دولـة فـقـر

ليس الفقر من لا يملك المال بل المحروم منه وهو في متناول اليد، وحين يصبح عاجزاً عن إنفاقه حيث ينبغي، وإلى من يستحق، وليس تبذيره تحت عناوين شتى، والعاجز عن استغلاله على وجه صحيح..

لتقريب المعنى، دخل في خزينة الدولة أو (بيت المال) منذ بدء تصدير النفط الى الخارج تريليونات الدولارات على مدى أربعة عقود على الأقل، وكانت هذه المبالغ كافية لتحويل صحراء الجزيرة العربية إلى واحة غنّاء، وكفيلة بسد حاجات المواطنين كافة في التعليم والصحة والوظيفة والسكن والضمان الاجتماعي والرفاه المعيشي، ولضمن مستقبل الأجيال اللاحقة الى عقود قادمة..

ولكن مالذي حصل وحال دون تحقيق هذه الأهداف الممكنة والسهلة؟

أن أهل الحكم أنفقوا المداخيل على:

ـ مخصّصات شخصية فلكية: (لو عدنا الى الأرقام الخاصة بثروات الملوك وكبار الأمراء السعوديين لوجدنا أنها تستنزف ثلث الثروة الوطنية في الحد الأدنى: وبحسب الأرقام المتداولة في وسائل إعلامية موثوقة حول ثروات الملوك والأمراء: الملك فهد 420 مليار ريال، الأمير سلطان 720 مليار ريال، الأمير مشعل تريليون و200 مليار ريال). أما ثروات الملك عبد الله والأمراء نايف وسلمان ومحمد بن نايف وخالد بن سلطان ومحمد بن فهد وبندر بن سلطان التي جرى التعتيم عليها فهي لا تقل عن هذه الأرقام.

ـ الفساد المالي المهول: بحسب الأرقام المعلنة فإن حجم الفساد المالي بلغ في 2010 ثلاثة تريليون ريال، وبحسب خبراء وأكاديميون في يونيو 2013 ان حجم الفساد السنوي يصل الى 50 مليار ريال..بطبيعة الحال، فإن هذه الأرقام لا تشمل عمليات الفساد المتفشية في الطبقة الحاكمة.

وقد كشف نائب رئيس الهيئة الوطنية لمكافحة الفساد (نزاهة) عن حقيقة صادمة بأن الفساد مستشرٍ في كل قطاعات الدولة. والمصيبة تكمن في عجز هذه الهيئة بقرار من الجهات العليا عن المساس بالفاسدين الكبار من أمراء آل سعود..

هناك شركات مملوكة للأمراء تبيع النفط عن طريق موانىء المملكة في الشرقية والغربية وخارج سيطرة الدولة، ويعلم بها القاصي والداني ولكنها خارج المسائلة والتحقيق، وهناك أمراء معروفون يضاربون بالنفط مع شركات وسيطة تنقله الى أي دولة في العالم، وتخصص نسبة من العمولات للوسطاء من خليجيين وعراقيين وشاميين..

لن نتحدث عن آلاف المشاريع الوهمية التي تستنزف عشرات المليارات من الريالات، والتي تكشف السيول في مناطق متفرّقة من المملكة عن استمرارها، ولن نتحدث عن المشاريع المتعثرة وهي أيضاً بالآلاف بسبب سرقة النسبة الأكبر من موزاناتها قبل أن تخرج في هيئة أخرى كأن يكون المشروع مخصصاً لبناء جسور معلّقة، ثم تتحوّل الى مجرد طرق معبّدة، وفي أحسن الأحوال تبنى بمواد رخيصة ومغشوشة..

ـ صفقات التسلّح: لقد بات واضحاً في ضوء عشرات الصفقات العسكرية بأن الغرض منها ليس عسكرياً بدرجة أساسية وإنما تأتي في سياق التزامات متبادلة بين المملكة السعودية والدول الغربية المصنّعة، وما يصاحب ذلك من فساد كبير في هيئة عمولات كما حصل في صفقة اليمامة التي وقعها الملك فهد مع بريطانيا في منتصف ثمانينات القرن الماضي، وحصد بندر من الصفقة ملياري دولار، مع ان الصفقة جرى تسديدها عن طريق بيع النفط..

وبات معروفاً التلاعب في بيانات الاسعار والفواتير المدفوعة في صفقات الأسلحة، إذ تسجّل الأثمان بناء على اتفاق مسبق بين الأمراء والقادة السياسيين في الدول المصنّعة ورؤوساء معامل تصنيع الأسلحة وليس بناء على القيمة الحقيقية لها، وهذا سمح للأمراء بحصد عشرات المليارات من الدولارات (على سبيل المثال: طائرة تورنيدو البريطانية كانت تباع بقيمة 21 مليون جنيه استراليني ولكنها بيعت على السعودية بقيمة 40 مليون!!).

إن صفقات الأسلحة الى جانب كونها تستنزف مبالغ طائلة من الثروة الوطنية، فإن حجم السرقات المصاحب لها يعدّ مهولاً وخطيراً..

بعد تلك المعطيات وفي ظل انهيار اسعار النفط، وإعلان الموازنة السنوية لعام 2015 وما جاء فيها من عجز يعدّ الأكبر في تاريخ السعودية إذ بلغ نحو 145 مليار ريال أي ما يعادل (38.6) مليار دولار يأتي السؤال المصيري: هل يشهد عام 2015 بداية نهاية الدولة الريعية في مملكة النفط.. لا سيما وأن المغامرة التي اختارها أهل الحكم سوف تنتهي حكماً الى توقّف ماكينة الرفاه عن العمل بصورة كاملة بعد فترة وجيزة، وإن ما حذّر منه الملك عبد الله قبل عقد من الزمان من أن «زمن الرفاه قد ولى وعلى المواطنين تغيير عادات عيشهم» بات اليوم وشيكاً..

فقد تجاوز العالم أسباب خفض أسعار النفط، بعد أن حسم الرئيس الأميركي الجدل حين أرجعها الى السياسة وليس الاقتصاد، بحديثه عن تأثيرات الورقة النفطية على الاقتصاد الروسي، وبات على المتضرّرين حصد الأضرار واحتواء تداعياتها وأخطارها..

ولكن المملكة السعودية التي تعتمد في مداخيلها على بيع النفط بنسبة تصل الى 95 بالمئة هل يكفي فيها اللجوء الى الاحتياطي النقدي لاحتواء الأضرار، وهل مطلوب من المواطنين أن يدفعوا أثمان السياسة الاقتصادية الفاقدة للحكمة..أم أن هناك سياسة أخرى تقوم على حرمان الناس وقمعهم، في ظل هواجس تدور حول خشية أهل الحكم في المملكة السعودية من انفجار غضب شعبي إزاء فشلها..

الصفحة السابقة