ماذا عن إجراءات الطلاق؟!

من يحتضر؟ الوهابية أم النظام السعودي؟

تتعرض الوهابية كمذهب وكأيديولوجيا مشاركة في الحكم السعودي الى تحدٍّ غير مسبوق
في تاريخها، ففي هذا الوقت تواجه حملة نقد محليّة وخارجية لم تستثن المعتقد
ولا رجاله ولا سلوكهم أو مواقفهم.. الى أين يقود هذا؟

عمر المالكي

كانت (الوهابية) ورجالها من مشايخ محصّنين ضد النقد والإتهام؛ وحين بدأت الألسن تتحدث وتشير من بعيد اليها واليهم، أصدر الملك عبدالله في ٢٩ أبريل ٢٠١١ أمراً ملكياً تضمن تعديلات عديدة تتعلق بنظام المطبوعات ينص على: (انطلاقاً من هدي شرعنا المطهر،  ولما لاحظناه على بعض وسائل الإعلام من التساهل في هذا الأمر، بالإساءة أو النقد الشخصي سواء لعلمائنا الأفاضل المشمولين بأمرنا رقم (أ/71) بتاريخ 13/4/1432هـ أو غيرهم ممن حفظت الشريعة لهم كرامتهم، وحرّمت أعراضهم، من رجال الدولة أو أي من موظفيها…: يحظر أن يُنشر بأي وسيلة كانت أي مما يأتي : … التعرض أو المساس بالسمعة أو الكرامة أو التجريح أو الإساءة الشخصية إلى مفتي عام المملكة أو أعضاء هيئة كبار العلماء، أو رجال الدولة، أو أي من موظفيها).

لكن الملك وأمراء العائلة المالكة لا بد أنهم قد أدركوا الآن بأنهم غير قادرين على ربط ألسن المواطنين ومنعهم من النقد لآل سعود والملك نفسه، فكيف يمكن منعهم من نقد المشايخ المتحالفين معهم؟

لقد اشتكى المشايخ مراراً لدى الملك وولي عهده من الصحافة ومواقع التواصل الاجتماعي، حيث الجرأة عليهم، والطعن فيهم، وتسخيف معتقدهم وفتاواهم؛ ولكن إن كان هناك من حل لما تنشره وسائل الإعلام المحلية ـ وهي بيد السلطة، فإنه من غير الممكن ملاحقة من يكتب في مواقع التواصل الاجتماعي، خاصة ان كانت الكتابة بدون الإسم الصريح.

والذي حدث ان النقد خفّ بعد القرار قليلاً، لكنه انفجر وتضخّم بعد ذلك، فأصبح الوضع اليوم غير قابل للسيطرة: لا بقوة القانون، ولا بعصا الأمن.

أسباب الهجوم على الوهابية

ما الذي حدث، ولماذا أصبحت الوهابية ورجالها المحصّنون ضد النقد حتى بدون أوامر ملكية، غير قادرين على دفع الاتهامات عن أنفسهم مع وجود تلك الأوامر؟.

المسألة هنا تتعدّى قضية وجود فضاء تعبير لا يمكن ضبطه، ونقصد بذلك مواقع التواصل الاجتماعي، حيث يأتي السعوديون في مقدمة دول العالم استخداماً مكثّفاً لها؛ وهو فضاء لا شك كان له دورٌ في الجأر والشكوى وتوسيع رقعة النقد، خاصة مع الانحباس في وسائل التعبير المحلية المسيطر عليها رسمياً. ولهذا كان المفتي وقبله الملك وعدد من المشايخ يسخرون من تويتر ـ مثلاً ـ ويطعنون فيه، ويحذرون منه، لأنه كان أحد أهم الوسائل التي حطّمت الهالة القدسية التي تحوطهم، مع ملاحظة ان المواطنين يغردون بنحو ستين مليون تغريدة يومياً. كما أن اليوتيوب ـ حيث يشاهد المواطنون نحو تسعين مليون مقطع يومياً ـ ساهم في فضح الممارسات والإنتهاكات التي تقوم بها السلطات السياسية والدينية؛ فضلاً عن الفيس بوك، حيث الملايين المشاركة فيه، وكذلك قل بالنسبة لبقية مواقع التواصل، التي حجب بعضها كـ (الكيك).

