الدولة الداعشية

ما يميّز تنظيم الدولة الاسلامية في العراق وبلاد الشام (داعش) عن (جبهة النصرة) أو حتى (جيش الاسلام) و(الجبهة الإسلامية) رغم وحدة الانتماء الايديولوجي (الوهابية)، ووحدة المصير والأعداء، أن (داعش) مشروع جهادي فوق قطري، بما يجعله الأقرب الى روح المشروع الوهابي لحظة دخوله حيز التنفيذ، أي القاعدة..

مهما حاولت الجهة الراعية للتنظيم التنصّل منه وإعلان البراءة من اقترافاته المشينة، فإن أيديولوجيته الوهابية القائمة على ثالوث (التكفير، والهجرة، والجهاد) تبدو راسخة في أدبيات التنظيم وسلوكه الدموي في الساحتين السورية والعراقية..

صحيح أن (داعش) يضمّ في صفوفه الفائض البشري من فلول البعث العراقي، وربما من جماعات أخرى إخونية متطرّفة، ولكن الاحتضان السعودي للتنظيم مالياً، وأيديولوجياً، وتنظيمياً، وإعلامياً، ليس خافياً، فهناك مواقع تابعة لمشايخ الصحوة تتحدث بانفتاح عن طيف التنظيمات الجهادية المحسوبة على القاعدة بما فيها (داعش) باعتباره جزءاً من منظومة عقدية وتنظيمية واحدة..

ما يلفت أن المصادمات المسلحة بين (داعش) و(جبهة النصرة) على الساحة السورية لم يغيّر من الموقف منه، حتى بعد مطالبة زعيم القاعدة أيمن الظواهري من البغدادي إخلاء الساحة للجولاني باعتباره الأمير المطلق في الشام. النائب الكويتي السابق وليد الطبطبائي وصف عناصر (داعش) بأنهم (إخواننا) وطالبهم بعدم تكفيره وأخوانه..

تعلو مقرّات (داعش) عبارات ورموز قاعدية، هي في الأصل وهابية، وإن دعوة التوحيد، وإلزام الناس بحضور المساجد وأداء صلاة الجمعة والجماعة فيها كما كان يفعل دعاة الوهابية، وإغراق المناطق الخاضعة تحت سيطرة التنظيم بالكتب السلفية الوهابية تأتي في سياق النشاط الدعوي الاعتيادي لأي جماعة تستلهم من العقيدة الوهابية فكرها، ونهجها، ورؤاها..

تكفير داعش لغيرها ليس بدعاً، فالتكفير حين يصبح سلاحاً متداولاً بين القواعد، لا يستثني أحداً، وقد ينقلب على من يحمله في أي لحظة. فمن المعروف أن داعش يكفّر كل فصائل المجلس السياسي للمقاومة العراقية والتي تضم الجيش الإسلامي في العراق، و جماعة أنصار السنة - الهيئة الشرعية، و الجبهة الإسلامية للمقاومة العراقية (جامع)، و حركة المقاومة الإسلامية (حماس - العراق)، بل ووصف داعش المجلس بالعمالة والردّة. ويواجه التنظيم انتقادات لأنه أجاز قتال الجماعات المسلّحة الجهادية بعناوين مختلفة، وقد يجيز قتالهم لأنهم يتفاوضون مع أنظمة عميلة لأمريكا بمعنى أنهم عملاء لأمريكا ومرتدون، لا سيما وأن بعض كوادر (داعش) يطلق حكم الردة على عدد من الفصائل القاعدية في سوريا، من بينها (النصرة)، و(الجبهة الاسلامية)..

يتذكَّر قادة القاعدة ما جرى في الجزائر وأفغانستان وكيف تواجهت المجموعات الجهادية ضد بعضها، حتى قيل بأن قيادة جماعة مسلحة في الجزائر بقيادة أبو عبد الرحمن أمين أقدمت على قتل الشيخ محمد السعيد غيلة مع عشرات من مرافقيه، لأنهم لم يقبلوا مناقشته، وقتلوا عدداً كبيراً من الأفغان العرب بدعوى البدعة، وقتلوا كثيراً من الجهاديين الليبيين بنفس الحجة، وبيعتهم لجماعتهم وأميرهم..

وتتكرر الحالة في العراق، ويتولى تنظيم (داعش) الآن عملية تصفية الحسابات داخل مجال القاعدة، حيث يتم قتل عناصر النصرة والجيش الاسلامي والجبهة الاسلامية بحجة أن بعض الفصائل ألبانية إرجائية، وهي رموز معروفة في التجاذب الداخلي الوهابي، وما قصة صراع أمراء الجهاد، وشرعية بيعة الأمراء من عدمها سوى إحدى العائدات العقدية للوهابية.

بايع الجولاني الظواهري، فدخل البغدادي قائد (داعش) الى سوريا وأهدر دم الجولاني، ودم مسؤوله الشرعي، السعودي الجنسية، القحطاني، ودبّر له محاولة اغتيال نجا منها وقتل فيها سعودي آخر، وزعم بأنه قتل على يد النظام السوري. سيطر البغدادي على مقرات ومستودعات الجولاني، وعين الولاة والمفتين وطلب من الاخير مبايعته وكل من رفض وقع تحت دائرة الخطر..

ممارسات ليست بعيدة عن النهج الوهابي السعودي، فمن قرأ تاريخ الدولة السعودية الوهابية في مراحلها الثلاث، لا يستغرب ما يقرأ أو يسمع أو يشاهد ما يجري على الساحتين العراقية والسورية. بمعنى آخر، ليس (داعش) نموذجاً طارئاً، أو نبتة لا أصل لها، بل هي تعكس النموذج الأصلي للتجرية الوهابية. وإن الكلام عن تأثيرات داعش على العناصر السعودية، التي تحظى بتأييد، وإعجاب لديهم لأنها تتلائم مع المنهج العقدي الذي نشأوا عليه، وسمعوا به في المساجد وحلقات الدعوة، ومراكز التعبئة..

هناك من يحاول بعد أن تمادى التنظيم في جرائمه ودخوله في حرب ضد نظرائه وحلفائه في شبكة القاعدة، أن ينسبه الى خصومه، فتارة يقول عنه بأنه صنيعة إيرانية، وأخرى بأنه صنيعة سورية، وفي أحسن الأحوال أنه يحقق أهداف الخصم. ولكن العارفون بخبايا الوهابية والقاعدة على السواء يدركون تماماً بأن ما يفعله قادة (داعش) هو من صميم الفكر الوهابي. وإن الافتراس الداخلي هو الآخر جزء من هذا الفكر، تماماً كما حصل في تجربة الاخوان وعبد العزيز، أو بين فصائل الاخوان أنفسهم، وقد سقط منهم ضحايا كثر تنازعاً على المغانم، والمناصب، تحت عنوان البيعة ومشروعيتها، والإمارة ومن تصدق عليه..

في نهاية المطاف، فإن الدولة الداعشية هي النموذج الأصلي للدولة السعودية، وهي تعبّر بإمانة بالغة عنها وعن تاريخها الدموي، فهي داعشية بالنمرة والإستمارة..

الصفحة السابقة