الفيصل يدعو ظريف لزيارة الرياض

آفاق العلاقات الإيرانية السعودية

تراجع الرياض الظاهري بدعوة وزير الخارجية الإيراني لزيارتها، إنما هو انعكاس لواقع صعب داخلي وخارجي، تعيشه العائلة المالكة، في ظل غياب استراتيجية واضحة لدولة تُسيّر وتُدار بالبركة كما يقال!

محمد الأنصاري

لا مفاجئ في دعوة وزير الخارجية السعودي لنظيره الإيراني لزيارة السعودية. اللهم من حيث التوقيت فقط؛ فقد تقدّم سعود الفيصل على الموعد بنحو شهرين تقريباً. ذلك ان ساعة تغيير المواقف السعودية قد ضُبطَت على وقع نتائج اجتماعات ايران والدول الغربية خمسة زائد واحد، بشأن ملفها النووي. فالرهان بتغيّر الموقف السعودي في العلاقة مع ايران، كان مرهوناً بنجاح الاتفاق الايراني الغربي (ولو كان نجاحاً محدوداً)، بحيث تعمل السعودية على تخريب الإتفاق والشوشرة عليه فيما تبقى لها من وقت، فإن لم تنجح، فإنها تستطيع التكويع سياسياً وتغيير الموقف. لكن الظاهر ان الأمراء السعوديين تلقوا تأكيدات عديدة، اضافة الى نتائج مراقبتهم للحوار المستمر بين ايران والغرب، بأن العلاقة مع ايران لن تتراجع الى الوراء مهما كان الأمر، ولن تكون هناك حربٌ ايرانية غربية، وهذا ما أكده أوباما في زيارته الأخيرة للرياض، حيث كان النقاش يدور في تأثير تفاصيل الصفقة الايرانية الغربية على السعودية، وليس في أصل نجاحها وإبرامها.

أية مراقب للعلاقات السعودية الايرانية، كان يدرك بأن الرياض ستتراجع عاجلاً أم آجلاً.

الأمر المحزن للمقربين من الرياض، هو أنها تتراجع وهي ضعيفة، وقد خسرت الكثير من مواقعها، او اوراق الضغط لديها، أي بعد ان استنفذتها في أكثرها، كما هو الحال في سوريا والعراق وحتى اليمن والبحرين.

لو كانت الرياض قد تفاهمت مع ايران قبل نحو عام او اكثر، لكان المُخرج المتوقع لها أكثر ايجابية.

أما اليوم فالأرجح ان تأتي وهي صاغرة، بعد أن ناطحت رغبة حلفائها الغربيين بضرورة تغيير سياستها وترتيب أوضاع المنطقة بالتعاون مع ايران، وإن كانت يدها هي السفلى.

لكن العناد السعودي الذي شهدناه خلال عام على الأقل، ليس فقط قبالة ايران وفي كل الملفات المتوترة في المنطقة، بل وقبالة امريكا ودول الاتحاد الأوروبي، فيما يتعلق بالمشهد المصري ودعم القاعدة وتفهّم التغيّرات الإستراتيجية الغربية وأولوياتها.. هذا العناد، وإبداء الألم، وإظهار التحدّي أحياناً رغم خواء القوة السعودية عسكرياً وسياسياً.. هو الذي أوقع الرياض في حبائل شرّ أعمالها، فتحوّلت الآن الى سياسة الدفاع أكثر فأكثر، سواء تعلق الأمر بالحرب على داعش (وليس كل القاعدة) لتظهر براءتها من منتجها الفكري والسياسي والمالي؛ حيث اقالت بندر بن سلطان بعد زيارة اوباما بأيام؛ ثم أقالت أخيه نائب وزير الدفاع سلمان بن سلطان، فيما كان وزير الدفاع الأميركي لازال في الرياض.. وهذان الشخصان كانا رأس الحربة في سياسة تخريب المنطقة ودعم القاعدة، وإرساء التشدّد ضد الجميع، إقليميا ودولياً بمن في ذلك روسيا نفسها.

