تحلّلت العائلة المالكة من المسؤولية عنها:

مجزرة مكة بسبب (رافعة ساجدة)!

هيثم الخياط

لم تنته قضية المذبحة التي وقعت لحجاج بيت الله الحرام، بتعويض سعودي قدره مليون ريال عن كل شهيد، ونصف مليون ريال عن كل معوّق. فسمعة الرياض كحامية للحرمين، وخادمة للحجيج تلطخت بالدماء مراراً، حتى لا يكاد يمرّ عام دون وقوع كارثة. يتزايد عدد المسلمين الذين يعتقدون بأن آل سعود ومشايخ وهابيتها ليسوا جديرين بخدمة الأماكن المقدسة، لأنهم حوّلوها الى مجرد (بزنس) وقضوا على روحانيتها، ودمّروا الآثار الاسلامية في الحجاز، وروّجوا لمذهبهم وقمعوا المذاهب الأخرى، ورفضوا البعد السياسي للحج، واستخدامه كأداة في الدفاع عن قضايا المسلمين، واحتكروا الترويج السياسي والمذهبي لأنفسهم فقط.

لم تنته القضية، فعوائل الحجاج الشهداء ـ أو بعضهم ـ يعتزمون رفع دعاوى ضد العائلة المالكة، وضد شركة بن لادن، التي يمتلك الأمراء جزءً كبيراً من أسهمها، والتي تمّ تحميلها المسؤولية الى جانب (الرياح) و(القضاء والقدر)، في تحقيق يقول آل سعود أنه تمّ واستمر أقل من ثلاثة أيام فحسب!

لم تنته القضية محلياً، فالفساد اخترق كل الحواجز والأجهزة وأصبح يشكل خطراً على المواطنين أنفسهم. ومذبحة الحرم، تقدّم دليلاً جديداً أن لا أفق في اصلاح إداري أو ديني أو اقتصادي أو سياسي في دولة يحكمها آل سعود. لقد زادت الفاجعة في حجم قلق المواطنين على مستقبلهم؛ والقلق على المستقبل كما يقول علماء السياسة، هو أهم عوامل الثورات التي أندلعت في القرون الماضية، خاصة ان سبقها مرحلة من النمو الاقتصادي.

بسبب الفساد والإهمال وسوء الإدارة المتأصل، سقطت رافعة بناء على الحجاج في بيت الله الحرام، فقتلت العشرات من الحجاج، اعترفت الحكومة باستشهاد ١٠٧ منهم، وسقوط مئات الجرحى، فيما قدّر آخرون العدد بأن الشهداء وصل عددهم الى نحو ١٧٠ شهيداً غير عشرات المعوقين ومئات الجرحى. وحتى الآن لم تقدّم السلطات السعودية، الرقم النهائي للجرحى والشهداء، والدول التي ينتمون اليها.

وكما قلنا، فإن حدثاً كهذا ليس جديداً، ففي كل عام هناك كارثة في موسم الحج: حرائق، وسيول، واختناقات في الأنفاق، وغيرها. وفي كل مرّة هناك من ينقل التهمة الى أحدٍ ما خارجي، وإلاّ فإن المتهم هو الله سبحانه وتعالى، تعالى الله عمّا يصفون. يقولون انه قضاء وقدر. كل ذلك لإبعاد المسؤولية عن آل سعود الذين مضى على احتلالهم للحجاز أكثر من تسعة عقود، ولازالوا فاشلين في إدارة الجموع البشرية التي تؤدي فريضة الحج. وغالباً ما يتذرّع آل سعود بأعداد الحجاج، مع أننا نشهد سنوياً دولاً عديدة تدير جموعاً أكبر من جموع الحج بأضعاف ولا تحدث فيها كوارث كالتي تحدث على يد المسؤولين السعوديين.

لكن لا يوجد استفزاز لآل سعود بأكثر من التشكيك في سوء ادارتهم، فهذا يعني التشكيك أصلاً في شرعية احتلالهم للحجاز، وفي إدارة الأماكن المقدسة للمسلمين، لهذا كان استنفار آل سعود الإعلامي كبيراً بعد سقوط الرافعة، ضد من يتحدث عن وجود فساد او يطالب بمحاسبة، ولا بد أن يقبل بالتبرير الرسمي الذي ظهر في أول تعليق على الحادث، وهو القضاء والقدر، بسبب الرياح، وهو أمرٌ غير صحيح كما تبيّن.

منذ البداية قال المسؤولون بأن الحادث (عرضي) وأن السبب هو (الحالة الجوية الطارئة)؛ هذا ولم يبدأ التحقيق بعد. الاعلامي سلطان العامر، وحسب بيانات محطة رصد في مكة المكرمة، قريبة من الحرم، فإن الرافعة سقطت في الساعة الخامسة وعشر دقائق مساءً، أي في الوقت الذي كانت فيه سرعة الرياح بين ٢٠ ـ ٢٣ كيلومتراً في الساعة. وأشار العامر الى أن السبب لم يكن الرياح ولا يمكن ان تُعد الحادثة كارثة طبيعية.

