من حقّها أن تقلق..

السعودية.. قراءة في التوجهات الإقليمية والدولية


الرياض تستبعد أي بديل لا تكون المواجهة مع طهران ركناً أساسياً فيه، فمردودات الصراع الغربي مع ايران يريحها ويحفظ مكانتها ودورها الإقليمي، في حين أن اي اتفاق غربي ايراني سيؤدي الى تهميشها
استراتيجياً وبحيث تصبح طهران لا الرياض ولا تل أبيب مركز الشرق الأوسط الجديد


محمد شمس

لم يكن مستغرباً أن تقلق الرياض من التقارب الإيراني الامريكي، أو على الأقل احتماليات وقوعه، شأنها في ذلك شأن تل أبيب نفسها. حيث تبدو العاصمتان الحليفتان لواشنطن في أوج غضبهما وانزعاجهما وكأن خسارة استراتيجية صارت محققة الوقوع.

الأمر كذلك حقاً. والعمل جارٍ على إفشال أي تقارب كان، مهما قدّمت طهران من تنازلات. ذلك أن العطف والدعم الدولي ـ الغربي تحديداً ـ على الدولتين، ومسامحتهما بشأن أخطائهما وخروقاتهما السياسية وفي مجال حقوق الإنسان، والدفاع عنهما وتغطيتهما سياسيا واعلاميا وعسكرياً حتى، انما جاء في جزء كبير منه بحجّة التهديد الإيراني، وفي قمّة التهديد كان: الموضوع النووي، واحتمالية امتلاك طهران لسلاح نووي.

بديهي.. فإنه كان من المتوقع أن تشعر الرياض وتل أبيب بالسرور من التقارب بين واشنطن وطهران، إذ يفترض ـ إن كان الخطر النووي الإيراني حقيقياً، مع ان اسرائيل لديها قنابل نووية وهي الوحيدة في الشرق الأوسط التي تمتلكها ـ أن تكون الطموحات الإيرانية قد حصرت في المجال النووي السلمي تحت اشراف وتفتيش دوليين، وبالتالي لا داعي للقلق من عسكرة البرنامج النووي، او لا قبل لإيران بذلك في حال تم التوصل الى أي اتفاق بينها وواشنطن. وهنا تسقط الحجّة السعودية تحديداً والقائلة بأن إيران تريد أن تأخذ منطقة الخليج (رهينة) تحت ضغط سلاحها النووي، وعليه فقد سعت الرياض لامتلاك السلاح النووي من الباكستان.

المسألة الأخرى التي يفترض أن تريح السعوديين والصهاينة معاً من الإتفاق المحتمل بين طهران وواشنطن، تتعلق بحقيقة أن التقارب بين الأخيرتين يعني ـ في حال تطور سريعاً وهو غير محتمل ـ الإنتماء الى حلف واحد، ولطالما زعمت وسائل اعلام الرياض بأن طهران في تصرفاته (عميلة لواشنطن) في عملية تضليل يكشف عنها نحو اربعة عقود من الصراع الشديد، والحصار الإقتصادي المتواصل، والضغط العسكري عبر التهديدات.

لكن الرياض وتل أبيب اللتان تبدوان اليوم أكبر الخاسرين من عملية التقارب، واللتان تسعيان بجهد مشترك لتخريب اي اتفاق قادم.. لهما حساباتهما وقراءاتهما الاستراتيجية.

لا يتعلّق الأمر بخطر وجودي يهدد اسرائيل والسعودية، وإن كان هذا محتملاً في المدى البعيد، بل يتعلق بصورة محددة (بالدور والمكانة) المتضائلة لهما في رسم خارطة السياسة في الشرق الأوسط. فبالنسبة لهما فإن مردودات الصراع الغربي مع ايران يريحهما ويحفظ مكانتهما ودورهما الإقليمي، في حين أن اي اتفاق غربي ايراني سيؤدي الى فكّ القيود الإقتصادية والسياسية عن ايران لتتوسع في نفوذها على حسابهما وبالتالي تهميشهما واضعافهما على المستوى الإستراتيجي، وبحيث تصبح طهران لا الرياض ولا تل أبيب مركز الشرق الأوسط الجديد، خاصة ان كانت واشنطن قد قرّرت التخفّف من اعبائها في الشرق الأوسط والتوجّه الى حيث الصراع الدولي المحتدم ـ الإقتصادي والسياسي ـ في منطقة جنوب شرق آسيا.

