لقاء اللواء علي مملوك مع وزير الدفاع السعودي.. ماذا وراء الأكمه؟

رسالة سعودية في لقاء مملوك ـ بن سلمان

مقاطعة إيران.. شرط بقاء الأسد!

يحي مفتي

لماذا اللقاء في الأصل؟

أول ما يؤشر اليه مثل هذا اللقاء أن سورية البلد ذات قيمة استراتيجية تسترعي اهتماماً خاصاً، وأن الطرف الذي يمثّل سورية قوي الى درجة يفرض على الطرف الآخر التفاوض معه دون غيره، وهذا في حد ذاته إعتراف بفشل مشروع إسقاط النظام بالقوة العسكرية، وضرورة اللجوء الى أدوات الدبلوماسية من أجل إحداث خرق ما في الجدار.

صحيح أن النظام السوري يسيطر على 30% من الأرض، ولكنه يجمع بداخل هذه المساحة 80% من السكّان، لأن المساحات الأخرى فارغة غير مأهولة، او قليلة التأهيل بالسكان.

من جهة أخرى، فإن النظام السوري تعامل الى حد كبير بواقعية مع أزمته الداخلية، لجهة الاعتراف بكونها معقدة وطويلة، وأنها لا تقتصر على سورية، بل هي جزء من أزمة عربية وإقليمية ودولية، وتستهدف في النتائج خلق أزمة جديدة. اعترف رأس النظام، أي بشار الأسد، بأن هناك 1200 مشكلة في سورية وأن حلها يتطلب: مصالحة، استجابة للاصلاحات، حسم ومواجهة.

الأهم من ذلك كله، أن النظام لم يقطع شعرة معاوية مع أي من أطراف الأزمة، خصوصاً الدول، بل بقيت قنوات التواصلة مفتوحة بما في ذلك مع الدولة الأكثر تشدّداً ضد سوريا مثل السعودية، فكان التواصل بين مملوك ـ بندر بن سلطان لم ينقطع منذ بداية الازمة حتى إعفاء الأخير من منصبه.

في المآلات، نجح النظام السوري في إبعاد الخطر نفسه، وتحويل داعش الى خطر دولي. وفي غضون أربع سنوات من الأزمة السورية حصلت تطوّرات على درجة كبيرة من الأهمية صبّت في صالح النظام:

1/ تفاقم الانقسامات بين الجماعات المسلّحة.

2/ سقوط نظام الاخوان في مصر وصعود نظام العسكر في 30 يونيو 2014 وهو نظام متصالح مع النظام السوري، الى حد التعاون الأمني والاستخباري. ما يجمع مصر وسوريا الآن كثير جداً، وتجمع بينهما قضية مكافحة الإرهاب؛ ولذلك، فإن مصر مرشّحة لأن تلعب دوراً في تسوية الأزمة السورية، والدخول في مبادرة روسية تجمع أطرافاً عربية وإقليمية مهمة.

3/ ضعف نظام اردوغان والتجاذب بينه وبين المعارضة في إطار تشكيل الحكومة، الأمر الذي انعكس على أدائه الخارجي..

4/ الخلافات السعودية الاميركية منذ إلغاء قرار الحرب على سورية في سبتمبر 2013.

5/ الاتفاق النووي الايراني والانعكاسات الايجابية على الملف السوري.

6/ صعود خطر داعش على المنطقة والعالم.

الى جانب ذلك، فإن النظام السوري نجح خلال الاربع سنوات الماضية في إعادة تماسك قاعدته الاجتماعية، فيما تحوّلت المعارضة الى قوة طاردة للمجتمع، بسبب سلوكها وانقسامها وخطابها وعنفها وفساد بعضها. النظام استعاد الدروز والأكراد، ولذلك عمدت المعارضة الى القيام بأعمال عنف في السويداء بهدف توتير العلاقة بين الدروز والنظام. لكن مساعي التقارب بين النظام والأكراد والدروز كان لها تأثيرات كبيرة في الواقع السياسي السوري، وفي حال استمرارها ستنعكس على المستقبل السياسي في سورية.

كل ذلك يجعل من السيناريوهات المقترحة كارثية في حال أقدمت أي من الأطراف على تشجيعها أو الانخراط فيها مثل:

1/ استمرار الفوضى والحرب بما يشجع الجماعات الارهابية للتمدّد وكسب المزيد من الأفراد والأرض.

2/ سيناريو تقسيم سوريا وما يؤدي اليه من احتمالية نشوء دويلات ارهابية تتحول الى مأوى للجماعات الارهابية.