لكن الحقيقة أن عوامل عديدة تظافرت لتجعل الوهابية في فوهة المدفع، وتجعل من قضية الدفاع عنها ـ وهو ما يفعله أنصارها بكثافة غير مسبوقة ـ خاسرة في معظم الحالات.

أولاً ـ سقوط الحصانة السياسية

كان تحصين الوهابية ورموزها أمراً طبيعياً، فهم جزء من السلطة السياسية الحاكمة. المشايخ الوهابيون ليسوا متطفلين على السلطة بل صنّاعاً للدولة ومشاركين مؤسسين لأجهزتها، لم يغادروها فيأتوا، بل لا غنى للنظام الحاكم عنهم في ادارتها او ضبط أفراد شعبها.

ولقد كان تحصين الوهابية عن النقد رغم انها ممثل أقلّوي في الدولة (بمعنى ان المنتمين الى الوهابية هم أقلية لا يصلون الى ربع عدد السكان السعوديين)، يعود الى حقيقة أن حصانتها جزء من حصانة آل سعود والعائلة المالكة، اي جزء من حصانة السلطة السياسية نفسها.

ولأن تلك الحصانة السياسية قائمة على (القمع والترهيب وتبنّي الدولة لها كمذهب رسمي وفرضه على الأكثرية) وليس على (الإختيار الحرّ والقناعة) فإن انهيار حصانة السلطة السياسية، أدّى الى انهيار حصانة السلطة الدينية المشاركة معها أو التابعة لها.

وعليه فإن ما بدا أنها ـ أي الوهابية ـ تمثل (معتقد الأكثرية)، وليس فقط (معتقد السلطة) ظهر على حقيقته في أول فرصة تنفيس، لتظهر الوهابية بحجمها الطبيعي، بين مذاهب متعددة في البلاد، وانكشف أنها لا تمثّل اللون الغالب إلا بقهر السلطان، واضطهاد أتباع المذاهب الأخرى. ويستطيع المرء القول اليوم، بأن ما نشهده من نقد لافت لأيديولوجية السلطة السياسية (اي الوهابية) يمثل في واحد منه، ردّة فعل على التهميش والإزدراء والتحقير والتكفير الوهابي لأصحاب الآراء الأخرى والتفسيرات الدينية الأكثر تسامحاً في البلاد، والتي يتبعها أكثرية السكان.

ومن وجه آخر، فإن سقوط الحصانة من الناحية الواقعية عن الوهابية، عبر النقد وحتى السخرية، قد يمثل اعتراضاً ـ في جانب كبير منه ـ على السلطة السياسية نفسها، التي حمت الوهابية ومشايخها، وسلّطتها على بقية المواطنين، وضرب هوياتهم الفرعية، وقمع حرياتهم الفكرية والثقافية. فالإعتراض على الوهابية هو اعتراض على آل سعود ايضاً.

ثانياً ـ جمود المؤسسة الدينية

وهو جمود محمود بنظر السلطة السياسية. على الأقل هكذا كان رأيها. فالوهابية في الأساس مدرسة (عقدية) وليست (فقهية) وأهم قيمة لها بالنسبة للنظام، أنها مؤسسة (تشرعن) الحكم القائم؛ وهي شديدة اللين تجاهه، وهذا مغرٍ لكل نظام مستبدّ في إبقائها على حالها، فكيف بها اذا جمعت مع ذلك (شدّتها وقسوتها) على خصوم النظام، وأصبحت أداة (أمنية) ضابطة للسلوك الجمعي اجتماعياً وسياسياً.