رهان تل ابيب والرياض اليوم قائم على إفشال الإتفاق، عبر لوبي البلدين في واشنطن، وتحريك أعضاء الكونغرس، ومدراء الشركات الأميركية الكبرى المنتفعة في السعودية والتي تقوم بمئات المناقصات وتكسب عشرات المليارات من الدولارات.

لا يبدو أن الرياض ـ على الأقل ـ لديها خطة بديلة في حال فشل الرهان هذا، لا لأن البدائل قليلة، ولكن الرياض تستبعد أي بديل لا تكون المواجهة مع طهران ركناً أساسياً فيه. هنا تتضاءل الخيارات، فالعالم ـ حتى مع فشل حل الملف النووي الإيراني عبر المفاوضات هذه ـ لا يتجه الى الحرب، ما يعني أن الرياض مصرّة على مواصلة السياسة القديمة منذ نحو أربعة عقود، ولا تريد تغييرها، رغم التحولات الكبرى في العالم، وفي اولويات السياسة الأميركية نفسها.

ثلاث دوائر تحوم حولها السياسة السعودية، وكلّها مسخّرة لإحداث اختراق سياسي على الصعيد الإقليمي يعيد للرياض أَلَقها الماضي: الدائرة المحلية؛ والدائرة الإقليمية؛ والدائرة الدولية. هذه الدوائر سُخّرت لعقود من أجل المواجهة مع ما تسميه تمدداً إيرانياً، وقد كانت مواجهة حادّة عنيفة، استخدمت فيها كل الأسلحة السياسية والطائفية والإقتصادية والاستخباراتية والعسكرية والإرهابية (القاعدة). الرياض خسرت خلال المواجهة، ولكنها لاتزال مصرّة على استعادة ما خسرته عبر القوة الأمريكية وحتى الإسرائيلية (هجوم عسكري على ايران).

لكن الرياض التي شعرت في أغسطس الماضي بأنها قاب قوسين أو أدنى من استعادة مكانتها، عبر حرب أمريكية ضد سوريا، تلقت ـ وتل ابيب ـ صفعة حين استبعد ذلك الخيار؛ وما كادت تستفيق منها إلا وصفعة أشدّ وأعظم أخرجتها ـ وتل أبيب أيضاً ـ عن اتزانهما، حين بدأ الحديث عن مفاوضات ومقاربات مختلفة للبرنامج النووي الإيراني. ما عنى للرياض أنها ليست بصدد حصاد، بل خسارة مضاعفة، إن تمّ اطلاق سراح المارد الإيراني.

ابتسامات في جنيف تسبب النكد في الرياض

الدائرة المحلية

الدائرة المحلية في السعودية مركّبة على أوضاع إقليمية مضطربة. فإذا كان من الصحيح أن السياسة الخارجية لأي بلد إنما هي انعكاس لسياسته الداخلية، فإن من الصحيح القول أيضاً بأن الشأن الخارجي قد أُقحم ـ أكثر من أيّ بلد آخر في المنطقة ـ في الشأن المحلي السعودي، حتى لكأنك تشعر أن موضوعات الخارج أصبحت شأناً داخلياً سعودياً (شعبياً ورسمياً).

الصراع مع الأسد، ومع طهران، ومع الحكم المركزي في بغداد، ومع حزب الله في لبنان، ومع الإخوان المسلمين في مصر وغيرها.. هذه موضوعات توفّر المشروعية للنظام، على الأقل بين أطياف معيّنة في المجتمع، وإن كانت قد جلبت للنظام نفسه عداء فئات أخرى. بافتعال هذه الصراعات، تمّ نقل المعركة من(الداخل) الى (الخارج) خاصة في السنوات الأخيرة، بغرض قطع التأثيرات الممكنة لما سُمّي بالربيع العربي على الوضع الداخلي.

