أمر ملكي بشأن المقاتلين السعوديين في سوريا

العودة السريعة أو الإنتحار الجماعي

محمد الأنصاري

طيلة سنوات الأزمة السورية، وخصوصاً منذ تسلّم الأمير بندر بن سلطان، رئيس الاستخبارات العامة، الملف من القطريين،
مقاتلون سعوديون قتلوا في سوريا
وآخرون ينتظرون القتل او السجن إن عادوا لديارهم
عملت الرياض على خطّين متقابلين: الأول معارضة الانخراط في الأزمة السورية في العلن، والتحذير من السفر من أجل القتال في سوريا، أو جمع التبرعات بدون إذن الدولة، ودفع المفتي وكبار العلماء لناحية إصدار الفتاوى والتحذير من الذهاب للقتال في صفوف جماعات مسلّحة غير معروفة الهوية، أو لم تحصل على تزكية من العلماء. الثاني: الإنغماس بصورة شبه كاملة في القتال السوري وإدارة الجماعات المسلّحة فيه، وتسهيل انتقال الأموال والسلاح والأفراد الى داخل سوريا. وقد اعتمد بندر بن سلطان مراكز تجنيد وتدريب وتنسيق في الأردن وتركيا ولبنان (قبل معركة القصير)، وفتحت الحدود على مصراعيها لدخول عناصر مقاتلة من كل أصقاع الأرض، وتدفق آلاف الشباب السعوديين من مدنيين وعسكريين للخارج وأعمارهم تتراوح بين 18 ـ 25 عاماً، بحيث كان يسافر هؤلاء في أكثر الأحيان على شكل جماعات ويستقلون طائرات الى تركيا أو عن طريق الجو والبر الى الاردن. طيلة أكثر من عام، كانت السعودية وحدها الحاضرة في الأزمة السورية وهي من كانت تدير ملف الجماعات المسلّحة، فكانت توفر الاموال والأسلحة والأفراد، فيما كانت تركيا والاردن تسهّلان انتقالها الى الداخل السوري.

وفيما كان خط معارضة القتال يعمل بوتيرة خفيفة، بغية التبرؤ مستقبلاً من تحمّل مسؤولية الانعكاسات السياسية والاجتماعية لمقتل آلاف من المواطنين من محيط النظام الاجتماعي والمذهبي (وهو أمرٌ حدث سابقاً في افغانستان والعراق)؛وكذلك بغية اعلان البراءة من دعم الإرهاب لاحقاً وما سيخلّفه من تداعيات بحكم التجارب السابقة التي مرّت بها المنطقة والعالم. وفي المقابل، كان خط التحريض يعمل على حشد كل الامكانيات الضرورية لإبقاء الحرب في سوريا مشتعلة وبوتيرة متصاعدة. ولذلك، كان ال سعود قادرين في أي لحظة الدفاع عن أنفسهم فقد حذّروا من القتال في سوريا واعتبروه فتنة، وبذلك ينجون من الحساب والعقاب، خصوصاً ممن ورّطهم وهو الأمير بندر بن سلطان الذي كان يقود الحرب ويتنقّل بين البلدان من أجل مواصلة الحرب وإشعال أوارها، وكان يتباهى أمام الرئيس الروسي فيلاديمير بوتين بأنه يسيطر على تلك المجموعات، وأنه وحده من يستطيع متى شاء أن يعطّل دورها، تماماً كما تباهى ذات لقاء مع توني بلير حين فتح ملف الرشاوى التي تلقاها بندر بن سلطان في صفقة اليمامة، حيث هدّده في عقر داره، وقال له إن لم توقف التحقيقات سوف أجلب لكم 7/7 في إشارة الى تفجير المترو الذي وقع في لندن بتاريخ 7 تموز (يوليو) 2005.