لم تكن الرياض مضطرة لهذا، ولا أن يتراجع سعود الفيصل فيظهر في مؤتمر صحفي يعلن فيه استعداده لقبول زيارة ظريف الى الرياض؛ في حين كان الأخير يلحّ علناً على الزيارة من الدوحة ومن مسقط، فلم يرَ أُذُناً سميعة؛ وفي حين كان الرئيس روحاني ـ ومن خلال تسريبات وكالة أنباء ايرانية ـ يعلن استعداده لزيارة السعودية، فتصمت الرياض رافضة.

لماذا تغيّر الموقف السعودي وتم الاعلان عن استعداد علني للرياض للتعاون مع طهران في حلحلة ملفات المنطقة؟

أمور عديدة تغيّرت.

على الأرض لم تُفلح السعودية في تغيير المعادلة على الأرض السورية، فالنظام هناك يستمر في حصد مكاسب عسكرية وسياسية، فيما تتشرذم القوى المعارضة وتتطاحن عسكرياً فيما بينها. الرياض التي أُجبرت على حضور مؤتمر جنيف ٢ لحل المشكل السوري، رفضت أي دور إيراني، في حين أن الإيرانيين بدوا زاهدين في الأمر إن كان الحضور بشروط مسبقة عليهم. فشل جنيف، وفشل تغيير المعادلة العسكرية على الأرض، وسقط الرهان السعودي بتزويد المعارضة بأسلحة فتّاكة يتم من خلالها تغيير ميزان القوى العسكري على الأرض، ووجدت الرياض حلفاءها الغربيين أكثر اهتماماً بنشاط القاعدة وداعش من انتصار المعارضة نفسها (المعتدلة كما يقولون) وهي كلّها تتلقّى الدعم السعودي المالي والسياسي والإعلامي والعسكري.

سقط خيار السعودية في سوريا الى حدّ بعيد؛ كما سقط خيارها في العراق بإسقاط المالكي، بل بتخريب العمليّة الإنتخابية برمّتها، من خلال دعم القاعدة، وهو أمرٌ قامت به الرياض بشكل مؤكد. الإنتخابات ستعيد المالكي ـ الى السلطة ـ على الأرجح بموافقة امريكية ايرانية؛ في حين أن تمدد القاعدة في العراق في الأشهر الماضية، بدأ يفرض على الغربيين التفكير في المشاركة في حرب على الدواعش والقواعد إن في العراق او سوريا. بل حتى الأردن بدأ بالتنسيق مع بغداد في المعلومات لمحاصرة داعش والقاعدة.

ايضاً على الأرض، تدهور موقع السعودية في اليمن. فالوصفة السحرية السعودية (المبادرة) لم تنتج نظاماً مستقرّاً؛ وتمدد الحوثيون الى مشارف صنعاء حتى أضحوا القوّة العسكرية والسياسية الأولى في اليمن، في حين تراجع أنصار السعودية القبليين او السلفيين في دمّاج او حزب الإصلاح/ الإخواني الذي تركته الرياض تلبية لأحقادها وغضبها من جملة التنظيمات الإخوانية.

يمكن قول الأمر ذاته بالنسبة للبحرين، حيث نجح السعوديون في حماية نظام آل خليفة بالقوة؛ ولكنهم لم يفلحوا في إخراج البحرين من الأزمة. وفي لبنان اضطرت الرياض الى التنازل في تشكيل حكومة، بضغط من السفير الأميركي الذي زار الرياض، وبمباركة فرنسية. قد يتحقق الأمر ذاته مجدداً بالنسبة لانتخاب رئيس الجمهورية، الذي لاتزال الرياض وفرنسا ترفضان ان يكون (الجنرال عون).

وخلال عام واحد انتكست العلاقات السعودية القطرية وسُحب السفراء، كما لفّت الثلوج العلاقة مع تركيا؛ كما مع امريكا والإتحاد الأوروبي وروسيا، وكل ما استطاعه الأمراء ان يطوف ولي العهد ووزير الدفاع الأمير سلمان على الباكستان والصين لتوفير صواريخ بعيدة المدى علّها تجلب شيئاً من الطمأنينة لنظام مهزوز داخلياً.