3/ والسيناريو الراجح هو: التفاهم مع النظام السوري من أجل التوصل الى حل يقوم على الشراكة وتقاسم الكعكة.

سعود الريس: نشر خبر اللقاء
والنفي في يوم واحد في صحيفة الحياة!

فريق أردوغان حاول منذ بداية الازمة إقناع القيادة السورية بتقاسم السلطة مع الاخوان المسلمين، وحين تمّ رفض المقترح تبنى أردوغان خيار الحرب واسقاط النظام.

السعودية التي رفعت شعارإسقاط النظام السوري.. وجدت نفسها بعد مرور أكثر من أربع سنوات على الأزمة السورية أمام حقائق جديدة لا يمكن تجاوزها وهو ما عرضناه آنفاً.. فكان اللقاء السعودي مع النظام السوري خياراً راجحاً.

لقاء اللواء علي مملوك، مدير أمن الدولة سابقاً، ومدير مكتب الأمن القومي بدلاً عن هشام بختيار الذي قضى في تفجير خلية الأزمة في دمشق قبل سنتين.. لقاؤه مع محمد بن سلمان، نجل الملك وولي ولي العهد ووزير الدفاع، أثار لغطاً حول مضمونه، ولكن ثمة اتفاق على أصل وقوعه.

في صحيفة (الاخبار) اللبنانية بتاريخ 31 يوليو الماضي كتب وفيق قانصو تفاصيل حول ما بات يعرف بـ (اللقاء المعجزة). تاريخ اللقاء يعود الى ترتيبات جرت في موسكو حين استقبل الرئيس فلاديمير بوتين في 19 يونيو الماضي محمد بن سلمان، وجرى بحث ملفات عديدة في المنطقة، بما فيها الملف السوري وتصاعد الإرهاب.

في التقدير الروسي، وتقديرات دول أخرى أوروبية، وحتى الولايات المتحدة، فإن داعش خرج عن سيطرة داعميه وتحوّل خطراً عالمياً، ولابد من جهود إقليمية ودولية لمواجهة هذا الخطر، وأن السعودية بفعل رمزيتها الدينية في العالم السنّي، وما تواجهه من تحديات نتيجة انخراطها في الحرب على اليمن، وتداعيات الاتفاق النووي مع ايران والاوضاع الاقتصادية المتردّية.. يفرض عليها الدخول في تحالف لمواجهة خطر الارهاب.

قدّم بوتين مطالعة لضيفه بن سلمان حول الوضع السوري، وأن النظام بدأ يستعيد سيطرته على المناطق، فيما يتصاعد خطر الارهاب الذي بات يهدد السعودية في عقر دارها.

إقتنع بن سلمان بالطرح الروسي وجرى مناقشة الموضوع جديّاً، وكان مقترح بوتين هو لقاء مسؤول أمني سوري رفيع، فوافق بن سلمان على المقترح ولكن من دون التزامات.

وفي 29 يونيو وصل وزيرالخارجية السوري وليد المعلم ونائبه فيصل المقداد ومستشارة الرئيس السوري بثينة شعبان الى موسكو للقاء بوتين، وجرى التأكيد على التزام روسيا إزاء سوريا وبشار الأسد.

وافق بشار على العرض الروسي، وكلّفت الاستخبارات الروسية بالتواصل مع مملوك لإنضاج الفكرة، واشترط بن سلمان ان يكون اللقاء في الرياض، فوافقت دمشق على الشرط. وفي غضون أسابيع أقلعت طائرة روسية خاصة من مطار دمشق الدولي وعلى متنها نائب رئيس الاستخبارات الروسية وعلي مملوك، الى الرياض، حيث اجتمعا في مكتب محمد بن سلمان في العاصمة السعودية، وقد تم اللقاء بحضور رئيس الاستخبارات السعودية صالح الحميدان (تم استبداله مؤخراً).

تحدث مملوك فشكر الروس على «مبادرتهم الكريمة»، مبدياً أسفه بأن «التواصل بين بلدينا بات يحتاج الى وساطة»، لافتاً الى أن سوريا والسعودية ومصر لطالما شكّلت «ثقلاً في النظام العربي، وكانت علاقاتنا طيبة على الدوام». وحمّل المسؤول السوري السعودية «المسؤولية الكاملة عن كل ما جرى في سوريا من تدمير وتخريب ودعم للإرهاب وتمويله، وشراء ذمم بعض العشائر منذ وقت طويل، وتشجيع الانشقاق في الجيش السوري». وقال إن السياسة السعودية «اتّصفت دائماً بالحكمة والعقلانية، فكيف تمشون وراء مشيخة قطر التي كان دورها تخريبياً من تونس الى ليبيا ومصر وغيرها، ومن هي قطر لتدير السياسة السعودية والسياسة العربية؟».