الرياض لا تريد أن تتنازل سياسياً لشعبها، وهي غير قادرة ـ ببنية النظام الحالية ـ على توفير الحدود الدنيا من العيش الكريم لشعبها، بغض النظر عن الفائض المالي الهائل الذي تتلقاه؛ وحين سدّت نافذة التغيير السياسي بالقمع، أي بالعصا دون الجزرة، فإنها فتحت شهيته على معركة أخرى، في العراق اولاً ثم في سوريا ثم في مصر ضد الإخوان، اضافة الى المعارك الأخرى المستمرة فيها.

بحلحلة الموضوع السوري ولو جزئياً عبر جنيف ـ ٢، وفكّ عُقَد الملف النووي الإيراني، وعدم استقرار الوضع في مصر، يعود الإهتمام الشعبي الى الوضع الداخلي بصورة أكبر. اذا حدث ذلك.. ستزيد خسائر النظام السياسية الخارجية من أزمته الداخلية، إذ يتوقع لها ان تنعكس بشكل كبير نفسياً وعملياً على المواطنين ومن ثمّ على الموقف منه. ولذا، فإن الرياض التي تباهي بمحاربة الاخوان في مصر، وبمواجهة ايران وحتى تركيا، وبدعم التشدد في سوريا، ودعم الإرهاب في العراق، وتقف اما أي حل او تسوية في البحرين، وحتى في اليمن إلا ان تكون وفق رؤيتها.. كل هذا، سيترجم عملياً على شكل انكفاء داخلي، وتبصير الجمهور بحقيقة هذا النظام الفاشل خارجياً وداخلياً، ما يزيد من أزمة شرعيته.

لقد ذهب النظام بالجمهور المُسعود ـ أو بعضه على الأقل ـ الى الحدود القصوى في التطرّف، بحيث أصبح أمر تعديل سياسته الخارجية محفوفاً بسخط المشبعين بالتطرف الفكري والديني والذهني حتى. ويعتقد الأمراء بأن تطبيع الرياض لعلاقاتها مع طهران أو بغداد او سوري او حتى مع روسيا سيكون له انعكاسات سلبية على النظام داخلياً، تزيد من معارضته، وتتظافر مع الاعتراض على سياساته المحلية السياسية والتنموية.

الدائرة الإقليمية

قد يبدو التصلّب السعودي في الملفات الخارجية الى حدّ الجنون، نابعاً من القراءة السياسية الخاطئة. وهذا صحيح، ولكن يحتمل أيضاً أن سببه الآخر يعود بشكل محدّد الى قلّة الخيارات التي تتواءم مع متطلبات المرحلة والتحول الذي لايزال متسارعاً في الوضعين الإقليمي والدولي. قلّة الخيارات يعود بدرجة كبيرة الى حصر الرياض نفسها في تكتيكات معيّنة، والنظر الى ذاتها كقوة غير قابلة للإنهزام بصورة مبالغة فيها، ووضع أسقف عليا لسياساتها بحيث صار صعباً التراجع عنه (تكويعاً) بين ليلة وضحاها.

بلمحة عامة لخارطة التحالفات السعودية الإقليمية، نرى ان الرياض ـ وبسبب تبنّيها سياسة غير وسطية تقوم على الشراسة في الخصومة ـ قد خسرت موقعها كزعيمة للعالم العربي، حيث لم يتبق لها من الحلفاء سوى (بعض) دول الخليج، والى حدّ ما مصر السيسي، ومملكتا الأردن والمغرب. الدول الرئيسية كالعراق وسوريا والجزائر، في عداء مباشر مع الرياض، هذا غير السودان وتونس. الرأي العام العربي بمجمله أكثر عداءً اليوم للرياض مما كان عليه قبل بضع سنوات، ولاتزال الرياض تهدر مكانته في الصراعات المحلية العربية.

على المستوى الإقليمي غير العربي، تحاول الرياض ان تتمسك بموقعها المؤثر، ولكنها خسرت العلاقة مع ايران ومع تركيا كلاعبين رئيسيين، بل ويمكن القول انها لم تعر بالاً لأثيوبيا والقرن الأفريقي، ولعلّ تداعيات العمالة الأثيوبية زادت من خسائرها. لم يبق من حلفاء أقوياء سوى مصر الضعيفة اليوم وغير المستقرة، ومثلها بصورة أشد، الباكستان التي استثمرت الرياض فيها مالياً وأيديولوجيا وسياسياً وربما حتى عسكريا منذ نحو ستة عقود. لكن الباكستان تحتاج الى من يعينها وليس بمقدورها التفرغ للخارج بقدر ما هي مهتمة بالداخل، وهذا هو حال مصر أيضاً، التي تبدو في زواج عرفي مؤقت مع الرياض.