تشدد سعود الفيصل وفشله قد يؤدي الى عزله

في داخل المملكة نفسها، فرغم القمع الشديد واعتقال معظم القيادات الميدانية الحقوقية والسياسية وفي كل المناطق، ورغم التشريعات المتشددة ونسبة كل فعل الى الإرهاب.. ورغم الأحكام القضائية الاعتباطية بالسجن لسنوات طويلة على الناشطين وحتى المغردين.. فإن العائلة المالكة فقدت مساحة ولاء كبيرة لها خلال العام الماضي أكثر من أي عام مضى. الدواعش والقواعد تصاعد نشاطهم؛ والأزمة داخل أجنحة العائلة المالكة تتصاعد بسبب الصراع على السلطة، حيث يمضي الملك في حسمه بالقوة عبر تعيينات متسارعة غير مسبوقة في تاريخ السعودية منذ قيامها، حيث تمّت خلال العامين الماضيين تصفية الجناح السديري، وصعود نجم الملك وابناءه، ما جعل الخلافات تزداد على السطح بين الأمراء، في تعبيرات لم نكن نشهد لها مثيلاً من قبل.

السخط الشعبي متصاعد، وفشل الدولة وفساد اجهزتها يزداد وضوحاً ويرسل قناعة للجمهور بان لا حل للبلاد الا بابعاد الاسرة عن الحكم كليّة.

الملك الذي صفّى بعض الأجنحة المنافسة في العائلة المالكة، لم يغيّر من حقيقة انها بلد لاتزال تحكمه رؤوس متعددة، فقد ضاعت المركزية منذ استلام الملك عبدالله السلطة، او قبلها بقليل، ورغم تغييب الموت لرؤوس الجناح السديري (نايف وسلطان وفهد) الا ان الملك لم يسيطر بعد على السلطة كاملاً، وليس في قدرته ادارتها كونه يعيش ارذل العمر (ومن نعمّره ننكسه في الخلق..). لكن هناك خشية لدى من تبقّى من الأمراء من تصفية مواقعهم، وهذا ما انعكس على صراعات داخلية امتدت الى الشان الخارجي: بين سعود الفيصل وابناء الملك في الديوان، ومحمد بن نايف في الداخلية، وبندر قبل اقالته في الاستخبارات، ومقرن ولي ولي العهد، الخ؛ فكل رأس يعمل بمفرده تقريباً، ويتصيد اخطاء غيره، ويرفع تقريراً مبكّراً لواشنطن بالأمر!

ومن هنا فإن ما قامت به السعودية من تراجع مظهري بدعوة وزير الخارجية الإيراني لزيارة الرياض، إنما هو انعكاس لواقع صعب داخلي وخارجي، في ظل غياب استراتيجية واضحة لدولة تُسيّر وتُدار بالبركة كما يقال!

لا بدّ ان تتكسّر العنترة السعودية، كنتيجة لواقع بائس، ليس فقط قبالة ايران، بل حتى قبالة حلفائها الإقليميين بمن فيهم الضعفاء كقطر. بل أن الحلفاء الغربيين للنظام، الذين يدركون عجزه وضعفه، يقومون بابتزازه اليوم بصورة مخيفة، وليس أمامه إلا عقد الصفقات التسليحية والإنشائية، فيما يلوحون هم لآل سعود بورقة دعمهم الإرهاب القاعدي، وملفهم الأسود في حقوق الإنسان، واحتمال تخلّيهم عن حماية العرش!

ما يدهش ان المقربين من الرياض من شخصيات واحزاب وانصار في الدول العربية، لازالوا يعتقدون بأن كلام الرياض الكبير، وعنف لغتها السياسية، والتشدد في المواقف والتشهير بالأشخاص، واعلاء الخطاب الطائفي، يكمن وراؤه قوة سعودية حقيقية، ولكنهم سيكتشفون ـ كما اكتشف القليل منهم ـ بأن الرياض صعدت على شجرة مرتفعة بخطاب مرتفع، ويُخشى أن تسقط من ذلك العلو بشكل غير تدريجي. فالتشدد غير المدعوم بالحكمة والرؤية الاستراتيجية مصير صاحبه الفشل.

