سمك.. لبن.. تمر هندي!

د. فائز صالح جمال

ذكرني تحليل المقال بهذه الصحيفة المنشور يوم الأحد بتاريخ 10/8/1435هـ تحت عنوان كيف أيقظ «الإخوان» و«اليسار» الهوية المناطقية لدى «صوفية الحجاز»؟ بهذا المثل لما احتواه من خلط متعمد من أجل الخلوص إلى تحريض مكشوف وتصفية لمن اعتبرهم خصوماً دون اعتبار لآثار بث الفرقة و الكراهية بين فئات المجتمع، و بلغة مكارثية و سلوك ميكيافيلي.

في بداية المقال جاءت إشارة إلى التحوّل الهام فيما سُمي البيت السياسي نحو المراجعة الجادة لحقبة زمنية في تاريخ السعودية الحديث بكل مكوناته الثقافية والاجتماعية والتعليمية والدينية والسياسية، و جاء ذكر الحوار الفكري الأول، ولحسن الحظ أنني ممن شهد هذا التحوّل ضمن المجموعة التي تم اختيارها للمشاركة فيه، وشهدت وشاركت في التحاور مع كل المذاهب وكل التصنيفات الدارجة دون أن أحسب على أيٍ منها، لأنني بطبعي لا أنحاز بعد إيماني بمقتضيات الإيمان بالله إلاّ إلى ما أعتقد أنه الحق.

ويلاحظ أن المقال حفل بالعديد من المصطلحات والتصنيفات مثل (بقايا اليسار) و(الناشطين الجدد) و (ظاهرة الدعاة الجدد)، و(الخطاب الديني الحداثي)، و(الروحانية الحركية)، و(التجليات الدعوية) ، و(المظلوميات الهوياتية)، و(الصوفية الحجازية)؛ كما حفل كذلك بالتحريض المكشوف والمتكرر على بيوتات وجهاء الحجاز وممارسة لعبة (كش التراب) إذ جاء: (كانت بيوتات وجهاء حاضرة الحجاز مفتوحة على مصراعيها للخطاب «الديني» الحداثي الجديد خصوصاً في ظل خصومتها التقليدية مع السلفية التقليدية القادمة من شرق الحجاز)؛ ونسي أو بالأحرى تناسى أن الحجاز بتكوينه هو موطن التسامح والتعايش وقبول الآخر، وأفضل مكان لاستيعاب حقيقة الاختلاف، وأنه لا يُفسد للود قضية.

تحدث المقال عما أسماه «التجليات الدعوية» وإحيائها لـ «المظلوميات الهوياتية» وبدأ بعدها في حشد مجموعة من خيوط العنكبوت، ليمرق من خلالها بسهامه إلى لب موضوعه، فجاء بالموجة الثانية للربيع العربي وهي موجة الإخوان المسلمين وشبّكها مع «الصوفية الحجازية» وتلحف «اليسار» بعمامتها، وجاء على المعارضة في الخارج، ولم ينس حشر القاعدة والشقيقة الصغرى في كلامه.

وانطلق بعدها لشخصي الضعيف لينسج حوله خيوطه الواهية، فقدم بالحديث عن البيانات السياسية الموجهة للبيت السياسي وأنها هذه المرة كانت مطعّمة بأسماء حجازية لطالما تبنت الدفاع عن «الآثار المكية»، لينفذ فوراً إلى إشهار فزّاعة الإخوان المسلمين حيث قال : (الدكتور فائز صالح جمال بجانب الدكتور مازن مطبقاني، كانا من أبرز الشخصيات المكية التي وقعت على بيان «المثقفين السعوديين» الذي يدافعون فيه عن شرعية حكم الإخوان المسلمين في مصر، وضد خلع الرئيس السابق الدكتور محمد مرسي).

وبصنعة لطافة - وهذه من اللجهة الجازية الدارجة - بدأ بالربط الناعم بالمعارضة في الخارج عبر الإشارة إلى مقال مزعوم في مجلة الحجاز التي يعلم يقيناً - باعتباره في الوسط الصحافي - أنها تجمع تغريدات ومشاركات من مصادر مختلفة وتصفها مع بعض بشكل مقال.. وكل ذلك تمهيد للهجوم المباشر على كل من يدافع عن الآثار والهوية المكية، وربط حراكهم بشكل مباشر بوصول الإخوان للحكم في دول الربيع العربي في ربط مدهش في فراغه من أي صدقية؛ إذ ما علاقة وصول الإخوان للحكم في دول الربيع العربي، بحراك يطالب بتعزيز الهوية المكية والحفاظ على الآثار والمعالم التاريخية في مكة المكرمة؟!

عندها قفز من ذاكرتي المثل الحجازي: (إيش دخّل طز في سلام عليكم) إذ يقول: (بقدر الوهج الذي حظي به وصول الإخوان للحكم في دول الربيع كان ناشطو «الروحانية الحركية» يعترضون بشكل كامل تقريباً على كل قرار يتعلق بمكة المكرمة).

لقد تكرر في المقال و بشكل متعمد - فيما يُعرف بالإلحاح الإعلامي - الجمع بين الإخوان والصوفية واليسار (سمك.. لبن.. تمر هندي).. و ترديد أوهام الربط المدهش بين حراك الهوية المكية في مكة والإخوان في مصر: «حالة التشظي التي أصابت حكم الإخوان في مصر بعد سقوطه وإدراجه على قوائم الإرهاب في مصر والسعودية ألقى بظلاله على كل حراك فكري متصل به، بدوره خَفَتَ الحراك الذي وصل في أوجه إلى دعم شركات إنتاج برامج يوتيوب. هذا التوجه الذي يعلي الهوية الفرعية على الهوية الوطنية الجامعة).

وهنا أسفر المقال عن تعمد التقليل من شأن الهوية المكية بوصفها هوية فرعية في اختلال واضح في التراتبية الواجبة عند الحديث عن مكة المكرمة، فمكة المكرمة شرّفها الله هي مهوى الأفئدة و قبلة قلوب جميع المسلمين، ومكانتها في نفوس المسلمين تعلو ولا يُعلى عليها؛ ولذلك لا يصح أن توضع هويتها في موضع الفرع، وإنما العكس هو الصحيح، فهوية مكة هي الأصل والأساس للهوية الوطنية وهي الهوية الجامعة.

بقي أن أقول أن المقال حشد الكثير من المصطلحات، و اعتمد الاسهاب و التخليط بين المتناقضات ليخلص إلى توجيه سهامه تجاه أهل الحجاز تحت عناويين مثل اليسار والصوفية الحجازية والهوية المكية؛ والتحريض عليهم بربط حراك بعضهم بفزاعة الإخوان، و لم ينس المنّ على من وصفهم بالأقليات من أبناء الوطن، بلغة تبث الكراهية والفرقة بين فئات المجتمع وتخالف توجه رأس الدولة المعلن تجاه الحوار والإصلاح و الحفاظ على الوحدة الوطنية والعناية بالآثار والتراث الحضاري في المملكة وفي المكتين على وجه الخصوص.

الصفحة السابقة