لكن هذا الجمود المحمود سلطوياً في شأن منح الشرعية السياسية، بدا وكأنه مبالغٌ فيه. فالوهابية كما قلنا أقلّوية، وهي بالتالي تشرعن النظام في محيطه الاجتماعي لا في خارجه غير الوهابي. وبالتالي فهي شرعية محدودة. ثم إنها شرعية بدت منتقصة من جهة أن الوهابية (كفكر، وليس كمؤسسة دينية رسمية) تشرعن الخروج على النظام السياسي السعودي، لأنّه ـ في واقعه ـ غير متقيّد بآرائها في معظم الحالات. ومن هنا، فإن الجمود الفقهي للوهابية، والنظر الى الأمور الأخرى من زاوية عقدية او بقراءة عقدية، دفع النظام لتجاوز آرائها، وهو بفعله أسقطها من عين الجمهور، ولم يلتزم بفتاواها. ولو كانت المؤسسة الدينية ومشايخها أصحاب اجتهاد كما يزعمون، لأبدعوا آراءً تتماشى مع العصر من خلال قراءة واقعية للنصوص ومن خلال فهم أوضح للواقع؛ ولما خرج على النظام من يكفّره بتهمة المروق عن الدين وتحكيم غير الشرع!

بكلمة أخرى، كان يفترض في الوهابية، وهي إذ تشرعن حكم العائلة المالكة الوراثي سياسياً، أن يكون لديها ـ على الأقل ـ اجتهاد فقهي (دولتي) معاصر، خاصة وأنها شريك في ادارة الدولة منذ قرن اي منذ تأسيسها، ويفترض فيها أنها قريبة من فهم المشكلات التي تواجهها الدولة ومؤسساتها في هذا العالم المتلاطم، والحاجات المتغيرة؛ ولكن الجمود الوهابي شمل كل شيء تقريباً، حتى في الولاء السياسي للنظام، وهو ما أضعفهما معاً: أولاً، أعاق تشريعات الدولة؛ وبالتالي أعاق نموها الطبيعي، واضعف أداءها. وثانياً، حمل الجمود المواطنين على كره المؤسسة الدينية لأنها خنقتهم اجتماعياً عبر توسعة فضاء (الحرام) بدون مبررات سوى مقولة (درء المفاسد)؛ بل أن الجمود الوهابي وسلوك المشايخ، أدّى الى ردّة والى إلحاد والى تهتّك اجتماعي غير مسبوق. وثالثاً؛ فقد أدّى الجمود الى شرعنة الخروج على النظام السياسي من زاويتين: من الوهابيين الأصليين الذين يرون عدم تمسك النظام بمقولات الوهابية؛ ومن المواطنين الطامحين الى الإصلاح السياسي الذي وقفت المؤسسة الدينية الوهابية مع آل سعود لمنعه باعتباره غير ديني (تغريب يخالف الحكم الإسلامي)، وكأن الإستبداد هو الموروث الديني الصحيح لدينا!

ثالثاً ـ تحول الوهابية من أداة نفوذ خارجي الى استعداء على الداخل

استخدمت الوهابية كأداة في السياسة الخارجية من وجهين أيضاً: أولاً ان الرياض ترى ـ وهو صحيح ـ ان النفوذ السياسي المدعّم بنفوذ عقدي (اي بانتشار الوهابية) أكثر ديمومة، مما لو كان معتمداً على السياسة والمصالح الإقتصادية فحسب. وتجد تطبيقاً لذلك كأنجح ما يكون في (الباكستان) والى حد ما (اليمن). وثانياً، فإن الوهابية استخدمت في محاربة الخصوم في الخارج اضافة الى الداخل: (الحرب على السوفيات الملحدين!؛ الحرب على القوميين الناصريين والبعثيين الكافرين!؛ والحرب على الشيعة الروافض المشركين! وغيرهم). تجلّي استخدام الوهابية في الحرب لم يكن فقط بالمقولات العقدية، والكتب، والفتاوى، بل وصلت الى ارسال المقاتلين، كما في أفغانستان، ثم استخدام افرازات ذلك القتال ضد الآخر المعادي كما هو الحال مع القاعدة وداعش، وان تمت محاربتهما محلياً.

