(1)

الرياض.. تراجع حتمي، ومراجعة محتملة

خالد شبكشي

هل تحتاج الرياض الى مراجعة سياساتها الاقليمية والدولية، فضلاً عن المحليّة؟ نعم!

ولكن لماذا؟ في أقلّ الأحوال فإن معرفة سبب التراجع السياسي أمر هام، لتقليص حجمه، ولسدّ الثغرات، وللبدء باستعادة النفوذ الضائع! اليس كذلك؟!

لو كانت الرياض في عزّ مجدها وسطوتها ونفوذها، فإن أحداً لن يسأل عن مراجعة سياسة المملكة الخارجية، حتى وإن كانت تحوي أخطاءً وعثرات هنا وهناك. فالنصر بحدّ ذاته والذي يتجسد في المكانة والتأثير في الواقع الإقليمي، يعطي اطمئناناً كافياً للقيادة السعودية بأنها على الطريق الصحيح. لكن اذا ما حدث العكس، وتبيّن ان الخسائر تتوالى ولا تتوقف منذ نحو عقدين من الزمن، فهنا تكون مراجعة السياسة الخارجية أمراً ملحّاً، خاصة وأن تسارع الخسائر صار بوتيرة أكبر، كما هو واضح.

السؤال التالي: ألم يلحظ الأمراء تراجع مكانة بلادهم منذ فترة طويلة، او هذا ما يفترض، ولماذا لم يتخذوا أية اجراءات حتى الآن، أو يقوموا بمراجعات ولو موضعية، تفادياً لمزيد من الخسائر؟

أمران حالا دون قيام آل سعود بالمراجعة:

أولهما، له علاقة بأشخاص القائمين على الحكم، حيث استولت عليهم الأحقاد، وأعمى أعينهم الانتقام فما عادوا يبصرون مصالحهم. يأتي هذا في وقت يتعاظم فيه الشعور بالإستعلاء والإعتداد بالنفس، ولم تزد الخسائر الأمراء إلا زيادة وافراطاً في ذلك الشعور المغالى فيه بالنفس حتى أنه استولى عليهم، وجعلهم ينظرون الى خصومهم نظرة دونيّة، تفصح عنها في كثير من الأحيان تصريحات سعود الفيصل وأخيه تركي رئيس الاستخبارات السابق. وظنّ الأمراء أنه يمكنهم ـ بأدائهم البائس هذا ـ تغيير الواقع لصالحهم اعتماداً فقط على: المال، والتحالف مع الغرب، والإصرار على المواقف، ما يعني عدم المراجعة او التراجع لأنه ينتقص من شخصياتهم المتضخمة عند أنفسهم.

تراجع الأمريكي فخسر السعودي

اما الأمر الثاني، الذي حال دون المراجعة، فهو حقيقة ان سياسة المملكة الخارجية جزءٌ تابع، او برغي في الماكنة والاستراتيجية الغربية، فإذا لم يتراجع الغرب في مواقفه، لا تستطيع الرياض ـ في كثير من الأحيان ـ تغيير مواقفها، مع ملاحظة استثناءات غير قليلة خرقتها الرياض في السنوات الأخيرة. فقد خالفت الرياض واشنطن الموقف تجاه الحكم في العراق وضرورة عدم مقاطعته وهو ما لم تقبل به الرياض واصرت على تخريبه ودعم القاعدة ثم داعش فيه؛ كما أنها خالفت في بعض المفاصل موقف واشنطن تجاه الحل السلمي في سوريا؛ وخالفتها ثالثا في الموقف من حكم وانقلاب السيسي. لكن في المجمل، فإن الرياض مُلزمة بالتغيير شاءت أم أبت في نهاية الأمر.

نرى الآن الغرب قد بدأ بالتراجع في كثير من الملفات، وربما يكون بينها وأهمها الملف النووي الايراني، ولكن الرياض تصرّ ايضاً على عدم القبول بتهدئة المعركة، وهو إصرار غير مشفوع بقوة تدعمه لا عسكريا ولا سياسيا، ولا يمكنه ان يغير من الوقائع على الأرض، ولا أن يزيد الرياض قوة، بل سيعزلها ويقلّص انصارها حتى في المحيط الغربي.

يتناسى الأمراء السعوديون بأن أحد اسباب انكماشهم خارجياً يعود الى حقيقة أن مكانتهم في المنطقة جاءت على موج في نمو النفوذ الغربي (الأمريكي بشكل خاص) حيث انتشى حلفاء امريكا وفي مقدمتهم اسرائيل والسعودية. الآن نرى تراجعاً أميركياً، ومراجعة امريكية لسياساتها في الشرق الأوسط، وسيكون أكبر الخاسرين من هذا التراجع وتلك المراجعة: السعودية واسرائيل أيضاً. السبب الآخر لانكماش دور الرياض، والذي يعوق بدوره المراجعة للسياسات، يعود الى الأداء السعودي، حيث ان جهاز الخارجية كما أفرادها تجاوزهم الزمن، وصاروا بلا قدرة على الإبداع، بل غير قادرين على الأداء الطبيعي للمهام، اما بفعل عامل السن، أو بسبب مركزية القرار لدى عجزة لا يستطيعون مواكبة الأحداث. يتواكب هذا مع تحوّل استراتيجي في السياسة الخارجية السعودية منذ حرب الكويت 1991، حيث انخرطت الرياض في صراعات مع كثير من الدول العربية، ولم تعد تلعب دور الوسيط المتوازن الذي يوفّر لها المكانة اللازمة للزعامة، كما انها تخلّت عن ممارسة دورها ومساهمتها في حل المشاكل بين الدول العربية، وقلّصت بل اوقفت في اكثر الأحيان الدعم عن الدول، وبالتالي فإن الرياض بفعلها هذا المستمر لأكثر من عقدين إنما عاقبت نفسها وعزلت ذاتها من أن تكون زعيمة للعالم العربي كما تزعم.

المملكة لاتزال على ذات المسار منذ ذلك الحين، ولذا نراها في خلاف مع الجزائر والسودان وكانت ضد ليبيا القذافي والآن مع نصف الليبيين على الأقل ومع نصف التونسيين، وتخلّت الرياض عن الصومال، وعن دورها في حل مشكلة الصحراء الغربية؛ واستعدت جمهور الاخوان المسلمين في مصر وغيرها؛ وهي قد خسرت العراق وخسرت سوريا، واستعدت نصف اللبنانيين على الأقل، والآن هي تفعل ذات الأمر في اليمن، وكادت تخسر مكانتها بين دول الخليج نفسها (صراعها مع قطر والإمارات). ولنضف الى هذا، تخلي الرياض عن دورها في افغانستان، وصراعها مع ايران، وعدم ارتياحها من تركيا ودورها، ووقوع الباكستان في براثن ازماتها الداخلية.. كل هذا يجعل الرياض مشلولة سياسياً، فاقدة للبوصلة، بلا استراتيجية واضحة، بل ردّات فعل لا تؤثر كثيراً في تغيير موازين القوى الإقليمي.

ترى هل ستراجع الرياض استراتيجيتها السياسية خارجياً، على الأقل تجاوباً وتماشياً مع ما يقوم به الحليف الأمريكي والغربي؟ لا يبدو ذلك واضحاً، فالنهج الصدامي السعودي لازال قائماً، وكل الجهد الدبلوماسي السعودي، يبدو وكأنه يمثل استكمالاً لذات السياسات القديمة، حتى ان التكتيكات لم تتغير أيضاً.

الصفحة السابقة