وذكّر مملوك بالتعاون بين النظامي السوري والسعودي «تعاونّا معكم في كثير من الملفات، وخصوصاً في الملف اللبناني. واستمر هذا التعاون حتى بعد الخلاف بيننا إثر اغتيال رفيق الحريري، فزار الملك (الراحل) عبدالله دمشق واصطحب الرئيس الأسد الى بيروت، وجاء سعد الحريري الى دمشق، وبات في قصر المهاجرين، وقدمنا كل التسهيلات لتعيينه رئيساً للحكومة. كانت الأمور ماشية. كنتم تستثمرون في سوريا. فجأة تغيّر كل ذلك، وغيّرتم سياستكم في لبنان».. لافتاً الى أنه «رغم مسؤوليتكم عن كل ما حصل في سوريا، لم نتعرض للسعودية كدولة في تعاطينا السياسي والاعلامي». وختم مملوك بالتأكيد أن «وضعنا في سوريا ميدانياً متين، ولا بد أن التقارير تصلكم عن تقدم الجيش السوري في كثير من الأماكن»، متمنياً «أن تغيّروا وجهة نظركم وتعاطيكم مع ما يجري».

وجاء دور محمد بن سلمان، فرد على مملوك بالقول: «مشكلتنا معكم سببها تحالفكم مع إيران»، ومضى قائلاً: «في كثير من الأوقات كانت لديكم فرصة لإصلاح الامور لكنكم لم تستمعوا الى صوت شعبكم». وأشار الى أن «مشكلتنا الأساسية معكم، منذ وقت طويل، أنكم مشيتم وراء إيران التي نخوض معها صراعاً كبيراً على مستوى المنطقة، ورضيتم أن تكونوا جزءاً من الحلف الايراني الذي نرى أن له أطماعاً في المنطقة تهدّد كياناتنا»، كما «أنكم في لبنان مشيتم وراء حزب الله الذي يسير في ركاب إيران، والذي يريد السيطرة على لبنان وتحويله الى محميّة إيرانية». وغمز من دور سعود الفيصل وبندر بن سلطان في المسؤولية عن التغيير في السياسة السعودية تجاه سوريا، وختم: «ليكن اللقاء فاتحة.. ليسمع بعضنا بعضاً»، وتم الاتفاق على استمرار التواصل من دون تحديد أي موعد أو تسمية أي مندوبين عن الطرفين.

وبصرف النظر عن النتائج فإن لقاءات أخرى جرت في الدوحة والإمارات وسلطنة عمان تفيد بأن ثمة تحرّكات إقليمية ودولية تستهدف البحث عن سبل حلحلة للأزمة السورية.

الرواية السعودية عن اللقاء

جمال خاشقجي يكتب نافياً لقاء المملوك في
الرياض والريّس يؤكده رسمياً!

بدا الإرباك واضحاً على الرواية السعودية، وكشف عن أن الاعلامي لم يكن مواكباً للسياسي.

الطريف أن جريدة (الحياة) لصاحبها الأمير خالد بن سلطان نشرت الخبر ونفيه في عدد واحد، بل تمّ التأسيس على النفي وتسويق موقف ليس صحيحاً لدى السعودية فيما يرتبط بالشأن السوري، وخصوصاً مصير الرئيس السوري بشار الأسد.

في 8 أغسطس الماضي، نشرت الجريدة تقريراً لسعود الريس أكّد فيه خبر اللقاء، ونقل عن مصادر سعودية رسمية قولها: «أن مسؤولين سعوديين استضافوا رئيس مكتب الأمن القومي السوري اللواء علي مملوك في جدة في السابع من شهر يوليو الماضي، فيما سمي بـ»اللقاء المعجزة» - أي بعد نحو 20 يوماً من لقاء سان بطرسبورغ الذي جمع الرئيس الروسي بوتين مع ولي ولي العهد السعودي وزير الدفاع الأمير محمد بن سلمان». ونقل الريس عن المصادر قولها: (ان السعودية ربطت مصير الأسد بعملية سياسية في سورية، شرطها الأول: انسحاب ايران والميليشيات الشيعية التابعة لها و»حزب الله» مقابل وقف دعم المعارضة، ليبقى الحل سورياً - سورياً، ما يمهد إلى إجراء انتخابات رئاسية وبرلمانية بإشراف الامم المتحدة).

