فشل بندر.. ولكن لماذا؟

خالد شبكشي

حين تسلّم بندر بن سلطان، رئيس الاستخبارات العامة، الملف السوري في صيف 2012، كان الرهان على أنه قادر بحسب مصادر أميركية على إطاحة نظام بشار الأسد عبر الجماعات المسلّحة من كل الأطياف، واستمالة العشائر السورية لجهة الوقوف في وجه النظام وإحداث انشقاق واسع في الجيش، واختراق المؤسسة الأمنية..

كل ذلك حصل، ولكن بنسب ضئيلة..خسرت سورية الأمن، وحصل دمار واسع في أرجاء واسعة من البلد، وخصوصاً في الأرياف التي تحوّلت الى مسرح للمواجهات المسلّحة مع القوات النظامية، واللجان الشعبية، وقوات الدفاع الوطني. ولكن في نهاية المطاف، استوعب النظام السوري الضربة، وقرر استعادة ما خسره من أراضي، ووجّه ضربات موجعة للجماعات المسلّحة، التي دخلت في مواجهات مسلّحة ودموية ضد بعضها في سياق الصراع على المغانم والأرض..

أُعطي بندر مهلاً الواحدة تلو الأخرى قبل موعد جنيف 2، الذي تأجل مراراً بضغط سعودي، ولكن لا نتيجة مبّشرة بتحقيق وعد (إسقاط النظام). اختار بندر أن يكون بطلاً استثنائياً، والرجل الخارق الذي لم يجد الزمان بمثله، فأفرط في بيع الأوهام للذات وللآخرين، حتى نضبت جعبته من أن تقدّم حلاً أو حتى نصف حل، فجرّب مع الروس مراراً، تارة عبر زيارة مباشرة لموسكو، وتارة عبر وسطاء وثالثة عبر مكالمات هاتفية، وجميعها يدور حول صفقة واحدة: اعطونا رأس الأسد ونعطيكم المال والأسواق..

باءت المحاولات بالفشل، فيما بدأت التسوية تمدّ خيوطها وراء الكواليس وبعيداً عن أعين السعودية، الراعي الرسمي والأكبر للمعارضة السورية ولمشروع إسقاط نظام بشار. ترتّبت صفقة التسوية الكيميائية بين الروس والاميركيين، ومهّدت لتسوية نووية بين ايران ومجموعة 5+1 التي فتحت الأبواب أمام علاقة واعدة بين طهران وواشنطن. في النتائج، لم يعد أمام بندر وقت كاف ولا هامش مريح يسمح له بمواصلة تجاربه في الملف السوري..

كان الاعلان عن التسوية الكيماوية صاعقاً للعقل السعودي، الذي اعتاد أن ينال ما يريد بماله. اكتشف بندر بأنه ليس أثيراً لدى الأميركيين، ولا حكومة بلاده تحظى بأولوية في الاستراتيجية الأميركية في العالم. فقد الأمراء تركيزهم، وبات الإرباك سيد مواقفهم، وطار بعضهم الى عواصم الشرق والغرب للتعبير عن حزنهم وغضبهم وخيبة أملهم من التحوّل الأميركي. احباطات سعودية متوالية لم تحدث أدنى تغيير في الموقف الأميركي سوى في الشكل، بالرغم من التضامن الاسرائيلي مع الحليف الخفي، أي السعودية، كما ظهر في كلمة رئيس الوزراء الاسرائيلي نتنياهو أمام الجمعية العامة للإمم المتحدة والتي خصّصها للتعريض بالرئيس الايراني الجديد حسن روحاني في سياق توجيه ضربة استباقية لأي تفاهم ايراني ـ غربي..

عبّرت السعودية عن انزعاجها بأشكال مختلفة وبكل لغات العالم، ولكن التفاهمات الروسية الاميركية والايرانية الغربية كانت أقوى من الضغوطات السعودية والاسرائيلية على السواء..كل ذلك يتم على حساب «صلاحية» الدور المنوط بالأمير بندر، الذي شعر في مرحلة مبكرة بأن ليس له مكان في المرحلة الجديدة. حاول عبر التهديد بنقل التحالفات الى الروس والصين، ولعب على خط فرنسا هولاند، وجرّب حتى تنفيذ الخطة العسكرية المعدّة للحرب الاميركية الاوروبية على سورية عبر الأردن، ولكن في الأخير بدا واضحاً أن تاريخاً جديداً بدأ لا مكان فيه للأمير بندر، وكان لابد من موعد لمغادرة المشهد، أو بالأحرى لإخراج طريقة انسحابه، فكان التمارض أو المرض، لا فرق، مخرجاً نموذجياً..