هل تغيّرت الرياض؟ هل تغيّرت طهران؟

حين وجدت القيادة الإيرانية الجديدة صدوداً  من سعود الفيصل وزير الخارجية، الذي يعدّ من الصقور، وبدا موتوراً من النفوذ الإيراني المتصاعد، والذي يمثل افضل تعبير لفشل الفيصل.. التفّت حول الملك عبدالله ومن حوله في الديوان الملكي، باعتقاد سائد لدى الإيرانيين ـ مدعّم بأمثلة غير قليلة ـ يفيد بأن رأي وزير الخارجية في العديد من القضايا السياسية، لا يمثل بالضرورة رأي الملك عبدالله الذي كانت تربطه علاقات حسنة مع الرئيس الأسبق هاشمي رفسنجاني. ولهذا يقال اليوم، بأن ما كشف عنه من حوارات ايرانية سعودية مؤخراً، حفّز سعود الفيصل الذي لم يدع للمشاركة فيها.. لدعوة نظيره الإيراني. أي ان الدعوة لا تعبّر عن قناعة بتغيير في السياسة، بقدر ما تعبّر عن رغبة وزير الخارجية السعودية في اجهاض الخطوة الايرانية باتجاه الديوان الملكي، والتي تستهدف تهميشه والإلتفاف على سياسة الصقور التي يمثلها هو وأخوه تركي الفيصل.

يدعم هذا رأي القائلين بأن من المبكّر أخذ الدعوة السعودية على محمل الجدّ. ولكنها بداية تستهدف تفادي الضغط الغربي بالذات، إذ من المعلوم ان لجنة الخارجية في البرلمان الاوروبي ـ مثلاً ـ دعت علناً الرياض الى التنسيق مع طهران في شؤون امن المنطقة؛ وأن اوباما نصح السعوديين ايضاً باتخاذ هذه الخطوة اثناء زيارته الأخيرة للرياض. 

قد تكون الدعوة السعودية متأخّرة، وفق هذا الرأي، بعد أن اعتقدت الرياض انها استطاعت الرياض تأمين ظهرها بالاتفاق مع الباكستان لاستقدام ثلاثين الف جندي لحمايتها، في تكرار لسابقة عام ١٩٧٩م، وبعد أن اظهرت شيئاً من عضلاتها في مناورات عسكرية باسم (سيف عبدالله) وأظهرت صواريخ بعيدة المدى في المناورة، بتصوّر ان هذا الإستعراض السياسي العسكري سيقوّي الرياض حين يحين وقت التفاوض.

لكن الشيء الثابت في كل هذه التحليلات، هو أن السعودية ان لم تكن تراجعت بالفعل في مواقفها، فإنها في طريقها الى التراجع الحتمي. اذ لا أفق للسياسة السعودية المتشددة في المرحلة القادمة، التي سيكون عنوانها (عالمياً) محاربة القاعدة والتطرف الوهابي وليس محاربة ايران كما تشتهي الرياض وتل أبيب.

حين يخنق التشدد الرياض

نعم ستكون هناك صعوبات امام الرياض. فهي قد خلقت منظومة عداء مؤسسية، اعلامية وسياسية ومالية وطائفية يتعيّش عليها كثيرون؛ كما أنها صاغت رأياً عاماً يجعل من ايران العدو الأول قبل اسرائيل؛ وأججت صراعاً طائفياً بمؤسسات اعلامية وقدرات مالية واجنحة عسكرية يصعب التراجع عنه بين ليلة وضحاها، الى الحد الذي يمكن معه القول ان الرياض أضحت أسيرة سياستها المغامرة التي تضع كل البيض في سلّة واحدة، ولا تقبل بأنصاف حلول، او يصعب عليها القبول بأنصاف حلول، لأنه لا يوجد لديها سوى خطة (أ) بدون (ب) او (ج).

كل رهان السعودية خلال العقود الماضية اختصر في: (اسقاط النظام في ايران) ثم اضافت له رهان القطيعة وتدمير النظام السياسي الجديد في العراق، وزادت عليه اسقاط الأسد بدون القبول بأنصاف حلول، وفعلت ذات الشيء مع حزب الله ومع حماس وقوى المقاومة الأخرى، وها هي تكرر التجربة مع الإخوان في مصر، ومع قطر ومع الحوثيين. لم تترك الرياض لنفسها طريق عودة او تراجع يحفظ ماء الوجه.