بصرف النظر عن التفاصيل، كشفت المصادر، بحسب الريّس، أن اللقاء فشل بحسب فحوى كلام المصادر شبه الرسمية: (إن السعودية أثبتت في اللقاء انّه «لا صدقية للأسد، وإنها تحارب الإرهاب بلا هوادة»..).

ولعل في تقرير الريّس إشارة واضحة الى أن تسريبات المصادر السعودية شبه الرسمية تأتي للرد على ما «تداولته وسائل الإعلام المحسوبة على دمشق» بحسب الريّس. وأكّدت المصادر السعودية بأن السيناريوهات التي سرّبت لوسائل الاعلام المحسوبة على دمشق «أعدّت في دمشق ولا يُستبعد ان يكون رئيس النظام السوري هو من أشرف عليها بنفسه»، بحسب الريّس نقلاً عن المصادر.

الريس، ودائماً بحسب المصادر السعودية شبه الرسمية، نقلت عن أن اللقاء: «جاء على خلفية التردد الروسي في وضع حد لممارسات النظام السوري، وعزز ذلك الانطباع السائد لديهم ان دعم السعودية للمعارضة السورية هو ما يؤجج الارهاب، على رغم ما تم تقديمه من أدلة، لكن ومع الشعور السعودي ان الروس على قناعة بان الرياض تعوق الحل السياسي من خلال دعم المعارضة، اكدت المملكة انها على استعداد لفعل أي شئ لوقف نزيف الدم السوري، وطلبت من موسكو تقديم أي مبادرة تضمن الحل بديلة من جنيف». وفي هذا إشارة الى المبادرة الروسية بعقد لقاء بين الجانبين السوري والسعودي.

التوجيه السعودي لخبر اللقاء بدا واضحاً في عدم انسجام طلب السعودية من بشار قطع العلاقة مع ايران وحزب الله، في مقابل وقف السعودية لدعم الجماعات المسلّحة. الجدير بالذكر أن المطلب السعودي ليس جديداً، فقد أوفد الملك عبد الله نجله عبد العزيز في بداية الأزمة السورية، وتقدّم للرئيس بشار الأسد بالعرض نفسه، أي التخلي عن ايران وحزب الله، وسوف تتكفل السعودية بإنهاء الأزمة، والمشاركة الفاعلة في إعادة إعمار سوريا. ولكن بشار رفض المقترح السعودي، وواصلت السعودية انخراطها الشامل في الحرب على سوريا. وعليه فإن ما قام به الجانب السعودي هو تجديد المطلب القديم، وكل ما عدا ذلك مجرد تفاصيل مكررة، بل وكثير منها غير صحيح، بما في ذلك قبول السعودية تقديم السعودية مبادرة لإحلال السلام، وتعرية الأسد أمام الروس، من خلال الجلوس مع أركان النظام.

في التفاصيل ينقل الريّس عن المصادر السعودية: «تمّ بالفعل الترتيب لعقد لقاء بوساطة روسية، ووصل مملوك إلى جدة يرافقه مسؤولان رفيعان المستوى، أحدهما في الاستخبارات السورية والآخر في وزارة الخارجية، بعدما نسقت السعودية مع حلفائها، وهو ما كان يجهله الاسد؛ اذ حاول، الحصول على إذن لطائرة مملوك عبر إحدى سفاراته في الخليج لرغبته بتسريب الخبر».

وبحسب الرواية السعودية فإن المبادرة التي تقدّمت بها هي على النحو التالي: (وقف دعم المعارضة في مقابل اخراج عناصر «حزب الله» وايران والميليشيات الشيعية المحسوبة عليها ليكون الحل سورياً – سورياً). ونفت المصادر السعودية أن تكون «السعودية طلبت من النظام الابتعاد عن إيران ثمناً للتقارب مع الأسد»، وأوضحت «ليس صحيحاً ما ذكر بأن أساس مشكلة السعوديين مع بشار الاسد هو تحالفه مع ايران». لافتة الى ان «علاقة سورية بإيران ليست وليدة اليوم، ولم تكن لذلك أي اشكالات مع النظام هناك»؟.

خالد الدخيل يكتب مبرراً تأخر اعلان الرياض لقاء مملوك

وبحسب المصادر السعودية شبه الرسمية أيضاً فإن علي مملوك طلب «فرصة للتفكير» في ختام اللقاء حول كيفية التعامل مع «حزب الله». وفي الوقت نفسه نفت أي كلام عن تحالف رباعي يضم سوريا والسعودية وتركيا والاردن لمحاربة الإرهاب.

ثمة أمور مهمة تبدو من الرواية السعودية شبه الرسمية وهي:

أولاً ـ أكدت الرياض خبر اللقاء بين علي مملوك مع مسؤولين سعوديين، ولكنها تعمّدت عدم الكشف عن هوية الطرف المقابل لعلي مملوك، فيما أغلب الرويات تؤكد أنه محمد بن سلمان.