نلحظ الآن تراجعاً واضحاً في خط التحريض على القتال في سوريا، وتراجع وتيرة التجنيد والتمويل، ومع اختفاء العرّاب الكبير للحرب بندر بن سلطان، تصاعد دور خط معارضة القتال، بالرغم من أن الايديولوجية المشرعنة لكل عنف ضد الآخر لا تزال تعمل بأقصى طاقتها، وليس هناك من سبيل الى وقفها الا من خلال مراجعة شاملة للعقيدة الوهابية المسؤولة اليوم عن كل العنف بعنوان ديني، سواء صدر عن (داعش) أو (النصرة) أو (الجبهة الاسلامية) أو غيرها، فجميعها تتغذى على الأفكار الوهابية المشرعنة لقتل الآخر وبأساليب متوحشّة، بيّضت صفحات أكبر مجرمي العالم، بما في ذلك القوات الغازية في الأراضي الفلسطينية المحتلة.

يتخلى آل سعود عن خط التحريض، وتبدأ محرّكات خط معارضة القتال بالعمل، ويبدأ فريق الاعلاميين الرسميين بصبّ اللعنات على العريفي والبريك والعرعور والعواجي وغيرهم بتهمة تحريض الشباب على القتال في سوريا، وكأن آل سعود كانوا في سبات عميق، وهم الذين فتحوا المساجد، والحسابات البنكية، وسهّلوا وجيّشوا، وجنّدوا، وأرعدوا، وأزبدوا من أجل القضية السورية وانتصاراً لشعبها، فما عدا مما بدا حتى يتحوّل هؤلاء الشيوخ الى شياطين، وهم الذين خطبوا وكتبوا وحرّضوا وجمعوا الأموال تحت سمع وبصر الدولة لسنوات؟

إن تحميلهم المسؤولية وحدهم ليس سوى محاولة هروبية وتنصل من أي تبعات قد تترب عقب الانتهاء من الحرب، وعودة المقاتلين الى الديار، إن عادوا.

نص الأمر الملكي

بسم الله الرحمن الرحيم.. الرقم: أ/44 ..التاريخ: 3/4/1435هـ بعون الله تعالى ..نحن عبدالله بن عبدالعزيز آل سعود ملك المملكة العربية السعودية.

انطلاقاً من مقاصد الشريعة الإسلامية في حفظ الأمة، في دينها، وأمنها، ووحدتها، وتآلفها، وبعدها عن الفرقة، والتناحر، والتنازع، استهداءً بقول الحق سبحانه (واعتصموا بحبل الله جميعاً ولا تفرقوا)، وقوله جل وعلا (وأن هذا صراطي مستقيماً فاتبعوه ولا تتبعوا السبل فتفرق بكم عن سبيله)، وقوله صلى الله عليه وسلم (من فارق الجماعة شبراً فارق الإسلام).

وتأسيساً على قواعد الشرع بوضع الضمانات اللازمة لحفظ كيان الدولة من كل متجاوز للمنهج الدستوري المستقر عليه في المملكة العربية السعودية، بما يمثل نظامها العام الذي استتب به أمنها، وتآلف عليه شعبها، تسير به على هدى من الله وبصيرة، تهدي بالحق وبه تعدل.

وانطلاقاً من واجبنا نحو سد الذرائع المفضية لاستهداف منهجنا الشرعي، وتآلف القلوب عليه من قبل المناهج الوافدة، التي تتخطى ضوابط الحرية في التبني المجرد للأفكار والاجتهادات إلى ممارسات عملية تخل بالنظام، وتستهدف الأمن، والاستقرار، والطمأنينة، والسكينة العامة، وتلحق الضرر بمكانة المملكة، عربياً وإسلامياً ودولياً وعلاقاتها مع الدول الأخرى بما في ذلك التعرض بالإساءة إليها ورموزها.

وبعد الاطلاع على المواد (الحادية عشرة، والثانية عشرة، والسادسة والثلاثين، والثامنة والثلاثين، والتاسعة والثلاثين، والثامنة والأربعين، والخامسة والخمسين) من النظام الأساسي للحكم، الصادر بالأمر الملكي رقم (أ / 90) بتاريخ 27/ 8/1412هـ.

