من الدعوة الى «الدولة»

الوهابية في العراق

محمد شمس

من الثوابت في تاريخ الاسلام في العراق أن الأخير كان أقرب الى مدرسة الرأي منه الى مدرسة الحديث، وهذا الإفتراق نشأ مبكراً حين ظهرت مدرسة الحديث في المدينة المنورة في مقابل مدرسة الرأي في البصرة، ووجدت التيارات العقلية في العراق مرتعاً خصباً لنشاطها، فكانت المعتزلة، على سبيل المثال، نشأة عراقية. على المستوى المذهبي، يتقاسم السنّة في العراق المذهبين الحنفي والشافعي، باستثناء بعض الجيوب الصغيرة في الجنوب المتاخمة للجزيرة العربية مثل مدينة الزبير جنوب البصرة التي تعود جذور سكّانها الى نجد، فهم يعتنقون المذهب الحنبلي، وبالتالي هم أقرب الى الحركة الوهابية.

من الثوابت أيضاً أن العراق على خصومة شديدة مع الوهابية، للفارق الكبير في التكوين الذهني بين سكّان البلدين أولاً، ولما أحدثه الوهابيون في غاراتهم الوحشية على مناطق متفرّقة من العراق، سواء المناطق الحضرية أو مواطن العشائر المنتشرة على أطراف الصحراء الفاصلة بين العراق والجزيرة العربية. ويذكر ياسين العمري في كتابه (الدر المكنون في المآثر الماضية من القرون): «أن الوهابيين كانوا يظهرون هنا وهناك غرب الفرات فيقطعون الطرق ويغيرون على القرى. وفي إحدى الغارات عام 1800، نهبوا قافلة كانت قادمة من الشام، بالقرب من بلدة عانة، وقتلوا عددًا من العانيين، وأغاروا على عانة نفسها ونهبوا بعض بيوتها وقتلوا أربعين شخصاً من سكانها، وأغاروا على كبيسة ولكنها قاتلتهم فولوا الأدبار».

بطبيعة الحال، شكّلت الغارة الوهابية على كربلاء مفصلاً تاريخياً حاسماً في العلاقة بين العراق عموماً والدولة الوهابية، حيث أقدم الوهابيون على ارتكاب مجزرة في شهر إبريل 1802. ويروى عالم الاجتماع العراقي علي الوري في كتابه (لمحات اجتماعية ج1 ص 190) ما حدث كالتالي: «دخل الوهابيون مدينة كربلاء وهم شاهرون سيوفهم يذبحون كل من يلقونه في طريقهم ولم يستثنوا منهم الشيوخ والنساء والأطفال..»، وقدّر عدد من قتلوا بثمانية آلاف شخص؛ ثم شنّوا غارة أخرى على النجف ولكنها فشلت.

وفي 11 مارس سنة 1922 قام «الاخوان»، الجيش العقائدي الذي أنشأه عبد العزيز، وبصورة غادرة ومباغتة بارتكاب مجزرة في لواء المنتفك بالعراق ضد مدنيين عزّل، إذ تسلل عناصر «الاخوان» المدجّجين بالسلاح الى داخل مراعي لواء المنتفك، وضربوا طوقاً حول مجاميع الرعاة العزّل ثم جمعوهم مع نسائهم وأطفالهم وقتلوهم جميعاً ونهبوا ما قدروا عليه من حيوانات وحلي وذهب، فيما كان رجال المنتفك مشغولين بموسم الحصاد في ذلك الشهر.

وفي رد فعل على المجزرة، عقد مؤتمر في كربلاء دعت إليه المرجعية الدينية الشيعية في النجف، بدعم من قبائل وعشائر العراق وبحضور قيادات دينية وسياسية سنيّة. وفي 5 إبريل 1922 عقد اجتماع في تكية الخالدية في العاصمة بغداد لمناقشة أمر الاخوان الوهابيين وتوصل الحضور الى إطلاق صفة «الخوارج» على الإخوان، وانتخب وفد للمشاركة في مؤتمر كربلاء واختير الشيخ داود وابراهيم الراوي وعبد الجليل الجميل، وخلصوا الى كتابة فتوى توجب مقاتلة «من يدّعي الإسلام ويحكم بشرك من خالف معتقدهم من جماعات المسلمين، مستحلين قتالهم ودماءهم وأموالهم وسبي ذراريهم بغير سبب وقد هجموا على بلاد المسلمين عداءً وبداءً».

