وثائق الخارجية السعودية

الهمّ الإيراني يغرق السعوديين

ناصر عنقاوي

من أهم الملاحظات على ما رشح من وثائق وزارة الخارجية السعودية التي تمّ السطو عليها ونشرها في موقع ويكيليكس، أنها تبيّن حجم استحواذ الموضوع الإيراني على الحكومة السعودية ونشاط وزاراتها وتحركات مسؤوليها. لربما كان أكثر من نصف الوثائق له صلة ما بإيران، ومتابعة نشاطاتها، وما يجري في البلدان الأخرى، بما له علاقة بها، ولو في الحدود الدنيا، ضمن العلاقات التي تقوم بين الأمم.

في الوثائق، تجد ان الهم السعودي همٌّ (إيراني) بامتياز، ما يفيد أن الرياض لا تعيش صراعاً عادياً معها، بل حربٌ حقيقية استمرت لعقود.

كل ما يصدر في ايران من مواد اعلامية هو تحت المراقبة السعودية اليومية؛ وكل العلاقات في دول الجوار او ذات الإهتمام الايراني يجري مراقبتها عن قرب. الأشخاص والمؤسسات الدينية والمدنية تحت الرقابة والمتابعة.

هذا الهم السعودي تمّ استغلاله من اطراف عديدة، سياسية واجتماعية. بحيث ان كل من اراد مالاً من السعوديين عزف على الموضوع الايراني ومحاربة التشيّع، وقدّم مشروعه وبُغيته على طبق يحرّك شهيّة الرياض ويدفعها لتقديم المال.

في دول أخرى، عربية وغير عربية، لم تكن السياسة السعودية إلا مدفوعة بهذا الصراع، ومشفوعة بطابع المنافسة مع ايران.

في لبنان، أضحت وثائق السعودية أداة ضد حزب موالاتها، وضد رجالها. فسمير جعجع ـ أحد رؤوس المواجهة مع حزب الله ـ يشكو ضائقته المالية للسعوديين، ولا يستطيع ان يدفع تكاليف حماية نفسه، ويعلن استعداده لزيارة الرياض. وفعلا يزورها ويستلم (الخرجية) لكن ليس قبل ان يفتعل قصة محاولة اغتياله من جماعات محسوبة على ايران لتسويقها في الرياض. وفي لبنان ايضاً، هناك متابعة سعودية لتصريحات صبحي الطفيلي لتوظيفها سياسياً؛ وهناك السيدة رباب الصدر، وابنها الدكتور رائد نائب حاكم مصرف لبنان، والتي تريد لقاء سعود الفيصل، ودعم السعودية لأنشطتها الخيرية، وكان مقترح الفيصل مساعدتها على شكل هدية لا يتم الإعلان عنها؛ وحسب المسؤول السعودي الكبير ناصر البريك: فـ(ان تقديم مساعدة للشيعة حتى وان كانت لجميعة ربما يفهم من قبل السنّة بشكل خاطئ). 

وفي وثائق السعودية ما يتعلق بالموافقة على دعم قناة ام تي في بشكل يخدم سياسة المملكة ومصالحها، ضمن خطة عمل تواجه اعداء السعودية في لبنان والخارج، وقد وافقت الرياض على تقديم خمسة ملايين دولار. ومن الوثائق نجد النائب بطرس حرب يطلب عوناً مالياً ومعنويا وسياسيا سعوديا لتأسيس مجموعة له بعد انتخابات ٢٠١٣، وان يكون الدعم مستقلا عن الحريري. ايضاً هناك وثيقة تكشف عن طلب من جمعية لبنانية مبلغ مليوني وثلاثمائة ألف دولار، لكي تقوم بترميم سجن رومية وتأهيل نزلائه، وهناك اقتراح بالموافقة على دفع كامل المبلغ.

تشاء الأقدار انه في وقت نشر الوثائق، ظهرت فضيحة التعذيب في سجن رومية؛ فاستخدمت ضد آل سعود؛ وقال موقع المناصرون المدافع عن معتقلي القاعدة في السعودية بأن من قام بالتعذيب هي (القوى الضاربة) التابعة لحزب الحريري الذي تدعمه السعودية بالمليارات. لكن مشايخ الوهابية وبدل ان يتهموا الوزيرين السنّين نهاد مشنوق وزير الداخلية، ووزير العدل اشرف ريفي، حمّلوا (نصارى لبنان ورافضته) مسؤولية التعذيب، كما يقول الشيخ الوهابي سعد التويم، ومثله فعل الشيخ سعد الدريهم؛ واتهم ثالث أتباع ايران بأنهم هم وراء تعذيب السنّة؛ وهذا افتراء. حتى المذيع السعودي العامل في الجزيرة الظفيري، حمل حزب الله المسؤولية! مع ان اشرف ريفي اتهم الحزب بأنه هو الذي فضح التعذيب!