وبعد الاطلاع على الأنظمة والأوامر ذات الصلة.

وعملاً بقواعد المصالح المرسلة في فقهنا الشرعي. وبناءً على ما تقتضيه المصلحة العامة. أمرنا بما هو آت:

أولاً : يعاقب بالسجن مدة لا تقل عن ثلاث سنوات، ولا تزيد على عشرين سنة، كل من ارتكب - كائناً من كان - أياً من الأفعال الآتية:

1ـ المشاركة في أعمال قتالية خارج المملكة، بأي صورة كانت، محمولة على التوصيف المشار إليه في ديباجة هذا الأمر.

2ـ الانتماء للتيارات أو الجماعات - وما في حكمها - الدينية أو الفكرية المتطرفة أو المصنفة كمنظمات إرهابية داخلياً أو إقليمياً أو دولياً، أو تأييدها أو تبني فكرها أو منهجها بأي صورة كانت، أو الإفصاح عن التعاطف معها بأي وسيلة كانت، أو تقديم أي من أشكال الدعم المادي أو المعنوي لها، أو التحريض على شيء من ذلك أو التشجيع عليه أو الترويج له بالقول أوالكتابة بأي طريقة.

وإذا كان مرتكب أي من الأفعال المشار إليها في هذا البند من ضباط القوات العسكرية، أو أفرادها، فتكون العقوبة السجن مدة لا تقل عن خمس سنوات، ولا تزيد عن ثلاثين سنة.

ثانياً : لا يخل ما ورد في البند (أولاً) من هذا الأمر بأي عقوبة مقررة شرعاً أو نظاماً.

ثالثاً : تسري على الأفعال المنصوص عليها في البند (أولاً) من هذا الأمر الأحكام المنصوص عليها في نظام جرائم الإرهاب وتمويله الصادر بالمرسوم الملكي رقم (م/ 16) وتاريخ 24/ 2/1435هـ، بما في ذلك الأحكام المتعلقة بالضبط والقبض والاستدلال والتحقيق والادعاء والمحاكمة.

رابعاً : تشكل لجنة من وزارة الداخلية، ووزارة الخارجية، ووزارة الشؤون الإسلامية والأوقاف والدعوة والإرشاد، ووزارة العدل، وديوان المظالم، وهيئة التحقيق والادعاء العام، تكون مهمتها إعداد قائمة - تحدث دورياً - بالتيارات والجماعات المشار إليها في الفقرة (2) من البند (أولاً) من هذا الأمر، ورفعها لنا، للنظر في اعتمادها.

تشكل لجنة من عدة جهات حكومية تكون مهمتها إعداد قائمة (تحدث دوريا) بالتيارات والجماعات المتطرفة

خامساً : قيام وزير الداخلية بالرفع لنا (أولاً بأول) عن وقوعات القبض، والضبط، والتحقيق، والإدعاء للجرائم المنصوص عليها في البند (أولاً) من هذا الأمر.

سادساً : يعمل بما ورد في البنود السابقة من هذا الأمر بعد ثلاثين يوماً من تاريخ نشره في الجريدة الرسمية.

عبدالله بن عبدالعزيز آل سعود

تعليقات

العريفي: هل يضحى به لإنقاذ آل سعود؟

في تعليق للصحيفة الإلكترونية (رأي اليوم) على البيان جاء بأن المملكة أدركت خطورة المأزق الذي وقعت فيه سورية، والاضرار الامنية والسياسية التي يمكن ان تلحق بها من هذا التورط. ولفتت الصحيفة الى تبني الاعلامي السعودي داوود الشريان حملة ضد الدعاة الذين يحرضون المواطنين السعوديين على الجهاد في سورية، ويقومون بتجنيدهم، حيث (كان واضحا أن حملته هذه تأتي تمهيداً لهذا المرسوم الملكي).