كان لمؤتمر كربلاء والفتوى الصادرة عن علماء العراق السنة والشيعة دورهما في الضغط على المندوب البريطاني بيرسي كوكس واضطراره الى الإسراع بتوقيع معاهدة العقير سنة 1922 والتي تتضمن بنداً بعدم الاعتداء، وارغام عبد العزيز وجيشه «الاخوان» على الالتزام بالحدود المرسومة من قبل السيد البريطاني!

يمكن القول بأن من تداعيات الحروب الوهابية على العراق، أن العقيدة الوهابية لم يكن مرحّباً بها وسط العراقيين السنّة على وجه الخصوص. وفي إطار الاسلام السياسي كان التفاعل السني الشيعي يتم عبر حركات مثل «الاخوان المسلمين» و»حزب التحرير» ولم يكن عبر أي من التنظيمات السلفية، التي لم تكن موجودة حتى الحملة الايمانية في مطلع التسعينيات وبقرار من النظام العلماني البعثي الذي كان يرى بأن مواجهة «الانتفاضة الشعبانية» عام 1991 كما يطلق عليها شيعة العراق، أي بعد سقوط 14 محافظة من أصل 18 مجموع محافظات العراق. حينذاك ابتكر نائب الرئيس عزّت الدوري، بالرغم من خلفيته الصوفية النقشبندية، فكرة تشجيع السلفية الوهابية على التمدّد داخل العراق لخلق عصبيّة سنيّة في مواجهة التمرّد الشيعي.

صحيح أن محمود شكري الألوسي (ت 1924) قد يكون من بين الأعلام السلفية الوهابية في العراق، حيث تأثر بالوهابية وتبنى عقائدها، وله كتب في الدفاع عنها والترويج لها منها (مسائل الجاهلية) وفيه شرح لمسائل الجاهلية لمحمد بن عبد الوهاب، وتاريخ نجد، وغاية الأماني في الرد على النبهاني.

ويرد ذكر مجموعة أخرى من الدعاة السلفيين العراقيين مثل عبد السلام الشواف، ونعمان الاعظمي، ومحمد تقي الدين الهلالي، ومحمد بهجة الأثري، والشيخ صبحي السامرائي والشيخ عبد الحميد النادر.. ولكن لم يؤسس هؤلاء لما يمكن أن يطلق عليها مدرسة سلفية عراقية، بل كانت مستهلكة للوهابية النجديّة في الأغلب.

ومع ذلك، فإن الجيل السلفي الأول كان يختلف عن الوهابيين في الموقف من: الشيعة والمتصوّفة، فكان أفراد الجيل الأول يتحفّظون إزاء تكفير الشيعة، وكانوا يقيمون علاقة وديّة معهم، وكذلك مع الصوفيّة، وكان الألوسي نفسه من درس على الشيخ الصوفي خالد النقشبندي، ولعل ما يحتفظ به «الدرر السنيّة في الأجوبة النجديّة» من جدل ساخن بين الشيخ السلفي العراقي عبد الرحمن السويدي (ت1805) والشيخ محمد عبد الوهاب حول مسألة التكفير يكشف عن تباين في الموقف.

على الخلاف من ذلك، ما يظهر الجيل السلفي الوهابي الجديد الذي يتمثّل في تنظيمات السلفية الجهادية مثل «داعش» و»الجيش الاسلامي» وكتائب ثورة العشرين وغيرها حيث تبدو النزعة التكفيرية شديدة، وتتجاوز الشيعة والصوفية بل تطاول الأغلبية الساحقة من المسلمين، تماماً كما هو الموقف العقدي الأصلي للوهابية النجديّة.

يتحدّث السلفيون العراقيون عن محاولات سابقة لناحية تأسيس جماعة سياسية بجناح عسكري مثل (جماعة التوحيد السلفية) في ستينيات القرن الماضي، الا أنها فشلت في أن ترتقي الى مستوى الأحزاب الدينية الأخرى مثل الحزب الإسلامي.

