الدولة المتغرطسة

جنون مدمّر يجتاح أمراء آل سعود وصنّاع القرار في المملكة.

ما تقوم به الطائرات الحربية السعودية في اليمن يتجاوز قواعد الحرب أو استراتيجات القتال، ويصل الى حد الهستيريا الماجنة التي تعتري الشخص الذي يفقد أعصابه نتيجة عجزه عن تحقيق ما يريده من خصمه.

فالدمار والقتل، وسفك الدماء، الذي تحدثه الطائرات الحربية العمياء في مدن اليمن ومحافظاته شمالاً وجنوباً وشرقاً وغرباً، لا تنم عن رؤية واضحة للحرب، بل هي تعكس الرغبة الجامحة في الانتقام من اليمن شعباً وأرضاً.

كل ذلك يعود لسبب وحيد: إذ كيف يمكن للسعودية التي قرّرت أن تخوض الحرب ضد اليمن، وخطّطت في الوصول الى صنعاء في غضون إسبوع.. تصبح غير قادرة حتى على الحصول على موطىء قدم داخل التراب اليمني، بل وفوق ذلك تواجه أخطاراً جدّية على الحدود، حيث لا أحد يجرؤ على الكلام عن المواجهات البريّة، لأن السيطرة فيها للجانب اليمني بصورة شبه كاملة؛ بل أن هناك مناطق داخل الأراضي السعودية باتت خارج سيادتها حالياً.

هذا يفسّر الى حد ما جنون سلمان وصبيّه وزير الدفاع، الذي لم يعد أمام المأزق الذي وضع «مملكة آبائه وأجداده!» سوى الهروب الى الامام، وارتكاب المزيد من الجرائم، سعياً وراء الحصول على ورقة تفاوض.

حقيقة الأمر، أن داء الكبر والغطرسة سوف يأتي بنظام آل سعود وكيانهم من القواعد، فقد تجبّروا واطمأنوا الى أن ما تحت أيديهم من مال وسلاح سوف ينجيهم من سوء الخاتمة.

لا يريد آل سعود الاقرار بأنهم فشلوا في الحرب على اليمن، لا لشيء سوى لأن الغطرسة، والأحساس الكاذب بالتفوّق، الذي يستبد بهم.. يمنعهم من ذلك.

الأمراء يرفضون الحل السياسي، لأن في ذلك اعتراف بالهزيمة، وها هم يمنعون الهدنة الإنسانية في رمضان لأن في ذلك مؤشر على التنازل. إنهم يخرّبون كل فرص الحوار بين اليمنيين، لأن في ذلك قرار جماعي بأن لا مكان للسعودية في الشأن اليمني.

الغطرسة هي وحدها التي تدفع آل سعود الى رفض وقف الحرب حتى لو فشلوا، وحتى لو دمّروا اليمن على رؤوس أهله.

لكن المعادلة اليوم عكسية تماماً: أراد الأمراء القضاء على الحوثيين، وحركة أنصار الله لإنقاذ الشعب اليمني بزعمهم، وعودة الشرعية، ولكن ما يحصل اليوم هو العكس، أي القضاء على الشعب اليمني، فيما بقي الحوثيون وأنصار الله صامدين، ويمنعون آل سعود من إحراز تقدّم في الميدان، ويتمدّدون هم والجيش اليمني في المحافظات اليمنية.. والنتيجة ال سعود خسارة محقّقة.

نتذكر في حرب 2009 حين شاركت السعودية في مقاتلة الحوثيين الى جانب الجيش اليمني في عهد الرئيس المخلوع علي عبد الله صالح. فقد كان الحوثيون يومها يواجهون جيشين وليس جيشاً واحداً، وقد نجحوا يومها في إنزال الهزيمة بكليهما، الى حد أن الملك عبد الله غضب من خالد بن سلطان.

أهم سبب لهزيمة آل سعود يومئذ، كما هو اليوم: الغطرسة السعودية، واستصغار الخصم، واعتباره مجرد (عصابة)!