العراق هو الآخر كان محط اهتمام الوثائق السعودية. فقد كشفت الوثائق عن دعم سعودي للكثير من الساسة العراقيين، وعن تدخل استخباراتي عميق للحكومة السعودية فيما يجري من عنف واضطراب، اضافة الى تمويل عشرات ان لم يكن المئات من السياسيين والأحزاب بالأموال تحت يافطة مواجهة النفوذ الإيراني. وازاء هذا، ظهرت مطالبات شعبية بمعاقبة السياسيين الفاسدين المنفذين للسياسة السعودية؛ فاضطرت الحكومة العراقية الى القول بأنها ستتخذ خطوات ما بشأن ما تكشفه عنه تسريبات ويكيليكس.

نجد ابتداءً في الوثائق دعماً سعوديا للحركة الإسلامية في كردستان بمبلغ مليوني ريال، صرفت بمعرفة الاستخبارات العامة السعودية؛ التي أثنت على (سلامة منهج الحركة، ومواقفها الايجابية تجاه المملكة). وهناك وثيقة عن السياسي مشعان الجبوري الذي يطلب الدعم، والذي غيّر جلدته مرات ومرات، فقد كانت لديه قناة الرأي (والمذكور لديه الاستعداد لاستقطابه) كما يقول سعود الفيصل لرئيس الاستخبارات. وتتحدث وثيقة من سفارة آل سعود في عمان عن الوزير حاليا قاسم محمد الفهداوي، الذي يلتمس الدعم السعودي، ليشكل كياناً سياسيا للسنّة المغيبين عن القرار السياسي كما يقول. 

عمار الحكيم، رئيس المجلس الأعلى، زار البحرين وطلب لقاء الملك السعودي، فكان التعريف به أنه (معروف بتوجهاته الطائفية وبقربه من إيران، وإن فتح خط اتصال معه واستقباله في المملكة سيؤدي الى دعمه في مواجهة خصومه الوطنيين والمعتدلين)؛ وكان المقترح (صرف النظر عن طلبه.. ويكتفى بالتواصل معه عبر الجهة المختصة). أيضاً، هناك رجال اعمال عراقيون، شيعة وسنة، شكلوا مركزا في عمّان وطلبوا التعاون مع الرياض، وقد أيد آل سعود ذلك (ليكون مدخلاً لتواجد علماء المملكة مما سيكون له اثر طيب لأهل السنّة في العراق).

وكانت السلطات العراقية ومن خلال التحقيقات مع الارهابيين القواعد والدواعش السعوديين حصلت على اسماء ثمانية مشايخ يحرضون على الإرهاب، ولكنهم حسب الوثيقة يدعمون أيضاً حكام آل سعود، وهم من بين خمسين اسماً سبق لهم ان دعوا الى الجهاد في العراق علناً، وان الحكومة العراقية تعتزم محاكمتهم دولياً؛ وقد اقترحت الاستخبارات السعودية التحرك سريعاً لمنع تشكيل محكمة دولية.

ولا تخلو المراسلات السعودية من متابعة حثيثة للوضع العراقي، وقواه السياسية؛ وما يحدث من اجتماعات بين الأحزاب؛ بل ومتابعة تحركات المسؤولين العراقيين العسكريين، وآفاق التواجد العسكري الأمريكي والإيراني. في اغلب المراسلات السعودية هناك نفس طائفي طافح، واستعلاء غير مبرر على العراقيين. ربما يتحمل العتب بل الوزر السياسيون ووجهاء العراق. تقول احدى وثائق السعودية بأنه كثرت طلبات الدعم من سفارات المملكة في الخارج من اشخاص يزعمون انهم زعماء عشائر ولا مقرات لديهم ولا تأثير في الداخل، وهدف بعضهم على الأقل الحصول على مكاسب مادية شخصية.

فيما يتعلق بالتدخل السعودي في البحرين، نجد رسالة من سعود الفيصل الى هيلاري كلينتون يشتكي فيها من قوى اقليمية تريد عدم استقرار البحرين، في حين ان دولا صديقة غربية امتنعت عن بيع السلاح اليها، وهو يطلب منها المساعدة في رفع حظر بيع السلاح عن حكومة البحرين من قبل امريكا. ايضاً هناك عدد من الوثائق السرية التي تتابع الحراك الشعبي في البحرين، وشخصيات مثل الشيخ عيسى قاسم وتحليلات يعتقد ان حكومة البحرين تزود الرياض بها. وهناك تقييم لسفارة السعودية في البحرين للأوضاع الأمنية من خلال اجتماعات مع مسؤولين بحرينيين والعمل عن قرب مع آل خليفة لقمع الثورة هناك.