الدائرة المحيطة بالنظام أصبحت متطرّفة متشددة متطيّفة عنيفة لا تقبل بأنصاف الحلول ايضاً بعد التغذية الطويلة والمستمرة عن الخطر الإيراني الأكبر. لهذا كانت صدمة الموالين للنظام داخلياً كبيرة حين أعلن سعود الفيصل دعوة ظريف لزيارة الرياض. وصاروا يتساءلون: هل تنازلت ايران، ام تنازلت الرياض؟ الشارع الوهابي الذي في مجمله موالٍ للنظام ـ وإن كان أقلّوياً على مستوى المملكة ـ لا يستطيع قبول عودة العلاقات الطبيعية مع ايران، ولا الاعتراف بالوضع في العراق وتعيين سفير فيها، ولا القبول بالأسد رئيساً، ولا شيء أقلّ من محاربة حزب الله.

لقد نجحت الرياض في صناعة متطرفين بلا عقل، سواء في السياسة او في المعتقد. وظنّ هؤلاء المتطرفون بأن حكومتهم لن تتغيّر او تتراجع، وبالتالي لا حل إلا بالقتال الى النهاية. لكن الرياض فشلت في صناعة موالين يدركون متى يكون التراجع السياسي، وهذا يتطلب تعبئة تتخفّف من الأيديولوجيا والطائفية. لن تواجه ايران مشكلة وهي تتحاور مع الرياض، ومثلها العراق وسوريا وحتى قطر وحزب الله، لأن جمهور هؤلاء لم يُعبّأ بالطريقة الأحادية السعودية، ولم تكن التعبئة سوى سياسية وليست أيديولوجية طائفية. وهنا مكمن المشكلة بالنسبة للأمراء.

فحتى أتباع القاعدة الذين تتهمهم الحكومة بأنهم عملاء لإيران، صاروا يقولون: من هو العميل الآن؟! وصاروا يصطادون في الماء العكر مستخدمين خطاب النظام الذي لم يتخلّ عنه في توصيف ايران، ليضربوا الأمراء به! فهل ستفاوضون المجوس الصفويين الكفرة عملاء امريكا الذين يتدخلون في كل قضايانا وهم اساس المشاكل؟ يقول اتباع القاعدة للنظام.

الرياض ـ إذن ـ بحاجة الى زمن لتعديل خطابها السياسي؛ فهي لم تترك معارضاً شيعياً او سنياً او وهابياً إلا واتهمته بالعمالة لايران، واودعته السجون. وألقت بكل فشلها الداخلي والخارجي على المؤامرة الإيرانية، بما في ذلك فيروس كورونا! فكيف ستتخلص الرياض من هذه الأعباء، وكم من الوقت ستحتاج لترتيب وضعها الداخلي، وتتحلل من الخطاب القديم، بل وكم من الثمن ستدفع بسبب ذلك الخطاب، والأهم هل سينتظر العالم ـ بمن فيهم الإيرانيون ـ الأمراء ويراعوا وضعهم الداخلي، في ظل تسارع تغيير سياسي يشمل كل المنطقة والعالم؟

أُفق العلاقات السعودية الإيرانية

نفاق أيام زمان: هل كانت العلاقة حسنة؟

الأصل في العلاقات بين الرياض وطهران هو التنافس؛ قد يتطوّر الى العداء والمواجهة بسهولة، ولكن من الصعوبة بمكان ـ حسب التجربة التاريخية في العلاقة بين البلدين ـ تأسيس تفاهم وتعاون طويل المدى زمنياً؛ واوضح شاهد على ذلك أن طهران والرياض عقدتا سلسلة من الإتفاقات اواخر القرن الماضي، شملت كل المناحي الإقتصادية والعسكرية والسياسية والأمنية والتعليمية وحتى الثقافية والدينية والاعلامية، ولكن ذهبت تلك الإتفاقيات أدراج الرياح، وكأنها غير موجودة أصلاً.