في احدى الوثائق الأمريكية السرية التي نشرها موقع ويكيليكس والتي يعود تاريخها إلى 30 ديسمبر 2009، أرسل السفير الأمريكي في الرياض جيمس بي سميث تقريراً إلى واشنطن بخصوص ملاحظات السفارة الأمريكية على حملة الجيش السعودي على الحوثيين، ووصف التقرير تلك الحملة بسوء التخطيط والتنفيذ، واعتبرها محرجة نظراً لطول مداها، والاستخدام المفرط للقوة. وتحدثت البرقية عن غضب الملك عبد الله واعتزامه إقالة الأمير خالد بن سلطان لولا تدخل والده.

تتحدث الوثيقة عن جهود دبلوماسية لوقف القتال، واعلان خالد بن سلطان عن وقف القتال في 23 ديسمبر، ثم تلاه بيان حوثي عرض الإنسحاب من جميع المواقع الحدودية التي سيطروا عليها مقابل وقف الهجمات السعودية.

السعودية أوقفت الهجوم يومها، ولكن واصلت الطلعات الجوية الكثيفة والقصف المدفعي. ثم رواغت بمزاعم النفي، بينما مصادر الحوثيين أكدت وجود هجمات سعودية يومية.

خالد بن سلطان أعلن وقف الهجمات في 23 ديسمبر 2009، والحوثيون أصدروا بياناً نشرته (القدس العربي) بالانسحاب من المواقع السعودية بشرط وقف آل سعود العدوان «وألا يسمحوا باستخدام أراضيهم ضدنا...»، حسب بيان صادر عن المتحدث باسم انصار الله. وكان الجيش اليمني بقيادة صالح يقوم بقصف المواقع الحوثية من مناطق سعودية.

بيت القصيد، كما جاء في الوثيقة الأميركية أوضح: «من المحتمل أن السعوديين لم يقبلوا غصن الزيتون الذي قدّمه الحوثيون»، لأنه في اليوم التالي لاعلان وقف الهجمات، قامت الدبابات السعودية والمدفعية الثقيلة والطائرات بقصف معاقل الحوثيين في الجابري. طبعاً إعلام بن سلطان قال بأنهم قتلوا 340 متسللاً، وأنهم منازل مهجورة لجأ اليها الأعداء، أي الحوثيين. والحال، أن أرقام بن سلطان متساهلة، لأن الجابري الذي قالوا بأنهم سيطروا عليه كان يتعرض لعشرات الغارات حتى الى ما قبل إعادته للسعودية.

السفير الأميركي نقل عن ضغوطات على خالد بن سلطان للتنحي، وغضب الملك عبد الله من ثلاث مسائل:

1- لماذا استغرقَ وقتاً طويلا لطرد المقاتلين الحوثيين الضعفاء.

2- لماذا كانت هنالك خسائر بشرية سعودية كبيرة.

3- لماذا لم يثبت الجيش السعودي مقدرة أكبر بالنظر إلى المليارات التي استخدمت في التحديث على مدى العقود الماضية.

ما لم يعرفه الملك عبد الله، أن طرد المقاتلين الحوثيين لم يتم في الأصل بالقوة، بل جرى انسحاب ضمن اتفاق.. ولكن المشكلة أن الغطرسة السعودية، دفعت خالد بن سلطان لمواصلة القتال حتى بعد اعلان وقف الهجمات، بحجة طرد جميع المتسلّلين الى الأراضي السعودية (ويقصد بالمتسلّلين الحوثيين).

تتكرر تجربة العدوان السعودي ثانية في عاصفة الحزم على اليمن، فقد مضّى أكثر من ثلاثة شهور ولكن لا تزال قوات آل سعود عاجزة عن التقدّم شبراً واحداً داخل الأراضي اليمنية، ولا استطاعت تحقيق هدف واحد من أهدافها المعلنة، وأن الغطرسة هي وحدها التي تدفع ال سعود لمواصلة العدوان.

الصفحة السابقة