مَنْ بقيَ لم تناصبه الرياض العداء؟

وهكذا لم تعد الرياض لاعباً إقليمياً مؤثراً، وفي كل التسويات القادمة تبدو مستبعدة من حليفها الأمريكي، فمكانة الرياض تتضاءل بشدّة، وكلّ حرصها اليوم هو أن لا تخسر المزيد من الأرض والنفوذ خاصة في اليمن والبحرين.

من المدهش أن عداء السعودية لتركيا يتصاعد، وهي لم تقبل بدور تركي في المنطقة ما لم تحدد الرياض وجهته المعادية لإيران، وهو ما لم تقبل به تركيا التي تميل اليوم الى تغيير سياستها والإنكفاء على نفسها بعد ان تلقت ضربة لمشروعها السياسي في سوريا والى حدّ ما في العراق.

من الناحية النظرية، لا يمكن للرياض ان تكسب مكانتها الإقليمية إلا بمشروع واضح يقوم على واحد من أمرين: إما أنها تنتزع دورها بكسر الدولتين ايران وتركيا منفردتين، وهو أمرٌ مستحيل؛ وإما أن تتفاهم مع هاتين القوتين على ملفات الشرق الأوسط، ويشترك معها أيضاً مصر في ذلك. وتخشى الرياض ان تنخرط مصر في هذا المشروع وتهمّش الدور السعودي أكثر فأكثر.

لكن الرياض مصرّة على مشروع العداء بمناسبة او بدون لتركيا، وهي ليست منافساً كفؤاً لها، فضلا عن ان تكسر العمود الفقري للنفوذ الإيراني في أي دولة أخرى. والحل: الرياض ماضية في مشروع المواجهة بلا ظهر عربي (مصري تحديداً)، وهي تحاول توثيق خطواتها وتنسيقها مع الخطوات الإسرائيلية المعادية لإيران وربما لتركيا، نظراً للغايات المشتركة. وهذا الرهان يبقى رهان الخاسرين الآن أو في المستقبل.

لهذا يرجّح أن انكسار السياسة الخارجية السعودية في ظل هذا التحليل سيكون كارثياً، وإن عدم الإعتماد على سياسات التسوية والمصالحة مع الدول الإقليمية الكبرى، سيؤدي بها الى خسائر كبيرة في فترة زمنية محدودة، بما فيها خسارتها في البحرين واليمن، وأيضاً لبنان.

الدائرة الدولية

رهان الرياض أزلي على أمريكا. فرحت بسقوط الإتحاد السوفياتي، وقال مسؤولوها: (لقد انتصرنا). المحور الأمريكي عانى خلال العقدين الماضيين مصاعب جمّة، والآن هناك قوى دولية جديدة ناهضة، وتطورات إقتصادية ملفتة في جوانب انتاج النفط، ما يجعل من مكانة الرياض في الإستراتيجية الأميركية تتضاءل بنسبة غير قليلة.

وكما الرهان على أمريكا وعبرها لرسم سياسة العالم (وان كانت الرياض تابعاً)، فهناك رهان على ديمومة المكانة الإقتصادية اعتماداً على النفط وقدرتها الإنتاجية العالية منه. الآن الظروف تغيرت، لكن الرياض ـ لحماقتها ربما ـ لم تتغير.

الرياض التي فاخرت ـ كما فعل تركي الفيصل ـ بأنها شاركت في حرب فيتنام الى جانب امريكا؛ وشاركت في مكافحة الشيوعية حتى في اوروبا الغربية (فرنسا وإيطاليا)، وساهمت في ضرب القوى الثورية في امريكا اللاتينية كما دعم ثوار الكونترا.. هذه الرياض لم تعد اليوم قادرة على تقديم الشيء الكثير لواشنطن المشغولة بتنافسيات ضخمة غيرت عالم القطب الأوحد الى عالم متعدد الأقطاب.