تذكر الصحيفة بأن (هناك ما يقرب من العشرة آلاف سعودي يقاتلون حالياً في سورية تحت لواء جماعات جهادية، وان عدداً كبيراً منهم لقي حتفه، ومعظم هؤلاء ذهبوا الى القتال بتحريض من رجال دين عبر فضائيات سعودية). وتلفت الى خشية السلطات السعودية من عودة المقاتلين الى المملكة و(توجيه بنادقهم، وتوظيف خبراتهم في القتال ضدها، ونشر فكرها في أوساط الشباب السعودي)، أما في الخارج فهي (تخشى في الأيام القريبة من دعوات قانونية ترفع ضدها في المحاكم الدولية بتهمة دعم الارهاب، خاصة أن هوة الخلاف بينها وبين الولايات المتحدة والدول الاوروبية تتسع منذ توقيع الاتفاق النووي الامريكي الايراني).

ولا تستبعد الصحيفة، وفي إطار الأمر الملكي أن تشن السلطات السعودية حملة اعتقالات تستهدف بعض الدعاة الذين حرضوا على الجهاد في سورية وقد سمى الشريان بعضهم في برنامجه، كما لا تستبعد (اسكات) الشيخ عدنان العرعور و(دعاة التويتر) حسب تعبير الشريان في البرنامج نفسه، ومن بين هؤلاء الشيخ محمد العريفي.

إعلاميو السلطة كان لهم نهجهم في تفسير الأوامر الملكية، وذهب بعضهم، خصوصاً المسكونين بالنزعة الطائفية، الى حد إدراج مجموعات أخرى لا صلة لها بالأوامر الملكية، وليست هي من عناها الملك حين تحدث عن مقاتلين في الخارج من مدنيين وعسكريين.

فقد علّق الصحافي عبد العزيز قاسم على الأوامر الملكية في مقابلة مع قناة (الحرة) الأميركية بالقول أن: (القرار الملكي يشمل أيضاً منتسبي حزب الله والطلائع الرسالية للشيعة السعوديين وحاملي السلاح في العوامية وليس قصراً على القاعدة فقط). وراح يدفع كرة النار عن ثياب أقرانه من التيار السلفي الوهابي الذي عنته الأوامر الملكية، وحمل على الليبراليين لفرحتهم، حسب زعمه، بصدورها انتقاماً من خصومهم، وقال بأنه ليس مشاركاً (في الزفة الليبرالية)، ومع ذلك لم يستطع تجاوز الواقع، فأقرَّ ولكن قذف بالتهمة بعيداً عن الذات، بل بعيداً عن نظام لا يريد قاسم أن يوجّه إليه أصابع الاتهام بأنه المتورّط في هجرة المقاتلين بالآلاف.

يقول قاسم: (ولكن لنكن صرحاء فالمحرضون يلقون بأبنائنا في أتون حرب لا راية واضحة فيها.. وباتوا لعبة بأيدي الاستخبارات الغربية والإيرانية القذرة..). ولا ندري هل هو استغفال أم استهبال من قاسم حين يتحدّث عن محرّضين وهميين، وكيف باتوا لعبة بأيدي الاستخبارات الغربية والايرانية، وهم جاءوا من أجل قتال نظام حليف لايران، بل وقتال حزب الله الذي هو الآخر حليف لايران..

وحمل قاسم على داوود الشريان لأنه حسب اعتقاده (حاد عن المحرضين الحقيقيين وإلا فالبريك والعرعور يتهمهم شباب الجهاد بأنهما أبواق السلطان، بينما سلمان العودة منتكس لا يأخذون منه. ونصف المحرضين في السجون، والقرار الملكي سيضع النصف الآخر أمام مسؤولياتهم).

حسناً، فمن هم المحرّضون إذاً؟ لماذا يتفادى قاسم ذكر الاسماء، مع أنهم معروفون، اللهم إلا أن يكون يخشى الكشف عن علاقة هذه الاسماء بأمراء كبار.