وقد تأكدت حاجة الرياض لمقاتلي الوهابية في الخارج اكثر من أي وقت في محاربة النفوذ الإيراني، اعتماداً على اشعال الحرب الطائفية بين الشيعة والسنة، فالرياض لا جيش لها يستطيع المواجهة او يقوم بالتخريب كما تفعل التنظيمات التي اصبحت طلائع للسياسة الخارجية وهذا ما أشار اليه مسؤول الاستخبارات البريطانية الأسبق ريتشارد ديرلوف في تصريح لصحيفة الإندبندنت البريطانية (١٤/٩/٢٠١٤) حيث قال ما نصّه: (يعامل حكام المملكة الجهاديين في الداخل كأعداء ويدعمونهم في الخارج لصالح السياسة الخارجية السعودية).

في زمن مضى، كان هناك ترحيب عربي واسلامي بالنسخة السعودية للإسلام (الوهابية) فقبولها بها، ومنح الوهابيين التسهيلات لإقامة مراكز اسلامية ونشر دعوية وكذلك بناء مساجد يسيطرون عليها، كان جزءً من جلب الدعم المالي السعودي؛ وكان جلّ هذه الدول ترى أن الإسلام السعودي هو (اسلام معتدل) بالمنظور السياسي، حتى وان كان متطرفاً في التكفير؛ في حين كان يُنظر الى الإسلام المسيّس (الشيعي او السنّي/ الإخواني) الخطر الأكبر. وتوقعت هذه الدول بأن الإسلام السعودي المتحرّك في أراضيها منضبط بسيطرة العائلة المالكة السعودية على المشايخ وعلى كامل النشاط الدعوي في الخارج، ولذا لم تكن هناك خشية من هذه النسخة من الإسلام السعودي الذي لا يتعاطى السياسة ولا يحارب الحكام، بل يشرعن حكمهم في أكثر الأحوال.

جاءت أحداث ٩/١١ فقلبت المعادلة رأساً على عقب. فقد حصدت القاعدة ما زرعته الرياض في عقود؛ وتبيّن لها أن كل ما تمّ زرعه سعوديا/ وهابياً صار محطّ شك، فأغلقت معاهد، ومُنعت كتب، كما منع دخول مشايخ وهابيين الى العديد من الدول. لقد تمّ تسييس ـ بل تفجير ـ المعتقد الوهابي، وتظهيره على حقيقته بعد عقود من السبات بدأت منذ القضاء على حركة (إخوان من طاع الله/ الجيش السعودي الوهابي الذي صنع ملك آل سعود).

الآن بدت الوهابية في نظر النظام وكأنها تستجلب العداء الخارجي، ولم تعد صالحة للنفوذ الخارجي كما كانت، ما حدث على العكس تماماً. أي تحوّلت الوهابية من أداة نفوذ في حريم الآخر، الى أداة نفوذ للآخر للضغط والتشوية وحتى الإبتزاز للنظام السعودي.

نجت الرياض من أزمة ٩/١١؛ ربما بثمن كبير غير متوقع، وهو انفجار العنف داخل السعودية نفسها بين عامي ٢٠٠٣ الى ٢٠٠٧. مئات قتلوا وجرحوا، في التفجيرات في المدن الرئيسية خاصة الرياض. بدت الرياض وكأنها ضحيّة وليست سبباً في المشكلة، نعم كانت ضحية ما زرعته. وسرعان ما تناسى الجميع الموضوع وتمت لفلفته أمريكيا ليدفع العراق ثمن جرم الرياض فيُحتل امريكياً.

تعود المسألة من جديد مع داعش، فيكتشف الغربيون ان الرياض لم تكفّ عن دعم القاعدة وفروعها، واستخدامها خارجياً في حروب مع خصومها في العراق وايران ولبنان وسوريا. ولكي تكفّر عن سيئاتها اظهرت الرياض مؤخراً، وكما هي العادة، نفاقاً جعلها تتصدّر مشهد الحلف الدولي (الأميركي) على داعش!