لا تفهم الرياض هذا، ولا تريد ان تفهم. ليس لديها قراءة للمستقبل، وتعمي عينيها عن قراءة الوقائع حتى تلك التي تأتي من أكاديميين سعوديين ما فتئوا يشيرون الى التغييرات الدولية والإقليمية المكثّفة.

الرياض الغاضبة من واشنطن، ان كان بشأن الموضوع العراقي او السوري أو الإيراني أو غيرها.. تبدو قليلة الحيلة، فلا هي تستطيع ان تغيّر وجهته باتجاه الشرق (روسيا تحديداً) ولو من أجل تحصيل اوراق ضغط تحسّن من وضع علاقاتها مع واشنطن، كما تفعل مصر اليوم.. ولا الرياض قادرة على الاستقلال بقرارها السياسي والعسكري والاقتصادي. الحل الوحيد الذي وجدته هو التنسيق أكثر مع فرنسا، الدولة التي قبلت ببيع المواقف من أجل عقود وعطاءات سعودية، تسليحية وإنشائية. منذ سبعة أشهر تقريباً، فإن التنسيق الفرنسي السعودي يتصاعد بشأن الموضوعين السوري والإيراني، ولكن في نهاية المطاف: اذا كانت باريس قد تراجعت بشأن الضربة العسكرية لدمشق بعد ان تراجعت قبلها واشنطن، فإن باريس نفسها لا تستطيع ان تواجه الولايات المتحدة في الموضوع النووي الايراني. حسب باريس ان تبيّن للسعودية أنها حاولت تخريب الإتفاق، وانها نجحت في التأجيل، ولكنها لن تنجح في النهاية. وعليه فإن فرنسا ليست البديل الأمثل للرياض لتأخذ مقعد واشنطن. ولا هي في حقيقة الأمر قادرة على أخذ ذلك الكرسي. إن سياسة شراء المواقف الدولية الذي اعتادته الرياض يؤدي في النهاية الى دفع الأثمان دون ان تحصل على تغيير حقيقي في المنطقة يكون في صالحها.

امام الرياض ـ وفي أكثر الأحوال ـ عقد من السنين، لاستثمار مخزونها وانتاجها النفطي إن كان في التنمية المحلية او في السياسة الإقليمية والدولية. ما بعد هذا، سيكون هناك منتجون آخرون اقليمياً لديهم مخزونات هائلة من النفط والغاز، وتحديداً العراق وايران، بل وحتى سوريا نفسها ولبنان، فضلاً عن المخزونات الهائلة الأميركية من النفط الصخري، ومخزونات الغاز البريطانية، وكذلك في استراليا ومدغشقر وغيرها.

النفط لن يكون الورقة التي تجعل للرياض مكانتها في المستقبل إلا بنحو جزئي جداً. ومشكلتها انها لا تستطيع ان تقدّم للعالم شيئاً آخر، لا مخترعات ولا نموذج صالح للحكم الرشيد، ولا الدولة ذات التنمية الصحيحة، ولا أي شيء آخر، اللهم إلا نموذج تصدير العنف والفكر القاعدي. وهذا المنتج يحتاج الى فتح أسواق جديدة، حيث سوق هذا الفكر يكاد يطبق على اصحابه في أكثر من دولة كادت او تحولت بالفعل الى دولة فاشلة: (اليمن والباكستان). العالم يستعدّ تدريجيا للتحالف ضد القاعدة وفكرها، وهو ذات الفكر المنتج سعودياً. لن يخدم هذا الرياض كثيراً، ومصانع التطرف لديها ستُهاجم وتهدّد من أجل إغلاقها بعد ان أصابت المنطقة بأضرار فادحة.

اسرائيل والسعودية: اكبر الخاسرين

ماذا ستخسر الرياض؟

ليست الخسارة السعودية من احتمالية حل الملف الإيراني النووي وربما اعادة العلاقات الأميركية الإيرانية بعد ٣٥ عاماً من القطيعة، غامضة وغير واضحة المعالم.