في تعليق آخر، يزعم قاسم بأن القرار الملكي (نسف ما كانت تتبجح به الصحف الإيرانية واللبنانية بأن داعش صناعة سعودية ومهندسها بندر بن سلطان..). مثل هذا التعليق يجري عليه مجرى من يقول أن عودة إنفلونزا الطيور الى مصر هو نتيجة الأخبار الصحافية عن ترشيح السيسي للانتخابات الرئاسية. إن كان قاسم لا يقرأ جيداً فتلك مشكلته، أما من يتابع التقارير الميدانية، ومواقع الجماعات (داعش، والنصرة، والجبهة الاسلامية)، وحسابات المقاتلين السعوديين على التويتر والفيسبوك، والتقارير الاعلامية الموثقة، لا يحتاج الى إثبات أن داعش والنصرة والجبهة الاسلامية تتغذى على الفكر الوهابي.

يقول أيضاً: (لا علاقة للقرار بزيارة أوباما لأنها قضية داخلية استعرت لدينا..)، وهل قضية المقاتلين السعوديين جديدة، وأن استعارها لم يتم الا حين أوصدت آفاق الحرب في سوريا، أما عن صلتها بزيارة أوباما فما عليه إلا مراقبة تسلسل الاحداث منذ نشر الصحف الاميركية الخبر، ثم نفي السفارة الاميركية في الرياض علمها، ثم صدور الاوامر الملكية وصولاً الى اعلان البيت الأبيض عن الزيارة. ان كان منطق الأمور لا ينفع في هذه الحال، فإن شهادة الدكتوراة التي حصل عليها قاسم من جامعة وهمية تنفع حينئذ!

على أية حال، عاد قاسم واعترف بأن الاوامر الملكية إنما تعلّقت بالمقاتلين السعوديين من الوهابيين دون سواهم وإن لم يشأ الاعتراف بذلك: (السعودية قامت بهذه الخطوة التاريخية لإيقاف ولجم الشباب للذهاب لسوريا).

المضحك أن قاسم يكابر ويعود الى توسيع إطار الاوامر الملكية، ويزعم بأن كل إعلام يقصرها على الجماعات الدينية (أي الوهابية) يعتبر (إيهاماً للمشاهدين)، ويصرّ على أنها تنسحب (على التيارات الفكرية.. ويدخل فيها التيار الليبرالي المتطرف). نعم تنسحب في حال واحدة، ولكن لأغراض أمنية فحسب، أي حين تريد الحكومة استغلال هذه الأوامر لتصفية الحساب مع الاصلاحيين!

عبدالعزيز قاسم: طبّال السلطة!

على أية حال، حسمت السفارة السعودية لدى أنقره الجدل العقيم، وأعلنت في 6 شباط (فبراير) الجاري (أنها تستقبل المواطنين السعوديين الذين كانوا يحاربون في سوريا ممن يرغب منهم العودة إلى المملكة لتقدّم لهم المساعدات كافة). وصرّح السفير السعودي في تركيا، عادل مرداد: (إن المحاربين السعوديين يستطيعون العودة إلى البلاد بعد تقديم طلب للسفارة التي ستتكفل بإقامتهم وتذاكر سفرهم، وتأمينهم حتى يصلون إلى المملكة، بالسرعة الممكنة). وأوضح مرداد بأنه يتم تقديم طلب العودة إما بشكل شخصي أو عن طريق ذويهم.

خلفيات ورسائل الأمر الملكي

في ضوء قراءة الأوامر والمراسيم السامية والملكية، يمكن الزعم بأن ما صدر عن الملك من أوامر لم تكن عادية. وفي العموم، لا يصدر أمر ملكي في المملكة السعودية إلا حين يتعلق بإعفاء أو تعيين أمير أو له صلة بقضايا سيادية تتطلب قراراً من أعلى سلطة في الدولة..