الأمراء منزعجون من المؤسسة الدينية اليوم، لأنها بدت كلّها برجالها ومشايخها ومسؤوليها وجامعاتها وأئمة مساجدها وهيئة أمر معروفها، ملتحمة مع الفكر الداعشي. لا بدّ ان تتحمّل هي الثمن، وليس النظام الذي استخدمها!

داعش في الشمال/ العراق؛ والقاعدة في الجنوب/ اليمن، ومؤيدو النظام ـ سابقاً ـ والذين هم الوهابيون المتدعشنون ينتظرون راياتٍ سود ليقفزوا على حكم آل سعود في الداخل. فيما العالم لازال يشير بإصبع الإتهام ـ صراحة هذه المرة وليس مواربة ـ الى حقيقة ان الرياض هي اساس المشكلة ومنبع الفتنة.

هل الوهابية تحتضر؟

في مثل هذه الأجواء المشوبة بالقلق بين المواطنين، وحتى بين رموز النظام، يتصاعد النقد الحاد للوهابية ـ وبالإسم أحياناً؛ نقدٌ لم يوفّر هيئة كبار العلماء، ولا مشايخها الإسم تلو الآخر؛ ولا حتى المفتي نفسه الذي تعرّض مراراً للسخرية في مواقع التواصل الاجتماعي. نقدٌ وصل الى مؤسس المذهب محمد بن عبدالوهاب، فاعتبره المواطنون تكفيرياً، ومثله ابن تيمية الذي شكّل المادة الأساس للفكر الوهابي. مؤسسات الوهابية العديدة كهيئات الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر انخرط الكثير من اعضائها كمقاتلين مع داعش، وائمة المساجد ـ والغالبية الساحقة منهم وهابيون بقرار سلطوي ـ رفضوا دعوة النظام للدعاء على داعش في صلوات الجمع، فيما يكشف النظام بين الحين والآخر قوائم أسماء معتقلين من أنصار القاعدة وداعش، وكلهم من ذوي الخلفية الدينية الوهابية، التي يفترض انها حليفة لأمراء آل سعود.

يترافق هذا النقد ـ ويدعمه ـ مع الفشل الكبير في أداء الدولة، وانحدار نفوذها السياسي اقليميا، وتبنيها سياسات خارجية غير مرغوبة شعبياً، وشيوع الفقر والبطالة والفساد دونما حلول في الأفق؛ وتصاعد ماكنة القمع الأمنية؛ والإنسداد السياسي.. كل هذا جعل من نقد الوهابية والنظام أمراً غير عادي في كل تاريخ المملكة؛ وجعل الخطر على وجود الدولة نفسه، أكبر بكثير مما يتوقعه المراقب.

هذه المؤسسات، كهيئات المنكر، وسلك القضاء، ورئاسة الحرمين، ووزارة العدل، ووزارة الشؤون الإسلامية، وجامعات تخريج مشايخ الوهابية (محمد بن سعود وغيرها) كلها صارت تحت القصف الشعبي كتبا ومقالات في الصحف، وتغريدات في تويتر، وفيديوهات يوتيوب، وصور تتناقل عبر الفيس بوك والواتس آب. ولأن الأخطاء تتكرر من هذه المؤسسات، وممارساتها لم تتغير، كانت هناك مادّة مستدامة لتغذية الشعور بالكراهية لها، وعدم القدرة على التعايش معها (يلاحظ ان هناك مئات الآلاف من المواطنين غادروا البلاد للعيش في ديار أخرى، خليجية واوروبية وأميركية وكندية واسترالية وغيرها).

ولأن ضحايا الوهابية في الداخل كثيرون، حيث لم يوفر الوهابيون أحداً صاحب رأي سياسي او ثقافي او مذهبي مختلف إلا وكفروه وفسقوه ونعتوه بالشرك والإلحاد.. فإن الهجوم عليها وعلى رجالها وتخطي حدود الأوامر الملكية صار معتاداً حتى بين الصحفيين الرسميين انفسهم، الذين يتهمون الوهابية بأنها منبع داعش، وان المشايخ وممارساتهم أساس التطرف والتدعشن!