مهدي الصميدعي، الامين العام للهيئة العليا للدعوة والإرشاد
والفتوى ومرجع السلفيين العراقيين

ويقدّم الباحث العراقي طارق الدليمي رواية عن مجهود سلفي استثنائي في اختراق المجال السياسي العراقي في ستينيات القرن الماضي، عبر محاولة الشيخ السلفي عبد الحميد نادر إدخال بعض الشباب الى الكلية العسكرية بغرض تشكيل كتلة ضباط سلفيين تدعم النظام السياسي العام. يذكر الدليمي بأن بعضهم تبوأ مراكز مهمة في الحرس الجمهوري، وساهموا في انقلاب 17 تموز (يوليو) 1968 بالتعاون المباشر مع بعض الضباط «المتدينين» في الجيش، والمتعاطفين مع الحركات القومية ومنها حزب البعث ـ مجموعة أحمد حسن البكر وتابعه صدام حسين. ولكن خطة التعاون بين الاسلاميين والقوميين فشلت بسبب، بحسب الدليمي، اعتقاد القادة البعثيين بأن الاسلاميين السنّة على ارتباط بالمحور السعودي ـ الإيراني.

وبعد سيطرة صدام حسين على السلطة عام 1979 باستبعاد أحمد حسن البكر، الرئيس العراقي الأسبق، نظم الضبّاط السلفيون أنفسهم في إطار عسكري ومنهم الضابط سعدون القاضي «الذي أصبح بعد الاحتلال الأميركي 2003، ولحد الآن، القائد الفعلي لحركة «أنصار السنة»، وكذلك الضابط الطبيب محمود المشهداني الذي أصبح في انتخابات العام 2005 رئيساً لمجلس النواب. وبحسب رواية الدليمي، فإن مخابرات صدام حسين أجهضت الحركة الوليدة وقتلت بعض أفرادها وسجنت الآخرين (طارق الدليمي، حين ولد «داعش» من رحم الاحتلال، السفير، 7 أكتوبر 2014).

وخلال الحرب العراقية الإيرانية، وصعود الخطاب المذهبي والعلاقة الوديّة بين النظامين السعودي والعراقي، كانت الظروف مواتية لناحية السماح لنشاطات سلفية دعوية وتنظيمية بالعمل لمواجهة الأحزاب الدينية الشيعية في العراق، حيث سمح للكتاب الوهابي بالدخول الى العراق والانتشار في المحافظات السنيّة.

وفي تلك الظروف، بدأت السلفية تؤسس لنفسها واقعاً شعبياً عبر بناء المساجد، حيث بدأت مظاهر لبس الثوب القصير واللحية الطويلة والغترة البيضاء، وهو الزي الوهابي الشائع في المملكة السعودية، وقد بدا أن ثمة إصراراً على تأكيد هذه الهوية السلفية عبر الأزياء الخاصة، والتي انتشرت وسط الشباب من صغار السنّ. وهذه كانت تمثّل مرحلة انتقالية بين السلفية التقليدية والسلفية الجهادية حيث بدأت بعض إرهاصات الردكلة تظهر على تصرفات الشباب السلفي العراقي من خلال التصدّي لبعض الممارسات الاجتماعية كالدعوة للإلتزام بالحجاب الشرعي، من وجهة نظر وهابية محض، ومهاجمة محلات بيع الأشرطة الموسيقية والأفلام السينمائية، ودار السينما خصوصاً في الأماكن ذات الأغلبية السنيّة مثل الفلوجة، وكل ذلك كان يجري تحت غطاء الحملة الايمانية.

حدث انقطاع في التيار السلفي العراقي خلال أزمة الخليج الثانية ونتيجة تدهور العلاقات السعودية العراقية، وقيل حينذاك بأن تدابير أمنية صدرت بحق سلفيي العراق، الا أن الوقائع تفيد حينذاك بأنهم لم يتعرّضوا لضربات قاصمة، فلم يتم إعدام أي منهم، كما كان يفعل صدام في المعارضين الشيعة أو الأكراد أو السنّة غير السلفيين. تتحدث بعض المصادر عن انقسامات سلفية خلال تلك الفترة، حيث ظهرت جماعة عرفت باسم «جماعة فائز الزيدي»، وكانت تتبنى «خليطاً من الأفكار السلفية وفكر حزب التحرير وأفكاراً خاصة به»، حسب محمد أبو رمان (السلفية في المشرق العربي ـ من كتاب الحركات الإسلامية في الوطن العربي ـ 3 أكتوبر 2013 ـ مدونة محمد أبو رمان)، وكانت المجموعة تعتمد تكتيكات في الانتشار تشبه الى حد كبير جماعة التبليغ والدعوة، وهاجم ابن باز، والاخوان المسلمين وسيد قطب، ونفّذ هجمات مسلّحة ضد الشيعة، وقيل عن ارتباطات للمجموعة بجهات أجنبية، وبذلك تحوّل الى مصدر إرباك للنظام العراقي الذي قرّر التخلص منه هو وأربعة من رفاقه في أكتوبر 1990.

