الرياض وطهران..

مسافة ملتهبة على طول محورين

محمد فلالي

(رأس الأفعى) التي حرّض الملك عبد الله الأميركيين على قطعه، بحسب وثائق ويكيليكس، يطل هذه المرة بملء إرادة الملك نفسه، الذي وجّه دعوة الى من يرمز إليه، أي الرئيس الايراني الشيخ حسن روحاني..

بدت البراغماتية السياسية واضحة في سلوك الملك عبد الله مع أول مؤشر على تقارب أميركي إيراني، الأمر الذي عنى استدارة سريعة نحو الدبلوماسية بدلاً من القطيعة والحرب، الرهان الذي حمله بندر بن سلطان على عاتقه منذ توليه منصب رئيس الاستخبارات العامة..

نجحت الدبلوماسية الايرانية في إقناع خصومها الاميركيين والاوروبيين بأنها اللاعب الأشد تأثيراً في منطقة الخليج، وأنها قادرة على صنع معادلات وتغييرها أيضاً، وعليهم التعامل مع ايران بكونها قوة إقليمية فاعلة لا يمكن تجاوزها. في الوقت نفسه، بدا من تجاوز واشنطن لحليفها السعودي في موضوع التسوية الكيماوية مع الروس، بالتنسيق مع الايراني أن هذا الحليف لا يمكن أن يحظى بالأهمية الاستثنائية التي كان يتوقع أن ينالها في موضوعات ذات حساسية بالغة، أو أنها ترتبط بترتيبات استراتيجية في منطقة حيوية كالشرق الأوسط..

كانت السعودية في حال حذر دائم حيال أي تقارب أميركي إيراني، ولطالما سعت الى إبقاء العلاقة في حال توتر دائم لأن ذلك يبقيها مطمئنة. ومن حسن الصدف أو الحظ أن يكون الموقف السعودي متطابقاً مع نظيره الاسرائيلي، ولذلك لا غرابة أن تضع السعودية ثقلها على عاتق نتنياهو في تخريب التقارب الاميركي الايراني، وأن يزور الأمير بندر بن سلطان تل أبيب لتنسيق المواقف السعودية الإسرائيلية قبل سفر نتنياهو الى نيويورك أواخر أيلول الماضي لإلقاء كلمته أمام الجمعية العامة للأمم المتحدة وأن يخصصها لحملة شرسة ضد إيران وضد الرئيس حسن روحاني على وجه الخصوص..

العلاقة مع طهران بالنسبة للرياض مكلفة، لا لأن الأخيرة بريئة في أهدافها في أي علاقة مع ايران، فالسعودية اختارت ومن طرف واحد أن تصادم إيران منذ نجاح ثورتها العام 1979، وتقديم الدعم المفتوح لنظام صدام حسين بالمال والسلاح والتسهيلات بأشكالها المتنوعة في حرب الثمان سنوات مع ايران في الفترة ما بين 1980 ـ 1988. طويت صفحة الحرب بكل مآسيها التي لا يزال العراق وايران يدفع أثمانها الباهظة، ولكن لم تكف الرياض عن استعمال كل إمكانياتها لمنع ايران من أن تحقق نفوذاً ودوراً إقليمياً هاماً.

وحتى في موضوع أمن الخليج، رفضت الرياض مقترحاً إيران بإقامة نظام أمن خليجي يقوم على تعاون وتنسيق بين الدول المطلة على الخليج، والخوف دائماً كان هو كسر تفوّق السعودية داخل مجلس التعاون الخليجي..كما رفضت كل صيغ التعاون المقترحة في مجال النفط والطاقة النووية والحج والامن والتعليم والاقتصاد، والسبب ببساطة كونها ضعيفة أمام ايران التي تتقدم بخطى ثابتة وتحقق ازدهاراً لافتاً في المجالات كافة، وترى بأن لا مجال أمامها لاخفاء ضعفها الا بالانكفاء على نفسها والاقتصار على منطقة دول مجلس التعاون الخليجي..أي أن تكون قوية على ضعفاء..ولا يعني ذلك تبرئة إيران في علاقتها مع السعودية أو غيرها، فهي دولة لديها مشروع، ولديها طموح اقليمي لا يخفى من خلاله نفوذها في العراق ولبنان وفلسطين وغيرها..

على أية حال، فإن فترة الازدهار في العلاقة بين طهران والرياض لم تدم طويلاً، وأن القناة الوحيدة بينهما اقتصرت على رئيس مجلس تشخيص مصلحة النظام هاشمي رفسنجاني والملك عبد الله، وهي علاقة أخذت طابعاً شخصياً وعائلياً الى حد ما، وقد أفاد الرئيس الايراني الأسبق محمد خاتمي من تلك العلاقة لجهة تطويرها في مجالات سياسية واقتصادية وإلى حد ما أمنية، وهي بالمناسبة كانت أيضاً فترة انفتاح غربي على ايران، وهذا ربما ما دفع الرياض لأن تستعد لجولة جديدة من علاقات مستقرة نسبياً مع طهران في عهد شخصية منفتحة ومعتدلة مثل الشيخ حسن روحاني، المصنّف سياسياً على الخط الاصلاحي..