كم هو مؤلم أن يقتل هذا العدد من الحجاج في مكان آمن، لمجرد أن أضخم رافعة كانت على عربة متحركة تهددهم من الأعلى؟ علق أحد المتابعين فقال: لو كان المسؤولون يخافون الله، لجعلوا شروط السلامة في الحرم هي الأعلى في العالم، لكن مخافة الله في واد وهم وفسادهم في وادٍ آخر. أما طبّالو النظام فأطنبوا في ذكر مبالغات خدمة آل سعود للحرمين الشريفين، وزادوا فامتدحوا قتل الضحايا تحت الرافعات، وركّزوا على فضيلة الشهادة في الحرم، وذلك لتجنّب الحديث عمّن يتحمل مسؤولية الفساد والإهمال. ما دفع الناشط هارون أمين للقول: (يُنسب كل الفضل في توسعة الحرم للملك، والفساد يُنسب للقضاء والقدر. يا مواطن: اعلم أن المسؤول الأول هو آل سعود، وبس).

من جانبها، وصفت الناشطة نوال الهوساوي ما جرى بأنه (كارثة)؛ والإخواني الدكتور احمد بن سعيّد وصف الأمر بأنه (مذبحة حقيقية) ما جنّد ضده كل مرتزقة السلطة السعودية، ووصفوه بالخسّة والتواطؤ؛ والمعارض الدكتور حمزة الحسن، قال أن ما جرى من مذبحة (عاصفة سلمانية) فتجمّع (جيش تويتر) من مخبري السلطة للحطّ من شأنه وشتمه بأقذع الأوصاف.

المحامي والحقوقي عبدالعزيز الحصان، المقيم في المنفى، طالب بعزل أمير المنطقة خالد الفيصل، وأمين مكة، ورئاسة الحرمين ممثلة بالشيخ السديس. لكن الفساد لازال مسيطراً وهناك شمّاعة تقول بأن الخير من المسؤول الأمير، والشرّ جاء من الله بزعمهم. والمغرد عبدالله العقيل يقول: (البلد كلها ماشية بقضاء وقدر، وليس فقط الرافعة. وحتى المتسببين بكارثة سيول جدّة، طلعوا براءة! قضاءً وقدر)! واستنتج آخر بأن آل سعود ليسوا على قدر المسؤولية، فالكوارث تتكرر، والإهمال والاستهتار بالأرواح مستمر، لمجرد المصالح التجارية والإقتصادية. فيما تساءل ثالث: (هل الفساد وصل أطهر بقعة؟ أين الإحتياطات). طبعاً وصل منذ زمن بعيد ولم يغادر المفسدون أرض المقدسات.

الإعلامية رائدة السبع شكرت طبّالي الحكومة على (درس القضاء والقدر) وأضافت: (باقي درس الحساب والعقاب). وسخر آخرون من أن المتهم في سقوط الرافعة لن يكون هذه المرة: ايران والإخوان وداعش والجزيرة وقطر وتركيا. وإيران بالذات الهدف المفضل للإتهام السعودي، كما في نفق المعيصم الذي اودى بمئات الحجاج قبل سنوات. لكن هذه المرة استشهد أحد عشر حاجاً ايرانياً بسبب الرافعة، بينهم أحد علماء الفضاء، هذا عدا الجرحى.

لكن الإعلامي الاقتصادي برجس البرجس خاف من التعليق وهو يشهد منافحة مخبري الداخلية عن آل سعود، وتحويلهم (القضاء والقدر) مجرماً، ومهاجمة كل من يتحدث عن فساد وسوء ادارة، لهذا خشي البرجس فأجّل تعليقه، قال: (لا نثق بالتقارير ـ يقصد الرسمية منها طبعا ـ ولا نعلم من منازلنا، الأسباب الحقيقية لما جرى، والمكان والزمان لا يسمحان بالطرح العام، ولذلك الحكمة في الصمت).

لكن من حسن الحظ، وجد الجمهور وسيلة للتعبير، او مدخلاً له، حينما غرد شعراء ممتدحين الرافعة التي قتلت الحجاج، بأنها (خرّت ساجدة) لله، ثم جاءت قناة العربية فقالت على لسان مسؤول سعودي بأن (لا نيّة في تأجيل الحج)! هنا ظهرت هاشتاقات على موقع التواصل الاجتماعي تويتر، تسخر وتنتقد.