ثانياً ـ أن السعودية لم تكن تنوي الكشف عن خبر اللقاء، لولا مبادرة الجانب السوري الى كشفه بتفاصيله، ما اضطرها لدفع الحرج وتقديم روايتها الخاصة.

ثالثاً ـ أن اللقاء تمّ بناء على مقترح روسي، تطوّر لاحقاً الى استعداد سعودي باللقاء مع أحد أركان النظام.

رابعاً ـ أن موضوع اللقاء كان واضحاً وقديماً هو التخلي عن ايران وحزب الله في مقابل بقاء بشار الأسد في السلطة ووقف دعم الجماعات المسلّحة، وما عدا ذلك ليس سوى مزاعم وتبريرات لما بعد التسريبات.

الطريف في الأمر، وعلى النقيض لتأكيد السعودي شبه الرسمي للرواية، كتب جمال خاشقجي، الإعلامي المقرّب من آل سعود ورئيس قناة (العرب) لصاحبها الوليد بن طلال وفي اليوم نفسه مقالاً في (الحياة) بعنوان: (بشار الأسد وأحمد القطان والعظام الرميم) نقل فيه عن السفير السعودي في القاهرة أحمد القطان نفيه «وبشكل قاطع حصول أي زيارة لمسؤول سوري للمملكة». من الطريف أن يكون الخبر ونفسه يصدران في العدد نفسه.

خاشقجي بنى على نفي القطان، وهاجم عدداً من الكتّاب المصريين الذين وصفهم بـ «غيرالموضوعيين»، وقال بأن «لا مستقبل لبشار الأسد في أي مشروع سعودي لإنقاذ سورية..». وكان الأجدر بالصحيفة أن تعرض تفاصيل اللقاء بين مملوك والمسؤولين السعوديين على خاشقجي قبل أن تدعه ينزلق في تحليله وتوزيع الاتهامات يميناً وشمالاً دون أن يعي بأن «الحياة» هي من نشر تفاصيل اللقاء وفق الرواية الرسمية السعودية.

ما هو أطرف أن خاشقجي ينقل الخبر وكأنه موجود في مصادر أخرى، ولم يعرف أنه بالقرب من صفحة رأيه، وزميله في الصحيفة سعود الريّس هو من نقل تفاصيل اللقاء عن مصادر سعودية شبه رسمية، وأن (الحياة) وليست إعلام حزب الله وايران أو الاعلام المصري.. هي من ذكرت تفاصيل أخرى عن اللقاء وفق المنظور السعودي. هذا وقد أطنب خاشقجي كثيراً في نفي اللقاء فضلاً عن تفاصيله، بما في ذلك العرض الذي تقدّمت به السعودية لحل الأزمة السورية بقبول الأسد رئيساً لسوريا في مقابل تخليه عن ايران وحزب الله.

على المنوال نفسه، كتب خالد الدخيل في (الحياة) في 9 أغسطس الماضي عن خلفيات اللقاء وحاول الإجابة عن سؤال المقال: «لماذا حصل لقاء جدة؟». حاول الدخيل شرح أسباب تأخر السعودية في إعلان روايتها عن لقاء جدة، فيما سارع النظام السوري في تسريب اللقاء عبر صحيفة «الأخبار» اللبنانية. وربط التأخير والمسارعة بالخلفية السياسية لموقف طرفي اللقاء. يرى الدخيل بأن الجانب السعودي كان قبل اللقاء وبعده على قناعة «بأنه لا حل في سورية مع بقاء الأسد» وأول سؤال يرد هنا: إذاً لماذا اللقاء في الأصل؟. كل ما قاله الدخيل في هذه النقطة هي تمنيات وتأملات شخصية لا صلة لها باللقاء وما دار فيه، بل هي قناعته الذاتية وليست قناعة الفريق السياسي السعودي. في الحقيقة، إن النزعة الرغبوية لديه تحول دون تقبّل فكرة أن ثمة مبادرة سعودية تقوم على بقاء بشار في منصبه في مقابل تخليه عن ايران وحزب الله.. هذا يختصر كل ما كتبه خاشقجي والدخيل من بعده.