لا تكمن أزمة العلاقة بين البلدين من قلّة الإتفاقيات، وإنما في التنافس والشكوك بينهما.

فطهران، كأكبر بلد مطلّ على الخليج تمارس نفوذها الحيوي في منطقة تشابك مع السعودية، التي شكت وتألّمت من أن هذا النفوذ قد تمدّد على حسابها حتى كاد ان يهمّشها كليّاً. فإذا كان هناك من أمل في علاقة دائمية بين البلدين، فيجب التفاهم والتنسيق وربما تقاسم النفوذ الحيوي لكلا الدولتين.

هناك ايضاً معينٌ لا ينضب من الشكوك السعودية القائمة على أسس طائفية او تاريخية. فالرياض لا تثق في طهران لمجرد اختلافها المذهبي، رغم أنه لا يوجد إرث حرب او ما أشبه في تاريخ البلدين. يوجد شبيه لهذه الحالة بين تركيا والسعودية، فهناك ارث تاريخي/ سياسي/ مذهبي يجعل الرياض تتوجّس من تركيا. فالأخيرة بنظر الرياض لها ماضٍ استعماري، وسبق لها أن دمّرت الدولة السعودية الأولى على يد حاكم مصر محمد علي باشا في القرن التاسع عشر، ثم ان تركيا لها طموحات امبراطورية ـ بنظر الرياض ـ شأنها شأن طهران. لهذا، لا يجد الدور التركي ترحيباً في الرياض سواء تعلق الأمر بالعراق او سوريا او لبنان او فلسطين او ليبيا او مصر أو حتى البحرين والصومال!

هناك مشكلة اخرى تتعلق بالسعودية، فهي تتحدث كالكبار، ولها طموحات الكبار، لكن تصرفاتها وطريقة تعاملها مع الآخرين يشابه اية مشيخة او دولة صغيرة؛ والأهم ان تلك الطموحات مبالغ فيها وهي أكبر من حجم وقوة ومكانة الدولة السعودية نفسها. وهنا مربط الفرس: فحين المنافسة مع طهران او مع تركيا، تجد الرياض نفسها الطرف الأضعف على الأرض، ما يجعلها تميل الى العداء، وتحوّل المنافسة السياسية المشروعة للمتنافسين جميعاً الى صراع دموي سياسي تاريخي او طائفي ضد المنافسين فتُرسل اليهم القواعد والدواعش وتسلط عليهم سيف الاعلام والتشويه، وتتآمر عليهم ـ كما هي الحالة مع ايران ـ بغية اسقاط النظام هناك بالسلاح والحرب المباشرة وتمويلها، كما تكشف وثائق ويكيليكس.

وهنا تأتي أزمة أخرى، فالرياض لا تقبل التفاوض مع طهران وأنقرة أيضاً وربما غداً مع مصر، كما هو الحال ايضاً مع الدوحة، لا تقبل ان تتفاوض مع مَن تتنافس معهم، بسبب تقدير سعودي خاطئ للذات وقدرتها.

فالرياض ـ كما رأينا مع قطر ـ لا تتفاهم، بل تفرض شروطاً وتصدر أوامر، وتريد أن تتحول وزارة الخارجية القطرية الى ملحق لوزارة الخارجية السعودية، اعتماداً على التهديد بإغلاق الحدود البرية والجوية وسحب السفراء والحصار السياسي. وبنظر السعودية ليس أمام قطر الا التنازل. وهي هنا مخطئة، في تقدير قوتها وقوة منافسها الذي تريده الانصياع لسياستها في مصر والسودان واليمن وتركيا وغيرها.

والرياض ـ كما هو الحال مع طهران ـ لا تريد أن تتفاوض وتناقش، وتصمّ أذنها عن الدعوات الايرانية المتعددة، أولاً لأنها تعتقد بأنها لا تستطيع أن تفرض شروطها على طاولة الحوار، بالنظر الى تفاوت ميزان القوى، ما يجعلها الطرف الأقل الذي لا يستطيع ان يحقق كل ما يبتغيه؛ وهي تتمنّى لو أن طهران تنازلت لها في بعض الملفات بدون حوار، او قبل الدخول في حوار او نقاش؛ وهذا لم يحدث ولا يبدو أنه سيحدث.