صحيفة (اينديبندنت) البريطانية نشرت في 24 فبراير الماضي مقالاً عن خلفيات وتداعيات خروج بندر من المشهد السياسي, وكتبت:

الرياح السياسية في الشرق الأوسط تتغير ولكن لا تزال تنتج أزمة وحرباً. وحتى الآن يعتبر أهم تطورين لهذا العام هما فشل مباحثات السلام في جنيف 2 واستبدال السعودية لرئيس استخباراتها، الأمير بندر بن سلطان، بكونه مديراً للسياسة السورية، بعضو آخر من العائلة المالكة وهو مقّرب بشكل واضح من الولايات المتحدة ومعادٍ للقاعدة، أي الأمير محمد بن نايف.

أسباب فشل جنيف واضحة بصورة كافية وكذلك تداعيات ذلك الفشل. وزير الخارجية الاميركي، جون كيري، كان واضحاً منذ البداية بأن واشنطن تريد مفاوضات سلام لتكون بصورة رئيسية حول (انتقال) ونهاية حكومة الرئيس بشار الأسد. ولكن، حيث أن جيش الأسد يسيطر على معظم المراكز السكانية والطرق الرئيسية في سوريا، فإن تغييراً راديكالياً كهذا لإحداث توازن في القوة لن يقع حتى يوقف المتمرّدون الخسارة والبدء بتحقيق مكاسب في أرض المعركة.

وبالنظر الى أن المتمردين هم منقسمون في الوقت الحاضر، ويفتقرون للدعم الشعبي وفي حال تراجع، فقد تستغرق الحرب سنوات قبل أن يملي الغرب والداعمون الاقليميون شروط الاستسلام على الطرف الآخر. قد يحدث ذلك بسرعة أكبر في حال فقدت حكومة الاسد والجيش السوري الدعم من روسيا، ايران، وحزب الله، وهو شيء لم يحدث حتى الآن. وإذا كان هناك من شيء، الصراع على أوكرانيا بين الغرب وموسكو من المحتمل أن يجعل الروس أكثر تصميماً حتى على أن لا يروا موقعهم وقوتهم العظمى تتآكل بهزيمة في سوريا.

لقد أمضيت إسبوعين في دمشق وحمص منذ نهاية يناير وبداية فبراير وخرجت بانطباع أن الحكومة في موقع أقوى، سياسياً وعسكرياً، أكثر من أي وقت منذ بداية موجة المواجهات المسلّحة في نوفمبر 2012.

مناطق المعارضة في دمشق، وحمص، والمناطق المحيطة بها تتقلّص بصورة كبيرة من خلال الاغلاقات والحصارات، الى الحد الذي دفع بعضها لتوقيع اتفاقيات إطلاق نار أو مصالحات. المخابىء الأكبر مثل الغوطة الشرقية، وهي منطقة شرق العاصمة والتي تقول الأمم المتحدة أن هناك 145.000 نسمة يقطنها، هم أكثر قدرة على الدفاع عن أنفسهم.

الجيش السوري في وضعية متقدمة، ولكن يبدو أيضاً منهكاً بسبب الأعباء الثقيلة التي يحملها نتيجة رعايته للقوات المهاجمة في العمليات ذات الاهمية الاستراتيجية. لقد شاهدت إثنين منها: الاولى كانت في القدم، جنوب دمشق، حيث هاجم المتمرّدون وسيطروا لبعض الوقت على الطريق الرئيسي جنوب العاصمة باتجاه الحدود مع الأردن. لم تكن معركة كبيرة وأن الجيش نجح في إخلاء الطريق من المسلحين على حساب بعض الضحايا من الجيش نفسه، الذين قابلتهم في مستشفى مزّة العسكري، ولكن بخسائر كبيرة من المتمرّدين. العملية الثانية كانت تقدّم الجيش ضد قرية الزارة، في ظلال قلعة كرك للصليب العظيم، غرب حمص، وهي معركة شنّها المتمرّدون بالتزامن مع قطع إمدادات النفط والغاز وكذلك خطوط الكهرباء التي تدار من القرية.

وبقليل من القوات الهجومية، قامت الحكومة بزيادة عديد ميليشيا قوة الدفاع الوطني، والمؤلّفة في أغلبها من علويين ومسيحيين، وكذلك استخدام مقاتلي حزب الله من لبنان. وتقوم استراتيجية هذه القوات على حصار وعزل المناطق الخاضعة تحت سيطرة المتمرّدين، وقطع الكهرباء والماء والغذاء ومن ثم قصفهم بالمدافع والبراميل المتفجّرة التي ترمى من طائرات الهيلوكبتر، إلى أن يتم افراغها من السكان. وحتى الآن، فإن هذه الاستراتيجية نجحت ولكن على حساب الصرخة الدولية، التي تستجيب لها الحكومة، بصورة خاصة، إذ ليس هناك من يولي اهتماماً في الخارج حين يتعرض داعموها لمجزرة.