تبنى الدخيل ما جاء في الرواية السعودية شبه الرسمية وكما نقلها سعود الريس حرفياً، وراح يصوغ تحليله وما يحمله من أبعاد شخصية ورغبوية وانحيازية. أضاف الدخيل من عنده أبعاداً أخرى ليست جزءً من الرواية الرسمية، مثل أن يترك مصير الرئيس السوري للشعب السوري من خلال انتخابات رئاسية وبرلمانية تحت إشراف الأمم المتحدة. ما يلي هو زيادة من الدخيل نفسه «قال السعوديون للروس أثناء التحضير للقاء جدة إنهم يقبلون بالنتيجة التي سيسفر عنها هذا الحل مهما تكن، شريطة أن يقبل الإيرانيون بها أيضاً».

الدخيل المصاب بإيران سندروم، لا يتردد في إخراج السعودية في هيئة الدولة الديمقراطية التي تقبل بنتائج الانتخابات الرئاسية والبرلمانية وإن ايران هي التي تحول دون أن ينال الشعب السوري حقه في تقرير مصيره..

عبدالعزيز نجل الملك عبدالله: محاولات لنقل سوريا
بعيدا عن المحور الإيراني الى الأمريكي

تحدّث الدخيل عن التزام قانوني بحق الشعب السوري «في اختيار من يحكمه»، مع أن هذه الآراء ليست فقط محظورة في المملكة السعودية، بل لم تصدر عنه حين يتعلق الأمر بتطوير النظام السياسي في المملكة المحكومة بنظام ملكي شمولي مغلق. واللافت أن الدخيل ربط تسريب خبر اللقاء برفض مقترح المبادرة السعودية القائمة على الانتخابات الرئاسية والبرلمانية، وأن التسريب هو جواب رفض النظام السوري علنا لمبادرة تدعو السوريين لتقرير مصيرهم من دون تدخلات خارجية.

وفي حقيقة الأمر أن تخريج الدخيل للتسريب محاولة ذكية لدفع الحرج عن النظام الذي وجد نفسه أمام مأزق حقيقي. إن المبادرة المزعومة القائمة على الانتخابات الرئاسية والبرلمانية ودعوة السوريين لتقرير مصيرهم لا يتطلب لقاءً سريّاً ووساطة روسية، فمثل هذه المبادرة يمكن إطلاقها في العلن وإحراج النظام السوري وتجييش العالم بأسره لتبنيها، أما أن يتم تمريرها في لقاء سري فذلك ما لا يحتمله منطق الصفقات.

من جهة أخرى، فإن التطوّرات اللاحقة أثبتت أن اللقاء لم يكن على صلة بمبادرة سعودية تتعلق بالانتخابات بل هي تخضع لمعادلة: بقاء الأسد مشروط بالتخلي عن ايران وحزب الله.

الرد السوري

لم يكن مطلب تخلي بشار عن ايران وحزب الله جديداً، وليس مقتصراً على جناح دون غيره في العائلة المالكة. في بداية الأزمة السورية أوفد الملك عبد الله إبنه عبد العزيز الى دمشق، فالتقى بشار الأسد وعرض عليه مقترح التخلي عن ايران وحزب الله، في مقابل بقائه على رأس السلطة، وإنهاء الأزمة في سوريا، وتخصيص عشرين مليار دولار في مشروع إعادة إعمار سورية. كان رد بشار قاطعاً بالرفض.

أعاد محمد بن سلمان الطلب مجدّداً في لقائه مع علي مملوك، وطلب الأخير مهلة كي تصله الإجابة. في المرة الأولى كان الجواب سريّاً وعن طريق القنوات الخاصة، أما هذه المرة فقد شاء بشار وفريقه السياسي إيصال الرسالة علنية وهو ما أغضب الجانب السعودي.

في خطاب له خلال لقاء مع رؤوساء وأعضاء المنظمات الشعبية، والنقابات المهنية، وغرف الصناعة والتجارة والزراعة والسياحة في 26 يوليو قال الأسد: «على الرغم من تعقيدات الوضع في سوريا، فقد زالت الغشاوة عن كثير من العقول، وسقطت الأقنعة عن كثير من الوجوه، وهوت بحكم الواقع مصطلحات مزيفة، وفضحت أكاذيب أرادوا للعالم أن يصدقها». وأضاف أن «الإرهاب فكر مريض، وعقيدة منحرفة، وممارسة شاذة، نشأت وكبرت في بيئات أساسها الجهل والتخلف، إضافة الى سلب حقوق الشعوب واستحقارها، ولا يخفى على أحد أن الاستعمار هو من أسس لكل هذه العوامل ورسخها ومازال».

