دولة الصدفة!

لو قدّر لعلماء الصدفة أن يرقبوا عدد الصدف في المملكة السعودية لكفاهم المؤونة بحثاً عن أدلة لإثبات أن الكون برمته هو نتيجة صدفة وقعت في لحظة زمنية فانبثق الكون بكل المجرّات الناظمة له، والأفلاك التي تحكمه، والكواكب التي تسبح فيه..

ولأننا لا نؤمن بأن الصدفة قادرة على إنتاج نظام كوني بهذا الضبط والانضباط شديد التعقيد، فلا يمكن إحالة أصل الكون الى صدفة، وإلا نفترض أن تكون قصاصات ورق كتب على كل واحد منها رقم من 1 ـ 100 وخلطت بطريقة عشوائية أن تنتظم بالصدفة بحيث يتسلل العدد بالطريقة نفسها..

في سياسة أهل الحكم السعودي تبدو الصدفة واردة دائماً، ومن الصدف أيضاً ما يتكرر مرة وأخرى وثالثة ورابعة والى ما لانهاية وتبقى مجرد صدفة..

نتذكر لقاءات الصدفة بين الامراء السعوديين والمسؤولين الاسرائيليين طيلة عمر الكيانين السعودي والاسرائيلي، حتى قيل عن لقاء بين مستشار الملك عبد العزيز، حافظ وهبة، ومستشار الرئيس الاسرائيلي ديفيد بن غوريون في لندن، وتوالت لقاءات الصدفة التي تحدث عنها الاسرائيليون وآخرهم ميخائيل كهانوف في كتابه (السعودية والصراع في فلسطين)، وتزايدت وتيرة أنباء لقاءات الصدفة بعد حرب يوليو 2006 على لبنان.

لقاءات رئيس الاستخبارات العامة الأسبق الامير تركي الفيصل مع مسؤولين اسرائيليين كانت دائماً تتم صدفة، والغريب أن الصدفة تتكرر في المكان نفسه وتحت العنوان نفسه. في شباط (فبراير) من سنة 2010 وفي مؤتمر الأمن بمدينة ميونيخ الالمانية تصافح تركي الفيصل مع نائب وزير الخارجية الاسرائيلي داني أيالون. في شرح الاسباب حينذاك، يقول تركي الفيصل بأن أيالون وجّه إليه نقداً وقال: (شخص من دولة معينة تمتلك الكثير من النفط رفض أن يجلس معه في مجموعة حوار واحدة. وأن المملكة العربية السعودية بكل ثروتها لم تقدم مليما واحدا للسلطة الفلسطينية). وبالمناسبة هذا ما ذكره كهانوف في كتابه سالف الذكر أيضاً.

يقول تركي الفيصل طلب أيالون منه أن يصعد الى المنصة ليجلس بجانبه، فقال له لا إنت إنزل، فنزل أيالون فصافحه..! في تفسير ذلك ان تركي الفيصل ليس لديه مانع من حيث المبدأ، فالمصافحة ليست اعتراف..!

ولكن عادت الصدفة مجدداً.. وفي مؤتمر الأمن وفي ميونيخ وفي شباط (فبراير) من سنة 2014، حيث تمّ لقاء الصدفة بين الأمير تركي الفيصل، ولكن أكثر حميمية هذه المرة، ومع إمرأة مثيرة للجدل، وهي تسيبي ليفني، وزيرة العدل الاسرائيلية. وفي اللقاء قيلت كلمات لا تنم عن مجرد صدفة، بل ما صدر من الفيصل وليفني أكثر من مجرد كلمات عابرة.

في 2 (شباط) فبراير الجاري جاء ما يؤكد التقارير التي تتحدث عن علاقات استراتيجية تربط آل سعود والكيان الاسرائيلي، فقد أثنى الفيصل بزخم عاطفي لافت على ليفني، بعد سجال بينها وبين صائب عريقات، كبير المفاوضين الفلسطينيين سابقاً، حول مسألة الاعتراف المتبادل بين يهودية الدولة الواقعة تحت مسمى إسرائيل والدولة الفلسطينية. كان يمكن للفيصل أن يشارك في السجال وأن يدعم حقوق الشعب الفلسطيني ولو بكلمة، تماماً بالقدر نفسه من الزخم من العداء الذي يظهره في كل قضية تحضر حول ايران وسوريا وخصوم ال سعود.

