيّأوا لاحتمالات غرقها الوشيك.

الصفحة السابقة