وأطرى الأسد على الأدوار الايرانية والروسية والصينية وقال: «لم نعتمد إلا على أنفسنا منذ اليوم الأول، وأملنا الخير فقط من الأصدقاء الحقيقيين للشعب السوري». وأعرب عن شكره لإيران على دعمهما، مؤكدا أنها قدمت لبلاده دعماً بالخبرات العسكرية، واعتبر أن ما قدمته الأخيرة جاء «انطلاقا من أن المعركة ليست معركة دولة أو حكومة أو رئيس بل معركة محور متكامل، لا يمثل دولاً بمقدار ما يمثل منهجا من الاستقلالية والكرامة، ومصلحة الشعوب، وإستقرار الأوطان».

كما شكر الأسد حزب الله على اصطفافه إلى جانب الجيش السوري وقال: «إخوتنا الأوفياء في المقاومة اللبنانية امتزجت دماوءهم بدماء إخوانهم في الجيش، وكان لهم دورهم المهم، وأداؤهم الفعال والنوعي مع الجيش في تحقيق إنجازات». واستبعد فكرة التنازل وقال: «الشعب السوري بعد هذه السنوات من حرب الوجود ما زال صامداً يضحي بأغلى ما عنده في سبيل وطنه، ولو كان يريد أن يتنازل لما انتظر كل هذا الوقت ودفع كل ذلك». ووجّه انتقادات للسعودية والدول الداعمة للجماعات المسلّحة واتّهم «الدول الداعمة للإرهابيين بأنها كثفت دعمها لهم مؤخراً وفي بعض الأماكن تدخلت بشكل مباشر لدعمهم».

في رد فعل على خطاب الأسد، أوفد محمد بن سلمان عادل الجبير، وزير الخارجية، الى موسكو ليطلق من هناك، من حيث صدرت المبادرة الروسية باللقاء السعودي السوري، الرد. وفي 11 أغسطس الماضي زار الجبير موسكو وأطلق تصريحاً بعد لقائه لافروف: «لا مكان للأسد في مستقبل سوريا»، وزعم بأن «موقف بلاده تجاه سوريا لن يتغير وهو مبني على إيجاد حل سلمي».

لافروف من جانبه كشف عن أن الإختلاف مع السعودية ما زال قائماً حول مصير الأسد، وأن مبادئ جنيف 1 تنص على الحفاظ على مؤسسات الدولة السورية ومنها الجيش، ومن الضروري مشاركة الجيش السوري في جهود محاربة الإرهاب.

هنا أراد الجبير أن يسجّل موقفاً في محضر لافروف وقال: «نؤمن ان بشار الاسد انتهى.. فإما ان يرحل عبر عملية سياسية من أجل حقن دماء السوريين، أو في سياق عملية عسكرية، لان بلاده تعتبره جزءاً من المشكلة لا جزءاً من الحل.. وتعتبره السبب في ظهور داعش في سورية عندما وجّه الاسلحة ضد شعبه».

تصريح كهذا أثار غضب لافروف فرد على الجبير: «إن اسقاط الاسد عسكرياً سيؤدي الى استيلاء الدولة الاسلامية على السلطة في سورية، وان روسيا تعتبرها خطرا يهدد سورية والسعودية ودول المنطقة الاخرى»، وأضاف: «السوريون وحدهم يجب أن يقرّروا مصير الرئيس الاسد من خلال حوار شامل بمشاركة جميع الاطراف المعنية».

بيد أن ما لفت انتباه الصحافيين والمراقبين هو الرد الغاضب من لافروف على «عنجهية» الجبير وتذاكيه المفتعل، حيث وصف الجبير وحكومته بـ «الحمقى والأغبياء»، وكان ينظر لافروف في هاتفه الخليوي ويسجل ملاحظات.

هل أحرقت السفن؟

مواجهة كلامية في موسكو بين الجبير ولافروف

برغم من أن لا شيء مستغرب أو مستبعد في السياسة، وإن الخصومات والصداقات تحكمها معادلات ومصالح، إلا أن المواقف الراديكالية التي صدرت عن الجانبين السوري والسعودي تجعل من إمكانية اللقاء في الفترة القريبة القادمة غير واردة. السعودي كان ينتظر جواباً إيجابياً من القيادة السورية بخصوص مصير العلاقة مع ايران وحزب الله، فجاء الجواب السوري علنياً وقاطعاً بثبات العلاقة ولا مجال للنقاش فيها. وعلى ما يبدو، فإن الرد السعودي الموتور يعكس يأساً من أن هذا الطلب لم يعد ممكن التحقيق، وبات على الرياض رفع السقف إلى أقصى حدوده.

الأسد وبعد تصريحات الجبير أراد أن يقابله بالمثل، فاستدعى فريق قناة (المنار) الناطقة بإسم حزب الله لإجراء مقابلة معها، وفي ذلك دلالة واضحة بأنه أراد إيصال رسالة للسعودية عبر شاشة قناة تابعة لحزب الله ليكون الجواب واضحاً ولا لبس فيه.