مهّد روحاني لتلك العلاقة قبل حتى فوزه بالانتخابات الرئاسية في ايران، ووعد بتحسين العلاقة مع الرياض، وربما وصلت رسائل عن طريق الشيخ رفسنجاني الى الملك عبد الله بأن روحاني سوف يفتح صفحة جديدة مع الرياض، مع أن الأخيرة التزمت الصمت ولم تبد أي رد فعل مبالغ حيال ما يمكن أن تسفر عنه الانتخابات بل تعاطت بقدر من الاهمال، ربما بانتظار حسم النتائج، والرسائل المعلنة والسرية للرئيس الجديد.

ولكن، مهما بدت أجواء التقارب بين طهران والرياض، فإن الاخيرة تبقى أمينة على تمذهبها، فهي لن تنظر الى ايران الا من منظار سني ـ شيعي، ولا نتوقع أن تصل العلاقة بينهما الى مستوى التحالف أو الشراكة الاستراتيجية، فالرياض أقرب الى واشنطن من طهران حين يأتي الكلام عن علاقة استراتيجية، فالعامل المذهبي يبقى موجّهاً فعالاً في السياسة الخارجية السعودية...

بعد أيام من الصمت حيال أجواء التقارب الاميركي الايراني في نيويورك، واللقاءات بين المسؤولين الايرانيين ونظرائهم الاوروبيين، صدر أول تصريح رسمي سعودي في 4 أكتوبر الجاري رحّب فيه بما وصفه بالتصريحات (الانفتاحية) لإيران على دول الخليج. كان تصريحاً موزوناً بدقة، أراد منه إيصال رسالة ترحيب مشروط. فهو يريد القول بأن الترحيب لا يتجاوز حد تصريحات روحاني وليس أفعاله. وأوضح سعود ذلك بما نصّه (لقد سمعنا النغمة الإيرانية الجديدة في الحديث، وإبداء الرغبة في تحسين العلاقات الإيرانية مع دول الجوار وفي الإطار العالمي، ونرحب بهذا التوجه كل الترحيب، ولكن العبرة في الإجراء، والأثر العملي لهذا التوجه. فإذا ترجم القول إلى عمل فستتطور الأمور إلى الأفضل، أما إذا لم يترجم إلى عمل فسيبقى حديثاً على الهواء ويذهب تأثيره).

في مقالته حول مآل العلاقات السعودية الايرانية، كتب طارق ترشيشي في صحيفة (الجمهورية) في 28 أيلول (سبتمبر) الماضي، يلفت الى توقعات المراقبين من حيث أن هناك من يرى بأن هذه العلاقات ستستمر في توترها وتصاعدها حتى يُحسم الأمر لأحد الطرفين في المنطقة كلها، فيما يعتقد البعض الآخر انّ هذه العلاقات ماضية الى التطبيع بين الرياض وطهران والتكيّف مع المعطيات الإقليمية والدولية الجديدة، وهذا التوقع كان قائماً على أساس الزيارة المؤجّلة للشيخ روحاني الى الرياض.

بالنسبة للفريق المتشائم، فإنه يستند الى ما بين البلدين من خلافات عقائدية واستراتيجية، وحتى شخصية على مستوى القيادة، وانّ الرياض لن تهادن طهران، كما انّ طهران ليست مستعدّة لتقديم أيّ تنازلات للرياض، وهي التي لم تقدم أيّ تنازل لواشنطن نفسها.

ويعتقد هؤلاء المتشائمون انّ النزاع بين الرياض وطهران هو نزاع على زعامة المنطقة، تماماً كما كان النزاع يوماً بين الرياض والقاهرة في زمن الرئيس الراحل جمال عبد الناصر، وهو نزاع أنتج يومها حرباً مريرة استمرت لسنوات على أرض اليمن بعد الإنقلاب الذي قاده المشير عبدالله السلال عام 1962 وأطاح حاكم اليمن الإمام محمد البدر حميد الدين.