الأمر الملكي الصادر في الثالث من شباط (فبراير) الجاري، وهو الموعد الثابت لانعقاد الجلسة الاسبوعية لمجلس الوزراء السعودي، يؤشّر بوضوح إلى أن القضية التي صدر الأمر الملكي بشأنها تتجاوز سلطة المجلس، وتستوجب ما يمكن وصفه (تعهّداً خطيّاً) من الملك نفسه.

وأيضاً، وبرغم من أن موضوع الأمر الملكي من اختصاصات وزارة الداخلية، كونه يتعلق بمواطنين سعوديين متورّطين في قضايا أمنية خارجية، أي القتال في الخارج، إلا أنه لم يعد شأن داخلياً ولم يعد أمنياً محضاً، فله ذيول خارجية واستراتيجية.

في رسائل الأمر الملكي، يمكن التوقّف عند ثلاث منها:

الأولى: أن الأمر الملكي صدر في سياق تجاذب إعلامي حول زيارة مفترضة للرئيس الأميركي أوباما للرياض نهاية آذار (مارس) المقبل. صحف أميركية مثل (وول ستريت جورنال)، و(نيويورك تايمز) نشرت خبراً عن الزيارة المرتقبة في الأول من هذا الشهر (شباط)، فسارعت السفارة الأميركية في الرياض الى الرد في اليوم التالي مؤكّدة (أن البيت الأبيض لم يتحدث عن شيء بخصوص هذا الأمر). وأوضح مساعد الملحق الاعلامي بالسفارة الأميركية بالرياض ستيورات وايت (أن السفارة ليس لديها أية معلومات بخصوص هذه الزيارة، ولا يمكنها التعليق على ذلك).

وفي الثالث من شباط صدر الأمر الملكي، وهو بالمناسبة يعتبر الأطول في تاريخ الأوامر الملكية، لا يضاهيه سوى الأوامر الملكية المتعلقة بالميزانية. وفي اليوم نفسه، أعلن البيت الأبيض عن زيارة الرئيس أوباما الى الرياض في نهاية آذار (مارس) المقبل.

خلاصة الأمر الملكي: إدانة شاملة للأعمال الإرهابية بكل أصنافها، والتي ثبت فيها تورّط مواطنين سعوديين، من مدنيين وعسكريين، ودعاة محرّضين، ومنتمين، ومتبرّعين، وممجدّين لجماعات دينية وفكرية متطرّفة، وإنزال أقصى العقوبات بهم.

في المعلومات، عرض مسؤولون أميركيون على السعوديين ملفاً ضخماً في نهاية العام الماضي يشتمل على وثائق دامغة تدين ضلوع السعودية في الارهاب الذي يضرب العراق، وسوريا، ولبنان، واليمن، وصولاً الى روسيا، وأن الملف بات في تصرّف المجتمع الدولي، الذي قد يدفع باتجاه استصدار قرار إدانة من مجلس الأمن، وتصنيف السعودية الدولة الراعية للإرهاب في العالم.

وصلت الرسالة الأميركية بوضوح الى السعودية، بأن من غير الممكن إدخال ملف الارهاب ضمن معاهدة الحماية والدفاع الاستراتيجي الذي تم توقيّعه في الأربعينات من القرن الماضي بين الملك عبد العزيز والرئيس روزفلت، ولا بد من التصرّف على أساس أن قضية الارهاب ذات طابع دولي، وخارج المعاهدات الثنائية.

شعرت السعودية بأن الخطر يحدق بالمصير، وتطلّب الأمر موقفاً عاجلاً ومن أعلى مستوى في البلاد، بل هناك من العائلة المالكة من فهم الرسالة الأميركية على أنها شرط لازم لزيارة أوباما للرياض، لإزالة الحرج أمام حلفاء الولايات المتحدة والمجتمع الدولي بصورة عامة الذي لم يعد مرتاباً بخصوص تورّط السعودية في غالبية الأنشطة الارهابية التي تجري في المنطقة وفي العالم كافة.