لم يحصل ذلك، بل على العكس، قدّم إطراءً أشبه ما يكون بمكافأة، حيث أثنى الفيصل على ليفني أمام الجمهور في الجلسة مخاطباً: (أنا أدرك لماذا تفاوضين عن إسرائيل). قابلت ليفني الإحسان بالإحسان فقالت له: (أتمنى لو كان يمكن أن تجلس معي على المنصة ونتحدث عن ذلك). لا يحتاج الأمر الى خبير نووي كي يفك شيفرة ليفني، فهي تلمّح الى استعلان العلاقة بين دولتها العبرية وبين دول الخليج قاطبة، وفي مقدمها السعودية.

الفيصل لم يستجب مباشرة لدعوة ليفني، ربما بوازع (عدم الاختلاط) ودرءً في وقت لاحق (لخلوة غير شرعية)، إلا أنه عوّض ذلك بالجلوس بضع مرات إلى جانب وزير الدفاع الإسرائيلي السابق إيهود باراك، وتحدث معه بتودّد. نشير الى ما ذكره موقع (واللاه) الاسرائيلي حول باراك الذي دعا حكومة نتنياهو إلى توطيد العلاقات مع الدول الخليجية، كما دعاه لتعزيز التعاون مع السعودية والدول الخليجية ضد التهديد الإيراني.

الكاتب الفلسطيني، عبد الباري عطوان، علّق على الحديث الحميمي بين تركي الفيصل وتسيبي ليفني متسائلاً: (هل بات ـ أي الامير تركي ـ مسؤول التطبيع السعودي مع اسرائيل؟) كما يظهر في (مصافحاته ولقاءاته المتعددة مع المسؤولين الاسرائيليين..).

ونقل عطوان عن صحف اسرائيلية قولها أن الامير الفيصل (تفاوض) مع السيدة ليفني حول المفاوضات الفلسطينية الاسرائيلية وأعرب عن ترحيبه بوجودها على رأس الوفد الاسرائيلي المفاوض، وقال: (ان السعودية يسرّها تعيينها رئيسة لوفد المفاوضات مع الفلسطينيين لان هذا سوف يضمن ان نتنياهو لن يكون صعبا للغاية).

شأن كثير من المواطنين في الداخل والمراقبين في الخارج، يعيد عطوان طرح السؤال الذي يوجّه الى القيادة السعودية حول اتصالات تركي الفيصل ومصافحاته للاسرائيليين، فيأتي الرد بأنه (رجل عادي لا يحمل اي صفة رسمية ولا يمثل وجهة نظر السلطات)، ولكن هذا الرد لم يعد مقنعاً (لأن الامير الفيصل يشارك في مؤتمرات وندوات كعضو مهم في الاسرة الحاكمة وكممثل لها). يربط عطوان بين لقاءات تركي الفيصل مع مسؤولين اسرائيليين وتوقيت نشر تقارير أخبارية غربية حول تقارب سعودي اسرائيلي في مواجهة ايران بعد الاتفاق النووي بين ايران والدول الست العظمى واسقاط واشنطن للخيار العسكري ضد ايران.

عطوان يطالب السعودية (بتوضيح موقفها رسمياً تجاه هذه اللقاءات مع الاسرائيليين، لان الصمت تجاهها لم يعد مجدياً، بل بات يعطي نتائج عكسية تماماً). وسوف يأتي الجواب: لقاء تركي الفيصل مع المسؤوليين الاسرائليين تتم في الغالب عن طريق الصدفة ومن شابه دولته فما ظلم.. فهي دولة الصدفة!

الصفحة السابقة