ما لا ريب فيه هو ان المتمرّدين فشلوا في اسقاط الحكومة، رغم أنها تظهر عاجزة عن إنزال هزيمة بهم. وهذا يفسّر التطوّر الثاني المهم لهذا العام وهو إستبعاد الأمير بندر، الذي كان مسؤولاً عن إدارة، تسليح، وتمويل المتمرّدين. هذا الدور تمّ نقله الى وزير الداخلية الأمير محمد بن نايف، الذي كان مولجاً بالقيام بأعمال ضد القاعدة في داخل المملكة ويعتبر واحداً من أهم الاعضاء المؤّيدين للولاات المتحدة داخل الدائرة الضيقة في العائلة المالكة. ومن بين من يتولى أيضاً دوراً في تقرير السياسة السعودية إزاء سوريا هو الأمير متعب بن عبد الله، الإبن الثالث لللملك ورئيس الحرس الوطني.

هذه التعيينات لا تعني أي تخفيض في الدعم السعودي المباشر للمتمرّدين ولكنهم سوف يضطلعون بمهمة رسم سياسة تكون أقرب الى الولايات المتحدة. الأمير بندر عارض بصورة علنية قرار الرئيس أوباما برفضه العمل العسكري ضد سوريا بعد استخدامها أسلحة كيميائية ضد مناطق المتمرّدين في دمشق في أغسطس الماضي. مع تقرير الأمير محمد بن نايف، الذي تعرّض لمحاولة اغتيال من قبل انتحاري من القاعدة أدّت الى إصابته بجروح في 2009، للسياسة السورية، فإن المتمرّدين المدعومين سعودياً سوف يحاربون أكثر من أي وقت مضى على جبهتين: الحكومة، ومن المفترض، الحركات المسلّحة على شكل القاعدة داخل الثورة، بالرغم من أنهم قد يتقاطعون في الاعمال العسكرية ضد الجيش السوري.

بالنسبة للولايات المتحدة والسعوديين، فإن التدخلات في سوريا قد تكون أصعب مما تبدو. المتمرّدون هم منقسمون أكثر مما هم عليه الآن، وقد خسرروا الكثير من الدعم الشعبي الذي تمتعوا به في 2011 و2012. وهذا لا يعني أن الحكومة لديها دعماً شعبياً، ولكن بالنسبة لكثير من السوريين، الأسد مفضّل على سيطرة المتمرّدين.

دعم المعارضة «المعتدلة» التي تمّت مناقشتها في اجتماع دام يومين في واشنطن من قبل رؤوساء استخبارات غربيين وعرب في فبراير الماضي، يفترض أن يفوق الجهاديين المتطرّفين وفي الوقت نفسه أن تحارب هذه المعارضة الحكومة. ولكن إعادة تقديم بعض لوردات الحرب من بين المتمرّدين على أنهم معتدلون، ببساطة لأنهم مدعومون من الغرب أو من حلفائهم الإقليميين، سوف يكون الى حد كبير مجرد تكتيك في العلاقات العامة ولن يكون مقنعاً للسوريين.

ومن السذاجة في ظل هذه الظروف تصوّر أن إرسال صواريخ مضادة للطائرات محمولة على الكتف، أو أسلحة مضادة للدبابات، كما هو مطروح الآن، سوف يجعل المتمرّدين أكثر نجاحاً. ينزع الصحافيون، ضباط الاستخبارات، والمتمرّدون الى أن يبالغوا في الاعجاب بفكرة أن أسلحة مثل هذه سوف تحدث اختلافاً. وهذا قد يكون نابعاً من الاعتقاد بأنهم الى حد ما غيروا وجهة الحرب الى حرب عصابات كما في أفغانستان في الثمانينات، ولكن التاريخ يكشف بوضوح أنهم لم يفعلوا ذلك. قبل سنوات قليلة، سألت جنرال أفغاني كبير عن تلك الحقبة وكيف أن صواريخ ستنجر كانت مشكلة. نظر الى حد ما بحيرة الى السؤال وأجاب بأن تلك الصواريخ لم تحدث في واقع الأمر اختلافاً كثيراً. (كل الذي حدث كان أن طائراتنا كانت تحلّق على مستوى منخفض وبصورة أسرع وكنا نستخدم قذائقنا بوتيرة أكبر).

تعيين الأمير محمد بن نايف قد يعني تركيزاً أقل على الهجوم العسكري على سوريا ومزيد من الضغط الدبلوماسي على روسيا، ايران، حزب الله لإزاحة الأسد. إن واحدة من أكبر الأخطاء للمعارضة وداعميها كانت السماح لسؤال من يحكم دمشق كي يصبح جزءا من الحرب الساخنة والباردة بين ايران وأعدائها، وبين الشيعة والسنة، وهي نزاعات كانت تدور منذ الثورة الايرانية في 1979.

قد تسعى السعودية لسحب التصعيد من هذه النزاعات، ولكن حتى الآن هناك إشارة خافتة في هذا الصدد. من المحزن، أن ليس هناك أي من مكوّنات حرب طويلة في سوريا قد اختفى.

الصفحة السابقة