وفي كلتي الحالتين فإن الأهداف العالية التي تضعها الرياض لنفسها، لا يمكن تحقيقها كلها لا بالاعتماد على القوة على الأرض، ولا عبر التفاوض. وحين وجدت الرياض ان الطرف الإيراني ماضٍ في سياساته الإستراتيجية، واصلت هي ايضاً سياستها التصعيدية في كل المحاور: سوريا والعراق ولبنان وغيرها، وجرّبت ما يمكن لقوّتها أن تحققه، فاكتشفت أن النتائج أدنى مما توقّعت بكثير، بل اكتشفت انها تخسر، فما كان منها الا التنازل وقبول التفاوض والتفاهم، ولو متأخراً.

وكما ذكرنا سابقاً، فإن الرياض تأتي للحوار مع طهران ـ إن أتت جادّة ـ بعد ان استهلكت رصيدها ـ إن لم يكن قد فرّطت به في مغامرات التصعيد الذي قام به بندر بن سلطان ـ وبالتالي تأتي الى طاولة الحوار وهي أكثر ضعفاً مما مضى.

والمدهش، ان الطرف الإيراني لم يبدِ حماسة كبيرة لدعوة وزير الخارجية السعودي، وهي دعوة توقع البعض ان تتلقفها طهران بتلهّف، في حين ان الخارجية الإيرانية ردّت على الدعوة السعودية ببرود والقول بأنها لم تتلق (دعوة مكتوبة) من الخارجية السعودية.

ربما يفسّر هذا البرود، بأن طهران لا تريد ان تتعامل مع سعود الفيصل ووزارة الخارجية، باعتباره عنصر التشدد ضد ايران، وهي تريد استكمال الحوار مع الرياض عبر الدائرة المقرّبة من الملك عبدالله في الديوان الملكي، وربما عبر ابن الملك نائب وزير الخارجية عبدالعزيز بن عبدالله.

وربما يكون سبب البرود، هو قراءة طهران للدعوة بأنها غير جادّة وأن هدفها هو تخريب مسار التفاوض القائم مع اشخاص آخرين في الدائرة السعودية الحاكمة.

وربما تكون البرودة الإيرانية في التعاطي مع الدعوة السعودية سببها موقف الرياض المهزوز، فما كانت تلح طهران عليه قبل ستة اشهر، والشعور بالحاجة الى التفاهم مع الرياض بشأنه لم يعد قائماً، بل اصبح عكسياً، فالرياض أكثر حاجة الى الحوار مع طهران اليوم مما كانت عليه بالأمس.

في كل الأحوال، سيتفاوض السعوديون والإيرانيون، وسيقدّم الطرفان تنازلات في سبيل استعادة الاستقرار في المنطقة. لكن هل ستدوم تلك التفاهمات المتوقعة؟ هذا في رحم الغيب، والمؤشرات ـ من خلال القراءة التاريخية للعلاقة بين البلدين ـ غير مشجّعة كثيراً. لكن هناك تحوّل ما في الموقع الاستراتيجي لكلا البلدين، قد يشجعهما على عقد تفاهمات ذات مدى متوسط في أفضل الأحوال. فالسعودية، تخشى خسارة مكانتها الاستراتيجية في عيون الغرب، وهي تدرك بأن انحلال نفوذها في المنطقة كان نتيجة طبيعية لتراجع النفوذ الغربي فيها، وهي تدرك ايضاً بأنها مهما بالغت في قدراتها، تبقى مجرد اداة من ادوات السياسة الغربية نفسها، ولا تستطيع مصادمتها مع الاعتراف بوجود هامش مناورة لدى الرياض استغلته في السنوات الأخيرة، ولكنها لم تحقق منه فائدة واضحة، حين خالفت السياسات الغربية في دول عديدة كما في العراق ومصر والآن في لبنان وايران.

والمزعج اكثر للرياض هو احتمال تضاؤل مكانتها في الاستراتيجية الغربية لصالح العراق وايران. وتلك حكاية اخرى تحتاج ان تروى في أعداد قادمة.

الصفحة السابقة