ترى هل هي فورة شعبية (ولا نقول ثورة) ضد الوهابية؟ هل النظام قادر على إيقافها بعد ان حصّنها ورجالها من النقد لعقود طويلة؟ هل ما يُنشر ويُتداول ضد الوهابية مخطط له (رسمياً) أو مرضي عنه (رسمياً)؟ وهل هو صحيح ما يتداوله البعض (المغرد مجتهد مثلاً) من أن الملك عبدالله اقتنع بالتخلّي عن الوهابية؟ وفي آخر الأسئلة يأتي السؤال الأكبر: هل الوهابية تحتضر، وما تداعيات الإحتضار على النظام السعودي نفسه؟

علينا ان نقرر عدّة حقائق قد تحوي جزءً من الإجابة على التساؤلات آنفة الذكر: 

أولها، أن منتقدي الوهابية والطاعنين في مشايخها هم أكثرية السكان، وحتى بين الوهابيين او لنقل (النجديين)، هناك الكثيرون ممن يتمنون زوالها او على الأقل خضد شوكتها، وتقليص نفوذها، إنقاذا ـ بنظرهم ـ لمُلك آل سعود، ولوحدة البلاد المهددة بخطر التفكك، ولربما انقاذا لمغانم السلطة التي تقع في معظمها بأيديهم. ويتسع نقد الوهابية ليشمل العالم الإسلامي بمجمله، بل يمكن المجازفة في القول بأنه يشمل كل العالم؛ ويكفي أن نلقي نظرة على ما تكتبه الصحف الغربية وتصريحات المسؤولين والخبراء في مراكز الدراسات لنكتشف ان الوهابية يُنظر اليها بأنها خطر داهم ليس على السعودية وحدها، وإنما على الجميع.

ثانيها، من الناحية الواقعية، فإن الوهّابية صارت اليوم بالنسبة لأمراء العائلة المالكة (عبئاً) بعد أن كانت (ميزة) للنظام السياسي. وبالحساب المصلحي أيضاً، فإن تخلّي آل سعود عنها مفيدٌ لهم، في حالة واحدة فقط: إذا ما قرروا البدء بعهد جديد، وليس الترقيع، او اعادة انتاج الفكر الوهابي من جديد، فهذا الفكر لا يمكن أن يتعايش حتى مع مصالح الدولة وتطورها، ومع حاجات مجتمعها. يمكن لآل سعود أن يتخلّوا عن الوهابية إلا في جزئية ايجاد البديل لمشروعية حكمهم، فبمشروعيتها يحكمون، وبالتالي فإن إعادة صياغة (مشروعية الحكم) تتطلّب اصلاحات سياسية لا يريد النظام الإقدام عليها. إن احتكار السلطة السياسية بيد العائلة المالكة يتطلب الخروج من فضاء نجد الإجتماعي والسياسي، الى فضاء الشعب بكامل فئاته، وأن تسمو العائلة المالكة على الفوارق الموجودة، وان تشرعن نفسها وفق ثقافة مختلفة عمادها المساواة والمواطنة. ولأن هذا الطلب كبير، فآل سعود يصعب عليهم أن يتخلّوا عن القدر القليل من المشروعية الآتي من الوهابية، ومن محيط نجد الاجتماعي.

ثالثها، ليس المطلوب ولا من الممكن القضاء على الوهابية كفكر ومعتقد، فالمعتقدات لا تموت بالعنف ولا بالتهميش، ولا أدلّنا على ذلك ما فعله آل سعود ووهابيتهم مع الأكثرية السكانية في المملكة والتي لم تتحوّل رغم القسر والإجبار الى الوهابية. انما المطلوب وضع الوهابية بمستوى المذاهب الاسلامية الأخرى التي ينتمي اليها الشعب؛ بدون امتيازات خاصة لمذهب دون آخر، لأن كل المذاهب هي مذاهب أقلّوية وربما مناطقية ايضاً، اي انها تمثّل فئة من السكان، غالباً ما تسكن منطقة بعينها، وهي منطقة تختلف عن غيرها ثقافة وجغرافيا وتاريخ وهوية.