كلا.. فالرياض تدرك جيّداً أن دورها الإقليمي يتعرّض لتهديد شديد بمجرد أن يحلّ الإيرانيون مسألة ملفّهم النووي مع الغرب، وربما يجرون تسويات بشأن ملفات إقليمية في أفغانستان والعراق تحرّر الأميركيين من الإنسحاب التدريجي من الخليج والشرق الأوسط عامّة. وإذا كانت الرياض قد تلّقت خسائر فادحة في ظروف حصار سياسي واقتصادي وتهديدات عسكرية لإيران على يد جناح الممانعة ـ كما يُسمّى.. فكيف بها بعد أن تتفكّك بعض القيود والأغلال هذه؟ هذا ما يقلق الرياض حقاً.

أزمة الرياض لا تتعلّق بفهمه (الصحيح) لمآلات العلاقات الإيرانية الغربية، إذ ستأخذ ايران دفّة القيادة الإقليمية على حساب السعودية، التي يفترض بها أن تكون شريكاً، ولكنها لا تريد إلا أن تكون الرأس الأول، بدون مؤهلات وبدون قوة حقيقية لا عسكرية ولا غيرها.

إنما أزمة الرياض الحقيقية مرتبطة ـ إذن ـ بكيفية معالجة تداعيات ما بعد التغيير الدولي والإقليمي الهائل والذي سيعكس آثاره على المنطقة بشكل عام.

ماذا ستخسر الرياض؟ بالطبع ـ إن استمرت في سياستها التصادمية هذه ـ فإنها ستخسر المزيد من مكانتها ونفوذها حتى على مستوى دول الخليج والجزيرة العربية التي ستنقاد مجبرة ام مخيّرة الى مركز الثقل الإيراني في الخليج. إن لم تصل الرياض الى تفاهم مع ايران، فإن أول التداعيات ستظهر في البحرين، واليمن، فمهما اعتبرت الرياض البلدين ضمن ما تبقى لها من حدائق خلفية، فإنها بعد تسوية الملفين السوري والإيراني تبقى وحيدة تحت الضغط ما لم تجري تسوية ما، لا تريدها الرياض اليوم، ولكنها ستضطر اليها.

سيكون الصراع بين الرياض وطهران مكلفاً جداً للأولى. حتى على مستوى أمن الرياض الإقليمي. سلطنة عمان والكويت وقطر والى حد ما الإمارات لن تجاري الرياض في صراعها، بعضها لم يفتح النار على طهران كما تحب الرياض (سلطنة عمان)، وبعضها قام بالتكويع سياسياً كما فعلت الكويت وقطر. وهذا يعني ان الرياض ستبقى وحيدة في أية معركة سياسية إقليمية.

امن الخليج الذي أزعجنا الغربيون بشأنه لعقود طويلة، وعبره جرى ابتزاز دول المنطقة بإسمه، وباسم محاربة ايران والعراق، ونُسجت السياسات (الإحتواء المزدوج مثلاً) وتحت مسميات مكافحة الدول المارقة، أو مكافحة الإرهاب.. هذا الأمن، بصيرورته الطبيعية يصل الى أنه لا يمكن تحقيقه لا عبر سياسات العمودين المتساندين، ولا عبر ابعاد العراق أو إيران كمكونين خليجيين عنه. المستفيد من أمن الخليج الجميع، ولكن الرياض لا تريد ان تكون في المرتبة الثانية كما هو حالها مع ايران الشاه، بل لا تريد في الطرف الآخر المتشاطئ مع الخليج شرقاً أن يكون له أي دور في الترتيبات. قد تجد الرياض نفسها بإمكاناتها البحرية العسكرية المتواضعة غير قادرة حتى على توفير الأمن لنفسها، فضلاً عن ان توفر الحماية لكامل الخليج. ضمن سيناريوهات السعودية: وراثة النفوذ العسكري الأميركي في البحرين، حيث قيادة اسطول اميركا الخامس. ماذا ستفعل بقاعدة بحرية مجرّدة؟ لا شيء تقريباً.

بكل الحسابات فإن الرياض مهددة حتى في أمنها الأقليمي، وليس في نفوذها فحسب.

والى أن تقرأ الكتاب من جديد، وتعيد النظر في استراتيجيتها، فإنها ذاهبة الى المجهول والتيهان.

الصفحة السابقة