الثانية: وجّه الأمر الملكي رسالة واضحة للمقاتلين السعوديين، المدنيين والعسكريين على السواء، في سوريا أولاً ورئيساً، وفي العراق ولبنان وغيرهما ثانياً، بأن ثمة خاتمة وخيمة تنتظرهم في حال قرروا العودة الى الديار، وللحيولة دون مواجهة المصير الحالك والعقاب العسير عليهم البقاء خارج الحدود، واستكمال المسيرة حتى الفناء المبرم أو الانتشار في ساحات قتال أخرى، كما فعل الفوج الأول من الافغان العرب وما بعده من أفواج نشأت في العراق بعد عام 2003 ولبنان بعد معارك نهر البارد أواخر 2007، وحالياً في سوريا بعد اتفاق بندر ـ بتريوس في صيف عام 2012.

في المعطيات المتاحة، شارك على مدى السنوات الثلاث الماضية أكثر من 12 ألف سعودي في القتال في سوريا، بلغ عدد القتلى في صفوفهم نحو 3800، وهو الأعلى من بين القتلى الأجانب في سوريا، وهناك ما يقرب من 2500 عنصراً في عداد المفقودين، وهو أيضاً الأعلى من بين المفقودين الأجانب.

لا ريب أن أمراً ملكياً بهذه القساوة يمثّل طعنة سامّة في الظهر، يصوّبها الراعي الرسمي، ممثلاً في بندر بن سلطان، الذي وضع الأمر الملكي نهاية لمهمته. تنطوي ردود فعل مناصري القاعدة كما تظهر على مواقع التواصل الاجتماعي على غضب عارم من السعودية لخداعها للمقاتلين المرة تلو الأخرى، منذ أفغانستان مروراً بالعراق ولبنان وصولاً الى سوريا. ولذلك، ينظر كثير من السعوديين المقاتلين والمناصرين إلى الأمر الملكي على أنه عمل استفزازي، وقد يدفع بالمقاتلين الى ارتكاب حماقات أمنية لإحباط الهدف من الأمر، أي تشويه صورة المملكة، وترسيخ الانطباع بأنها داعمة للإرهاب.

بطبيعة الحال، بإمكان النظام السعودي التلطي وراء ذريعة أنه لم يكن في أي يوم داعماً للقتال في الخارج، ولم يسمح لا بجمع التبرعات ولا بالتحريض على الهجرة للجهاد. في الشكل، يبدو الاحتجاج مقنعاً، فقد خضع دعاة محرّضون وأئمة مساجد للتحقيق لمنع جمع التبرعات للقتال في سوريا، كما صدرت فتاوى تعتبر ما يحدث في سوريا (فتنة)!

داوود الشريان: بداية الحملة الأمنية.. برنامج!

في المقابل، بإمكان المراقب حشد فيض من الأدلة على ضلوع المؤسسات السعودية السياسية والاعلامية والدينية في هجرة آلاف السعوديين الى ما يصفه دعاة التحريض بـ (أرض الرباط) في سوريا، وإلا كيف نفسّر مشاركة مئات العسكريين في القتال هناك، مع أن هؤلاء لا يمكنهم السفر للخارج الا بإذن خاص من القيادة العسكرية. لم يكن ذكر العسكريين والعقوبة القاسية التي تنتظرهم مجرد نافلة، لولا وجود تقارير موثّقة عن انخراط عدد كبير من العسكريين في القتال في سوريا، وهم الذين كانوا يتدفقون من الأراضي الأردنية برعاية نائب وزير الدفاع السعودي الأمير سلمان بن سلطان، الأخ غير الشقيق لعرّاب الحرب في سوريا، الأمير بندر بن سلطان، رئيس الاستخبارات العامة!

والحال، أن السعودية أتقنت اللعبة المزدوجة، ففي العلن تبدي تشدّداً مفتعلاً في موضوع مشاركة سعوديين في القتال في الخارج، وفي جمع التبرعات لتنظيم القاعدة وفروعها القديمة والجديدة، وفي السر، يتدفق المال والرجال والسلاح على سوح القتال دون رقيب أو حسيب.