أما الفريق المتفاءل فله معطيات أخرى، ويرى بأن العلاقات بين البلدين محكومة بالتطبيع والتفاهم، لأنّ فيهما قيادات عقلانية تدرك مخاطر الإشتباك المباشر بين هاتين الدولتين الكبيرتين الرابضتين على طرفَي الخليج، وأنّ قيادتَي البلدين تدركان أنّ في يد كلّ منهما من الأوراق ما يمكنها من إلحاق أذىً بالغاً بالطرف الآخر. فالرياض بما لها من ثقل في العالم الإسلامي تستطيع محاصرة طهران مذهبياً وسط مئات الملايين من المسلمين السنّة من جاكرتا حتى طنجة، وتدرك حساسية الجمهورية الإسلامية الإيرانية تجاه هذا الأمر، وهي التي نظرت إلى نفسها بعد الثورة التي قادها الإمام الخميني على أنها مؤهلة لقيادة المسلمين جميعاً. وطهران تدرك أنّ الرياض أيضاً قادرة على إنهاك حلفائها في بلاد الشام، وهي تحاول ذلك فعلاً في سوريا وتقف وراء خصوم «حزب الله» في لبنان، ناهيك عما تمتلكه اليوم من نفوذ في مصر بعد سقوط حكم «الإخوان المسلمين»، وهو ما يهدّد حلم طهران التاريخي بإقامة أفضل العلاقات مع مصر.

وبحسب ترشيشي أيضاً، فإن الرياض تدرك أنها تملك من القدرات الإقتصادية ما يمكن أن يؤثّر في عزل طهران عن دول فقيرة متعدّدة في العالم، ناهيك بالدول الغنيّة نفسها، ولكنها في المقابل تدرك أنّ إيران تؤثر بمقدار كبير في الأوضاع الداخلية والحدودية للمملكة والدول الشريكة معها في مجلس التعاون الخليجي، فإيران قادرة على التعاطي مع معارضي البحرين ومع أهالي المنطقة الشرقية في السعودية، ومع الحوثيين في شمال اليمن، ناهيك عن قدرتها على نسج «تفاهم إستراتيجي» مع إسلاميين سعوديين بارزين متأثرين بـ»الإخوان المسلمين» الذين ما زالت طهران حريصة على إبقاء «شعرة معاوية» معهم على رغم كلّ ما كالوه لها من إتهامات.

وتدرك الرياض أيضاً أنّ طهران باتت ذات نفوذ متمادٍ يمتد من لبنان وفلسطين إلى سوريا والعراق وصولاً إلى أفغانستان وباكستان، فضلاً عن كون إيران هي العضو غير المُعلَن في مجموعة دول «البريكس» التي تضم، إلى جانب روسيا والصين، كلاً من البرازيل والهند وجنوب إفريقيا، وبالإضافة الى موقعها في دول أميركا الجنوبية، ولا سيما منها فنزويلا الغنية بالنفط.

كذلك تدرك الرياض أنّ إيران هي من الدول الصاعدة على الصعيدين الإقليمي والدولي، بل يمكن القول إنها أصبحت دولة إقليمية عظمى يصعب إنجاز الحلول في المنطقة من دونها، وهذا ما يفسّر الخطاب الإيجابي تجاه إيران الذي ألقاه الرئيس الأميركي باراك أوباما مِن على منبر الأمم المتحدة، ناهيك عن تصريحات وزير خارجيته جون كيري نفسه الذي تحدث عن استعداد بلاده لرفع العقوبات عن إيران سريعاً، إذا ما تجاوبت مع معالجات الملف النووي في اجتماعات ستحضرها طهران في أواسط شهر أكتوبر الجاري.

وتدرك الرياض أيضاً وأيضاً أنّ النفوذ الإيراني في بلاد الشام، وإن كان يواجه بعض الصعوبات، فإنّ الامور تسير في إتجاه ترسيخ قوّة حلفاء طهران في هذه الدول.

ويؤكّد المتفائلون، بحسب ترشيشي، بقرب حصول إنفراج في العلاقات السعودية ـ الإيرانية، لأنّ ما يجمع بين البلدين من مصالح مشتركة وعقيدة واحدة، وما يهدّدهما من مخاطر مشتركة أيضاً، سيكون عاملاً مهماً في ترجيح كفة المعتدلين في البلدين والذين يتطلعون إلى خروج العلاقات بينهما من حال الإحتقان والتوتر التي تضرّ بهما معاً. ويضيف المتفائلون، أنّ جزءاً كبيراً من تشدّد الرياض إزاء طهران لم يكن عقائدياً، سببه في الدرجة الاولى السياسة الأميركية من أجل الضغط على إيران سياسياً وإقتصادياً، وحتى أمنياً، ما دام خيار الحرب ضدّ طهران غير ممكن.

وكما أسلفنا في بداية المقال، فإن ترشيشي يميل الى القناعة نفسها بأنه بمقدار ما تنفرج العلاقات الاميركية ـ الايرانية، ستتحسن العلاقات بين الرياض وطهران المدعوّتين إلى حوار هادف بينهما يسعى الى حلّ كلّ المشكلات المطروحة في المنطقة، ويوجد نواة نفطية صلبة لا يمكن معها الضغط نفطياً على طهران أو إبتزاز الرياض في نفطها ومواردها. وبلا شك، مع هذا الإنفراج المرتقب، ستشهد المنطقة إنفراجات متعدّدة، خصوصاً في لبنان الذي بات الطرفان السعودي والإيراني يملكان تأثيراً كبيراً فيه.

الصفحة السابقة