ولكن تبدّل الحال لاحقاً لصالح التيار السلفي. ويقول يحي الكبيسي: «استطاع السلفيون الانتشار بشكل لافت في التسعينيات، وصل الأمر ذروته في العام 1995 عندما تمكنوا من الهيمنة على بعض الجوامع» (يحي الكبيسي، السلفية في العراق: تقلبات الداخل وتجاذبات الخارج، الجزيرة نت، 06 مايو 2013).

بقي التيار السلفي في ظل النظام العراقي السابق محافظاً على وظيفته الدعوية ولم يجنح الى العمل المسلّح، ولم تكن تربطه بالقاعدة أدنى رابطة ولا حتى بالتجربة الأفغانية، بالرغم من مشاركة نفر قليل للغاية قد لا يتجاوز أصابع الكف الواحدة في الجهاد الافغاني. في واقع الأمر، كان التيار السلفي العراقي أقرب الى السلفية المحافظة في المملكة السعودية والممثلة في المؤسسة الدينية الرسمية، وطبقة العلماء المقرّبين من السلطة أمثال الشيخ بن باز، وابن عثيمين.

بدأ التحوّل في السلفيّة العراقية بعد العام 2001، وتأكّد خلال الحرب الأميركية ـ البريطانية لاسقاط نظام صدام حسين في مارس ـ إبريل 2003، حيث بدأت تتبرعم اتجاهات راديكالية داخل التيار السلفي العراقي، مستغلة مخزون السخط السنّي بعد سقوط النظام في إبريل 2003، والممارسات السياسية الخاطئة للنظام الجديد، وسياسات الاحتلال الأميركي والسجون التي أوجدها بعد سقوط صدام حسين مثل بوكا وسجن مطار بغداد وابو غريب، حيث شكّلت هذه العوامل مجتمعة محرّضات على خلق بيئة مواتية لاحتضان التنظيمات التكفيرية وتالياً المسلّحة.

يتحدّث الكتّاب العراقيون عن تجربة «أنصار الإسلام» كجماعة سلفيّة مسلّحة نشأت في 10 كانون الأول (ديسمبر) 2001 بوصفها أول تجربة في السلفية الجهادية العراقية، بقيادة الملا فاتح كريكار (وإسمه الحقيقي نجم الدين فرج وهو معتقل لدى السلطات البلجيكية حالياً) في السليمانية في كردستان العراق، وهذه الجماعة تمثل ائتلافاً لثلاث جماعات مسلّحة وهي «جند الاسلام» و»حركة التوحيد» و»حماس الكردية»، وكانت تتخذ من منطقة الطويلة والبيارة قرب الحدود الايرانية مركزاً لها..

بيد أن الملاحظ أن هذه الجماعة بقيت تعمل بصفة مستقلة وبعيداً عن نشاط التيار السلفي العراقي العربي، ولم نعثر على أدلة تفيد بتواصل قيادات جماعة «أنصار الاسلام» مع قيادات سلفية عراقية في الجانب العربي قبل وصول أبو مصعب الزرقاوي الى كردستان العراق بعد سقوط حكومة طالبان، حيث نزل في ضيافة «أنصار الاسلام» والتحق به سعدون القاضي ومحمود المشهداني، وتحوّلت جماعة «أنصار الإسلام» الى «أنصار السنة» ومنها ولدت «الهيئة الشرعية» بقيادة القاضي، وكان من بين تشكيلاته «جيش أنصار السنة» فيما شكّل الزرقاوي «جماعة التوحيد والجهاد».

وسوف نجد أن ثمة مفصلة سلفية سعودية بدأت تفرض نفسها على السلفية العراقية حيث ظهرت إتجاهات سلفية: تقليدية، وجاميّة (نسبة الى الشيخ من أصول أفريقية محمد بن أمان الجامي) المقرّبة من السلطة، وزعيمها الشيخ محمد خضيّر أبو منار وتتبنى مجاهدة المحتل الكافر لبلاد الاسلام، وتشارك في العملية السياسية، والسلفية السروّرية/ الصحوية ممثلة في الشيخ سفر الحوالي والشيخ سلمان العودة، وتحصر عملها في مقاومة المحتل وتربط الجهاد بالشعب العراقي كما جاء في بيان (جمع من العلماء السعوديين يوجهون خطاباً مفتوحاً للشعب العراقي) في 5 نوفمبر 2004 وقّعه 26 شخصية تنتمي الى التيار الصحوي في السعودية، أكّدوا فيه على مشروعية المقاومة «وأن على الشعب العراقي الدفاع عن نفسه وعرضه وأرضه»، وافتوا بحرمة التعامل مع المحتلين ضد أعمال المقاومة. كما صدر موقف للشيخ العودة يعد فيه بقدوم مجاهدين من الخارج.