الثالثة: ثمّة مؤشرات ثاوية في الأمر الملكي تفيد بأن الحرب في سوريا شارفت على نهايتها، وعلى الجماعات المسلّحة تدبّر أمرها، بعد فقدانها الرعاية المالية والتسليحية والتدريبية المطلوبة. وهذا يعني بالضرورة وبحكم الواقع، أن لا دور بعد الآن يمكن أن يلعبه الأمير بندر بن سلطان، الذي غادر الى الولايات المتحدة تحت عنوان العلاج المفتوح زمناً.

نشير الى المقترح الايراني ـ التركي بتوفير مخرج لائق للسعودية من الوحل السوري، على أن تتخلى تدريجاً عن دعم المسلّحين. فمن الواضح، أن الثنائي بدأ تنسيقاً مشتركاً عالي المستوى من أجل مواجهة ملف الارهاب الذي تردّدت أنقرة في مقاربته سابقاً بصورة جدّية بحسب الرؤية الايرانية، ولكنها تعود الآن، بعد زيارة أردوغان الأخيرة لإيران، لفتحه على أوسع نطاق.

في النتائج، السعودية خائفة من عودة مواطنيها المقاتلين، ولذلك قرّرت أن تضع قائمة عقوبات صارمة درءاً للارتدادات العنيفة التي تصيبها في مرحلة الحساب. ولكن الأخطر من ذلك، من وجهة نظرها، هو العقاب الدولي الذي ينتظرها في حال لم تدفع أثمان خسارتها الحرب في سوريا، وتفجّر ظاهرة الارهاب على مستوى دولي، ما اضطر أجهزة الاستخبارات الأوروبية الى تكثيف حضورها في المنطقة لمواكبة عودة مواطنيها المقاتلين للديار.

لابد من إلفات الانتباه الى ما قدّمته السعودية من تنازلات لإبعاد شبح العقاب الدولي بتهمة رعاية الإرهاب. في الزيارة الأخيرة لوزير الخارجية الأميركي جون كيري الى الرياض وصف فيها موقف القيادة السعودية من موضوع التسوية الاسرائيلية الفلسطينية بعبارة لافتة، حيث قال بأنه لمس (حماسة عالية) لديها في هذا الشأن، في وقت لم يكن فيه ما يدفع لمثل هذه الحماسة. هنا تتقاطع المعلومات: ملف الإرهاب الذي عرضه الأميركيون على نظرائهم السعوديين، واحتمالية صدور قرار من مجلس الأمن الدولي يصنّف السعودية كدولة راعية للإرهاب، وما يعقب ذلك من عقوبات اقتصادية وسياسية، وملف التسوية الفلسطينية الاسرائيلية، حيث ذكرت مصادر مقرّبة من السلطة الفلسطينية في رام الله، أن جون كيري طلب من رئيس السلطة محمود عباس الإقرار بيهودية الدولة الإسرائيلية في مقابل إقامة دولة فلسطينية تكون القدس الشرقية عاصمة لها، على أن يتم التخلي عن مبدأ حق العودة، مقابل العمل على إحياء مشروع التوطين على نطاق واسع بحيث يشمل استيعاب قسم منهم في دول عربية إضافة إلى استراليا وكندا.

تضيف المصادر الفلسطينية أن الرئيس عباس تردد في الإعلان عن الموافقة ما لم يحصل على غطاء من دول عربية وازنة، وعلى رأسها السعودية. بادر كيري لطمأنة عباس بأنه سيتولى هذه المهمة بنفسه. فهل ثمة علاقة بين طمأنة كيري وحماسة الملك عبد الله؟

في المجمل، فإن الأمر الملكي يؤذن بمرحلة جديدة، قد تؤكل فيها العصى بدلاً من عدّها!

الصفحة السابقة