ففي 25 أغسطس الماضي أطلق بشار الأسد جملة من المواقف عبر (المنار) في لقاء مع عمرو ناصف. تحدّث عن تحالفه مع ايرن.. وبدا في هذه النقطة شديد الوضوح بما نصّه: «تحالفنا مع إيران عمره الآن ثلاثة عقود ونصف، فما هو الجديد عندما نكون مع إيران؟ نحن في الأساس علاقتنا قوية ونحن حلفاء، نحن مع إيران وإيران مع سورية في مفاصل مختلفة». وأضاف: «عندما كانت الحرب الظالمة على إيران كنا معها، واليوم في الحرب الظالمة على سورية إيران معنا..». وتحدث الأسد عن تداعيات الاتفاق النووي مع ايران وانعكاسه على سورية وقال «قوة إيران ستنعكس قوة لسورية، وانتصار سورية سينعكس انتصاراً لإيران..». وقال بأن ليس هناك حاجة لتقارب سوري ايراني «فنحن أساساً مقتربون، ولدينا وجهات نظر متشابهة، ولدينا مبادئ واحدة، وندعم نفس القوى. نحن محور واحد هو محور المقاومة، فهذه المبادئ الأساسية لا تتغير، ربما تتغير بعض التكتيكات، ربما تتغير بعض النتائج على الأرض..».

وتحدّث بشار الأسد عن وحدة المعركة بين سوريا وحزب الله وقال: «عندما نوحد المعركة كما يحصل الآن بيننا وبين حزب الله في لبنان - الساحة واحدة - وعندما نوحد البندقية سوف نصل إلى النتائج الأفضل بزمن أقصر وبثمن أقل».

وفرّق الأسد بين وجود حزب الله على الأرض السورية وبين وجود جماعات مسلّحة أخرى وقال بأن: «الفارق هو الشرعية، على اعتبار أن من دعا حزب الله إلى سورية أتى بالاتفاق مع الدولة السورية.. بينما القوى الأخرى إرهابية أتت من أجل قتل الشعب السوري، وأتت من دون إرادة الشعب ومن دون إرادة الدولة..».

وعن العلاقة الشخصية بين الأسد والسيد نصر الله قال: «علاقة وثيقة عمرها الآن أكثر من عشرين عاماً..»، ووصف العلاقة بأنها: «تتسم بالصدق وبالشفافية، لأنه هو شخص صادق بشكل مطلق، شفاف بشكل كامل، مبدئي إلى أقصى حدود المبدئية، وفيٌّ لأقصى حدود الوفاء لمبادئه وللأشخاص الذين يعمل معهم، لأصدقائه ولكل من يلتزم معه بغض النظر عن موقع هذا الشخص أو تلك الجهة». وعن علاقة سوريا بنصر الله فقال: «العلاقة علاقة دولة مقاومة مع شخص مقاوم حقيقي..».

وعن التصعيد الاعلامي السعودي فقال بأن «ليس له وزن» ثم عقّب «ما يهم هو الممارسات الفعلية، إذا كانت السعودية بالأساس تدعم الإرهاب فما قيمة التصعيد أو غيابه». وفي ذلك إتّهام صريح بأن السعودية دولة داعمة للإرهاب في وقت تستنفر الدول الكبرى والاقليمية لتشكيل تحالف لمواجهة الإرهاب.

إن النتيجة التي يمكن الخروج بها من لقاء مملوك ـ محمد بن سلمان هي أن ثمة تحوّلاً جوهرياً في الموقف السعودي إزاء الأزمة السورية، فمجرد اللقاء يبطن إقراراً بفشل الخيار العسكري، وهذا ما جاء في بيان البيت الأبيض حول لقاء أوباما ـ سلمان إذ تمّ التأكيد على الحل السياسي للأزمة السورية، وقد اعترف الجبير نفسه بأن الملك سلمان فشل في تغيير قناعة أوباما بخصوص الأزمة السورية.

اليوم السعودية مرغمة على التعامل مع سوريا التي حاربتها، من أجل أولوية أخرى هي الحرب على الإرهاب. ولأن السعودية قبلت الاذعان بحقيقة بقاء النظام السوري، فإن ما تسعى إليه هو تبديل وجهته.. فشلت في تغيير رهانه على ايران وحزب الله، ولكن قد تدخل في مراهنة جديدة.. ولكن متى وكيف؟ سوف ننتظر ونرى!

الصفحة السابقة