رابعها، نعم فإن الوهابية تذوي رغم دعم السلطات السياسية لها؛ فهي كمذهب متخلّف الى أبعد الحدود، غير قادر على الإقناع رغم الدعم المادي المقدم له والانفاق بلا حدود عليه؛ وزيادة على ذلك فهي اي الوهابية لها نزعة عنفية ضد الاخر المختلف غير مسبوقة في التاريخ، اللهم إلا من قبل الخوارج، ومثل هذا المذهب غير قادر على احتواء الآخر واستيعابه او التصالح والتسامح او حتى التعايش معه، كما أن الدولة ستجد صعوبة ـ فيما لو قررت ـ استيعاب هذه الوهابية من خلال نظام وقانون يساويها بغيرها، وبالتالي فإن احتماليات تفجير ما تبقى من عنفها على النظام السياسي والمجتمع أمرٌ وارد أيضاً.

خامساً، في حال الإستمرار في التحالف الوهابي مع آل سعود، فإن الطرفين سيخسران، وكما صعدا معاً في تأسيس الدولة والسيطرة على خيراتها وفرض خيار نجد والوهابية وآل سعود على الأكثرية الشعبية، فإن انهيارهما معاً هو الأقرب والمرجّح؛ ما لم يفكّ أحد الطرفين التحالف التاريخي، فيتم إنقاذ المذهب نفسه من أن يكون مستخدماً لمصالح آل سعود؛ ويعيد بناءه الداخلي وفق شروط أخرى (تبدو شبه مستحيلة اليوم).

أو يقوم آل سعود بالمبادرة، فيعلنوا الإنفكاك عن الأيديولوجية التي تبنّوها وصنعوا بها ملكهم، فينقذوا حكمهم (على الأرجح) ويمنعوا الدولة من التفكك، وذلك من خلال دفع أثمان للأكثرية الشعبية التي يفترض ان تحتضن النظام السياسي المعدّل واعتبار تلك الأكثرية هي البديل الصحيح لإخراج الحكم من قوقعة أقلّويته المذهبية والمناطقية التي استمر فيها غير قادر على النمو طيلة العقود الماضية. هذا الحل مكلف لا شك، ولا نظن أن آل سعود سيميلون اليه، فهم حتى الآن يستشعرون بأنهم لا يستطيعون الاستمرار في الحكم بدون السيامي الوهابي. وفي أقصى الأحوال قد يقومون بتخفيض دور الوهابية، ولكن مع ابقاء سلطة غير قليلة بيدها، ومع ابقاء الاعتماد عليها كعصا في وجه المعارضين السياسيين وطلاب الإصلاح!

سادسها، وختاماً، نعم هناك فورة شعبية ـ إن لم تكن ثورة حقيقية ـ ضد الوهابية كفكر، وضد مشايخ الوهابية كسلوك وكمسؤولين؛ وهي فورة تتعدّى الحدود السعودية الى العالمين العربي والإسلامي؛ لتصل الى كل أصقاع العالم، ولاتزال في تصاعد. انها ثورة ستضعف الوهابية ولن يعود لها ألقها لعقود عديدة قادمة. ولأنها كذلك، فإن الأمراء ـ في واقع الأمر ـ مذهولين لا يعرفون كيف يتعاطون مع هذا الطعن غير المسبوق في أيديولوجيتهم، وليس لديهم المبرر او الحجة لطرحهما أمام الناس بمثل ما فعلوا من قبل بعد أحداث ٩/١١. والسبب ان تكرار المشكلات والمصائب والجرائم جراء تبنّي الوهابية وخطابها محلياً أفقدت النظام القدرة على اقناع حلفائه الغربيين ـ الذين طالبوه ذات يوم بالتخلّي عنها ـ بمثل ما فعل من قبل عبر الزعم بأنها دعوة سلمية لم تؤذ احداً منذ ثلاثة قرون، كما قال وزير التعليم العالي النجدي في ٢٠٠٤!

الصفحة السابقة