والسلفية الجهادية بأشكال راديكالية متفاوتة تتراوح بين الجيش الاسلامي بقيادة أمين الجنابي، وبالرغم من كونه تنظيمياً سلفياً تكفيرياً الا أنه يحصر عملياته المسلّحة ضد الاحتلال الأميركي، وجيش أنصار السنة، وتشكّل في 20 إيلول (سبتمبر) 2003 كرد فعل على الاحتلال الأميركي للعراق، ويضم بين صفوفه أعضاء سابقين من جماعة أنصار الإسلام الكردية، ومقاتلين عراقيين وعرب من السلفيين يقودهم أبو عبد الله الحسن بن محمود. ولا يقتصر عملها على مقاومة الاحتلال الأجنبي وطرده من العراق، بل يشمل أيضاً «إقامة دين الله وفرض شريعة الإسلام لتحكم هذه الأرض الإسلامية»، بحسب ما جاء في بيان التأسيس. وترفض الجماعة العملية السياسية برمتها، وهدّدت باستهداف مراكز الانتخابات البرلمانية، كما رفضت مشروع المصالحة الوطنية الذي تقدّم به رئيس الوزراء العراقي السابق نوري المالكي، وارتكب التنظيم عمليات قتل وتفجيرات أمام مؤسسات حكومية عسكرية ومدنية وكذلك مراكز ونقاط عسكرية لقوات أجنبية وأيضاً لمراكز الاتحاد الوطني الكردستاني وأيضاً السفارة التركية التي نفّذها انتحاري سعودي يدعى أبو عبد الله الدوسري في 24 أكتوبر 2003.

وقد بدا واضحاً منذ الأيام الأولى لسقوط النظام العراقي في إبريل 2003 أن ثمة استنفاراً وهابياً سعودياً سريعاً لناحية الانخراط في الساحة العراقية، فقد تدفّق المئات من السعوديين الى العراق بهدف الانضمام الى «الجهاد» عن طريق سوريا. وبالرغم مما قيل عن كون المجاهدين الأجانب يشكّلون نسبة ضئيلة من المقاتلين المتمردين في العراق، الا أن الوثائق والأدلة التي جمعتها أجهزة الأمن العراقية والقوات الأميركية أثبت بأن المقاتلين الأجانب يشكلون الأغلبية العظمى من منفذي التفجيرات الانتحارية.

وذكرت الصحافية سوزان جلاسر في مقالة لها في صحيفة (واشنطن بوست) بعنوان (الشهداء في العراق أغلبهم سعوديون) نشر في 15 مايو 2005 بأن 70 في المائة من الانتحاريين هم سعوديون وأن كثيراً من الانتحاريين هم متزوّجون، ومتعلّمون، وأعمارهم في أواخر العشرينيات.

ويتقاسم «جيش أنصار السنة» و»جماعة أنصار الإسلام» مشتركات عديدة من حيث اقتراب تاريخ النشأة والأيدلوجية السلفية المشتركة واستراتيجيات العمل والأهداف، وهما في نهاية المطاف جماعات مسلّحة محليّة لا تطلعات لهما خارج الحدود مثل القاعدة و»داعش»، مع ملاحظة أن عدداً من عناصر المجموعتين بايع تنظيم «الدولة» بعد احتلالها الموصل.

وتشكلت مجموعات سلفية جهادية أخرى مثل جيش المجاهدين على يد محمد حردان العيساوي في نهاية 2004. وفي عام 2007 حدث انشقاق داخل جيش أنصار السنة، وتشكّل ما عرف بحركة «جيش أنصار السنة- الهيئة الشرعية» برئاسة الضابط البعثي السابق سعدون القاضي. ومن أبرز قادة هذا التنظيم محمد حسين الجبوري. ويبقى التنظيم السلفي التكفيري بقيادة الزرقاوي وما تلى ذلك من تطوّرات لاحقة قادت الى ولادة «داعش» ثم «الدولة الاسلامية» وهو ما سوف يفتح الباب على نقاش واسع ومستفيض حول السلفية الجهادية التكفيرية في العراق.

الصفحة السابقة