الشاعر فواز اللعبون قال:

عجبي لرافعةٍ رأتْ مِنْ حولها

تلويحةَ البشرى فخرّت ساجدة

والشاعر هلال الشيادي قال عن الرافعة بأنها:

لبّتْ نداء الله حين تساقطتْ

بينَ الحجيجِ ليرتقوا نحو السماءْ

يا ربُّ رافعة على الحرم انحنتْ

في سجدةٍ، تسبيحها طُهر الدماءْ

وتضامن مع الشاعرين عيسى جرابا، فقال عن الرافعة القاتلة:

هي رافعةْ، خشعتْ لذكر الله

تجريهِ الشفاهُ السّاجِعَةْ

سقطتْ؟ لعمرُ الله لا لكنها

أحْنَتْ لترفعَ كلّ روحٍ خاشعةْ

(الرافعة ما سقطت بل سجدت لله. ليتَ قريحتكم تغطّتْ كويّس ونامتْ بدري) يقول المحامي فاضل العجمي متهكّماً. وتساءل: (وشْ وضعْ باقي الرافعات اللي ما سَجَدْنْ؟). والشيخ الممتع، إمام الحرم السابق، عادل الكلباني قال: (تغليف السقوط بالسجود، يُشعرُ بأن التديّنَ قاتل). واعتبر سجود الرافعة (من أهْيَطْ أنواع التطبيل)؛ وزاد ساخراً: (يجب البحث عن أسباب عدم سجود بقية الرافعات. قد يكنَّ ليبراليات!). ومضى فقال بأن القضاء والقدر لا يعني عدم البحث عن المتسبب والمقصّر ومحاسبته. ولكي لا يتورط مع الحكومة أضاف الكلباني جملة: (إنْ وُجِدْ)!

أحمد العواجي ردّ بشعرٍ على الشعراء:

لله درُّ بلاهةٍ في قومنا

ليستْ بغيرِ رؤوسِهمْ متواجدةْ

سَحَقَتْ ضيوفَ الله رافعةُ البِنا

قالوا وربُّ البيتِ (خرّتْ ساجدةْ)

الاعلامي حسين بافقية اقترح اضافة شعراء مدرسة الرافعة الساجدة الى شعراء المهجر وشعراء أبولو. وذكرنا بقصيدة المرحوم الوزير غازي القصيبي الذي رثى تلميذات مدرسة جلاجل حين سقطت عليهن وقتلتهن. يومها قال القصيبي راثياً ومندداً:

بسطَ الموتُ يا جلاجلُ كفّيهِ

فماذا أعطيتِهِ يا جلاجلْ؟

كلُّ هذيْ الزهور؟ ما أفجع الزّهرَ

صريعاً على نيوبِ المناجِلْ

كلُّ هذا العبير، مِنْ طِيبِ مَرْيولٍ

ومِنْ خَفْقَة الصّبا في الجدائلْ؟

كلُّ هذا الجمالْ؟ ما رأتِ الأحلامُ

أبهى منَ الصبايا الغوافلْ

قلّبَ الموتُ طرفَهُ فرأى العُشَّ

دماءً على بقايا بلابلْ

الصغيراتُ في الحطامِ ضلوعٌ

ودموعٌ وحَشْرَجات جوافِلْ

ذرفَ الموتُ دمعتينِ وأغضى

عن ضحاياهُ.. وهو خزيانُ ذاهِلْ

يا صغيراتُ يلتقي ذاتَ يومٍ

في رِحابِ الرّدى جبانٌ وباسلْ

والحقيقة ان للقصيبي قصيدة أخرى اكثر ألماً وتنديداً لم ينشرها بإسمه.. لكن نعود الى الرافعة الساجدة، فعقيل الشخص يعلق بأن الكارثة تم تحويلها الى ما يشبه المعجزة الربانية، وبأنه لم ينقص سوى أن تسقط الأسهم، ليصير لدينا (معجزة الأسهم الساجدة). وتدافع المعلقون على (الرافعة الساجدة) فقال أحدهم: (كويّس ما سجدوا الرافعات الباقيات. ثم شكراً للإكتفاء بسجدة واحدة). وقال ثان: (من الجيد ان بقية الرافعات قاسية قلوبها لم تخشع لله).

اما الشيخ خضر بن سند، فانتقد الشعراء وقناة العربية التي بشّرتنا بغباء بعد الكارثة بأنه (لن يتم تأجيل موسم الحج). في اشارة الى شريط العربية التي نقلت عن مسؤول سعودي بأن مناسك الحج ستجري في موعدها، ما اعتبره الكلباني (أهبل تصريح). وهو ما دفع أحدهم ليقول: (الحمد لله ريّحتونا يالعبريةْ. كنّا خايفين بعد حادثة رافعة الحرم يؤجلون الحج لشهر صَفَر). وأكمل آخر هازئاً: (على أساس أن مناسك الحج أولمبيات رياضية، او بطولة كأس العالم) يمكن تأجيلها. والشيخ الصقعبي وجدها فرصة للطعن في العبرية: (طيب لم يخبرنا شراذم قناة العبرية ما إذا الحج لازال في مكة ولاّ غيّروا المكان؟). هذا يشبه ما قاله احد مخبري النظام من أن (عدد من الحجاج أعلنوا اسلامهم بعد حُسن المعاملة من العسكر السعودي).

الصفحة السابقة