اليمن، عانى هو ايضاً من التدخلات والفساد السعودي، هناك وثيقة تتحدث منحة نفطية سعودية بثلاثة ملايين برميل لم تدخل قيمتها خزينة الدولة؛ ووثيقة أخرى من سفارة آل سعود في صنعاء لوزير الخارجية السعودي تقول بأن قطر دفعت مائتين وخمسين مليون دولار لحميد الأحمر لدعم الاحتجاجات في القوى الامنية والعسكرية؛ ووثيقة ثالثة تفيد بأن عين الرياض على ايجاد منفذ بحري لها على بحر العرب من خلال اقتطاع ارض يمنية او عُمانية. ووثيقة رابعة تتحدث عن ارسال معلمين سعوديين الى اليمن، وهو امر اعتادت الرياض القيام به خاصة مدرسي مادة الدين لنشر الوهابية، ولكن الأوضاع تغيرت بسبب التدهور الأمني. ومن الوثائق ما يشير الى ان محسوبين على السعودية يقومون بأعمال مسيئة لها، ويعتدون على الآخرين. 

علق يمنيون على بعض الوثائق السعودية، فقال احدهم: (يِجِيْ معظم العبيد السعوديين يقولوا ما لكم دَخَلْ. جرّبوا تقرأوا الوثائق، حتلاقوا أنتو بس ما لكم دَخَلْ؛ مُشْ إحنا). والاعلامي عبدالله الحضرمي علق على تأسيس قناة تلفزيونية بالفارسية لمخاطبة الشيعة في الخليج، بأن الرياض لا ترى الشيعة عرباً! واضاف: اهم قضية في وثائق الخارجية السعودية انها تعيش فوبيا ايران في كل بلد.

على صعيد آخر، تعرضت وثائق الخارجية السعودية لدول أخرى؛ احداها عن شكوى روسية من تهجم الاعلام السعودي، والملك عبدالله يطلب من وزير الخارجية ان يدخل في حوار معمق مع موسكو ويركز على سوريا والضغط عليها لثنيها عن موقفها الراهن، مع نصح الاعلام السعودي بعدم نقد الشخصيات الروسية بل السياسات فقط. وثيقة أخرى موقعة من سعود الفيصل ينقل فيها مواقف دولية عن القمع في الإمارات للناشطين وتجريدهم من الجنسية دون محاكمة عادلة، والغريب ان الفيصل ينتقد فيها سلوك دولة الإمارات هذا. ومن الوثائق السعودية أن الامير سلمان ـ الملك حالياً ـ منزعج من ان هناك مشروعاً قطرياً بريطانيا لترجمة وثائق الخارجية البريطانية المتعلقة بدول الخليج، لأن الترجمة والنشر فيها حساسيات ومعلومات تسيء لتاريخ المملكة، حسب زعمه، وتحاول الرياض عرض البديل الذي لا يفضح تاريخ آل سعود. 

هناك وثيقة توضح تشكيل لجنة من الاستخبارات السعودية ووزارتي الخارجية والداخلية لمناقشة تأثيرات الأوضاع السياسية في الكويت على السعودية؛ ثم هناك وثائق تفيد بتدخل المخابرات السعودية في شؤون داخلية كويتية وتتبع شخصيات كويتية. ايضاً هناك وثيقة حول طلب سوداني للدعم من الرياض لبناء مدينة رياضية. الرياض رفضت لأنها سبق ان دعمت المشروع، ولكن لم يرَ النور.

من الوثائق المتعلقة بايران ونشاطاتها، هناك متابعة لزيارة مسؤولين ايرانيين الى سلطنة عمان وبيع غاز اليها؛ وفي وثيقة أخرى يقول سعود الفيصل بان شيخ الأزهر ابلغه بأن الإيرانيين يضغطون عليه لعقد اجتماع للتقارب بين المذاهب؛ وطبعاً الرياض ترفض ذلك، والثمن دعوة شيخ الأزهر الى الرياض والتفاهم معه. ومن الوثائق ما يحوي لقاء جمعية دينية في سيريلانكا مع السفير الايراني في كولومبو، رأت الرياض انه هام، اذ يجب منع التلاقي بين الشيعة والسنة. ويمتد الاهتمام السعودي حتى بتلوث الجو في طهران؛ فضلا عن متابعة ما تنشره الصحف والمجلات ووكالات الانباء الايرانية والفضائيات.

الصفحة السابقة