مملكة العنف والدم والتكفير.. الى أين؟

فريد أيهم

يصعب ملاحقة الحوادث العنفية التي تقع في مملكة آل سعود، فهي لكثرتها صارت خبراً يومياً في الصحافة المحلية، ومواقع التواصل الاجتماعي، وحتى على شاشات التلفزيون.

كيف وصلت (مملكة الأمن والأمان) المزعوم، الى هذه النهاية البائسة؟

هل كان أحدٌ يتوقع أن ينهار الأمن ويتصاعد الإنهيار يوماً بعد آخر، في بلدٍ يزعم تطبيق الشريعة، ويتمتع بمداخيل نفطية عالية قادرة على إخراس الألسن ولو جزئياً؟

هل هناك أُفقٌ لإنقاذ مملكة تكاد تتداعى، رغم الاستخدام المفرط للقوة الأمنية؟

بالتأكيد فإن هذه الأسئلة ليست جديدة، وقد تجددت بشكل عنيف منذ أحداث الحادي عشر من سبتمبر 2001، وقد قدّم كثيرون رؤيتهم للأحداث حينها، ولمستقبل المملكة، ولكيفية الخروج من المأزق. بعض من قدّم رؤيته مثل الدكتور متروك الفالح، وُضع في السجن، وفُصل من عمله الأكاديمي، وهو شبه متقاعد اليوم. وبعضهم من الناشطين أُخرسوا بالتهديد، أو وضعوا في السجن ولازالوا، كالدكتور الحامد والدكتور القحطاني وعشرات من أمثالهم ممن كتبوا وحذروا من الإنحدار السريع باتجاه الكارثة.

انفجارات الموجة القاعدية الأولى في الرياض

وبعض ثالث، نظّر للأمور كما فعل الدكتوران فؤاد ابراهيم وحمزة الحسن في كراسات ودراسات متتالية نُشرت على مواقع الإنترنت، وفي مقالات موسّعة لم تلق أية صدى رسمي.

وحتى بين الصحفيين والكتاب المحليين، فطالما تحدث الكثير منهم عن النهاية المأساوية التي تنتظر المملكة، إن لم تعمد العائلة المالكة الى الإصلاح السياسي واصلاح الخطاب الديني وتنشيط الوضع الخدمي، وإلا فإن العنف سيستوطن البلاد الى الأبد، ومصيرها ـ كما يقول متروك الفالح ـ هو الإنهيار والتقسيم.

لا نسعى الى اختراع العجلة من جديد، فالتشخيص منذ عقد ونصف لوضع البلاد صحيح، والمنبّهون للأزمة كُثر، والحلول التي وُضعت واقترحت كانت أكثر من كافية لتنبّه الأمراء الغارقين في النوم والفساد.

ولكن، وبدلاً من المبادرة بسرعة الى العلاج، بادر ال سعود الى إفقاد الناس الأمل بأي إصلاح مهما كان نوعه، وفي أي زاوية اختارت العائلة المالكة. الإصلاحيون والحقوقيون واصحاب الرأي في السجون اليوم. كل الأسماء الكبيرة التي كنا نسمع عنها قبل عقد من الزمن، تقبع في الزنزانات.

لا أحد يتحدث اليوم عن إصلاحات سياسية او غيرها.

لا أحد يستطيع النقد ويحذّر من القادم الأسوأ، وكأن البلاد تخطو حثيثاً باتجاه النهاية الكارثية.

أمراء العائلة المالكة، وخلال الخمس عشرة سنة الماضية، لم يحلّوا مشكلة واحدة، لا سياسية، ولا اقتصادية، ولا أمنية، ولا ثقافية او فكرية، ولم يجر حتى أوليات الإصلاح الإداري. أينما اتجهت ترى الأمور تسير نحو الأسوأ، ويقف العجز والترهل، مصحوباً بالتوتر الرسمي، العلامة الثابتة للأوضاع.

قيل أن الموت يمكن أن يجدد الحياة في مملكة هرمة. رحل الملك فهد فلم يتغير شيء في عهد الملك عبدالله، ورحل سلطان، ثم رحل نايف، ثم رحل الملك عبدالله، ولازالت الأوضاع على حالها.. ذات المشاكل والسياسات، وذات العقلية الحاكمة في المعالجات، وذات التوتر والعنف المتصاعد، وذات الإخفاقات، بل أضيف اليها شيء جديدٌ في عهد الملك الجديد، سلمان، حين اشعل حرباً في اليمن، ظنّا منه أنه سينقذ مملكة متهاوية، وأنها ستعطيه زخماً محلياً يخفف عنه تداعيات الفشل في السياسة المحلية.

تفجيرات الخبر 1996

قيل أن المال، وتصاعد المداخيل النفطية، ستمنح (الدولة السعودية الريعية) فرصة تجديد شبابها، وفرصة ارضاء مواطنيها، ولكن رغم حصول البلاد على مداخيل غير مسبوقة في تاريخها، بقيت مشكلة البطالة، بل تصاعدت؛ وكذلك تصاعدت أزمة الإسكان، وأزمة الخدمات الصحية، وغيرها. ووصلنا اليوم الى أن تلك المداخيل، وبسبب حُمق سياسات الأمراء، تضاءلت الى ما يقرب من الثلث، في ظل تزايد النفقات بسبب الحروب الخارجية، والسبب هو إغراق آل سعود السوق النفطية، لأجل محاربة روسيا وإيران، فارتدّ سهمها الى قلبها، في تكرار لتجربة الملك فهد في منتصف الثمانينيات الميلادية الماضية. وعليه، من لم ينجح في حل مشاكله وقت الوفرة المالية، كيف يستطيع أن يحلّها وقت الأزمة الضاغطة؟!

أيضاً، قيل مبكّراً كنصيحة لآل سعود، بأن القمع ليس هو ما تحتاجه مملكتهم، بقدر ما تحتاج الى رؤية جديدة، ومقاربة مختلفة للمشاكل والحلول التي تحتاجها، والى نظرة مستقبلية لما يجب عليها أن تكون وأن يكون شعبها. لكن الأمراء، رأوا أن حكمهم لا يتعمّد ويبقى إلا بمزيد من القمع، ليقابل المزيد من المطالبات والإصرار الشعبي على الإصلاح والتغيير. وقد استفادت وزارة الداخلية من امكانات الدولة خلال العقد والنصف الماضيين، لتجنّد أكثر من ربع مليون شخص إضافي في أجهزتها، فضلاً عن أن تعتني برجالها عبر البعثات الخارجية الى أمريكا بشكل أكبر وعواصم غربية أخرى، ليعودوا ويقودوا مهمة القمع والسيطرة، على أسس علمية، وهو ما تفاخر به وزارة الداخلية حتى اليوم.

لكن، وكما يعرف الباحثون، فإن وزارة الداخلية مطالبة بمواجهة كامل إخفاقات اجهزة الدولة ووزاراتها، فتصاعد المعارضة وحتى العنفي منها، إنما يعود لجملة من العوامل، وليس فقط الى الإنسداد السياسي. وبالتالي فإنّ مولّدات الانشقاق والعنف والمعارضة والتوتر، لا يكفي معالجتها سطحياً، بل من الجذور، وهو امرٌ يصعب تحصيله حتى في الحدود الدنيا. ولذلك، ورغم كل الإمكانات التي وضعت تحت تصرف وزارة الداخلية باعتبارها المعنية بـ(حامية مُلك آل سعود) بشكل مباشر.. فإنها أخفقت أولاً في القضاء على المعارضين رغم الاعتقالات؛ فقد زاد عددهم، كما زاد السخط الشعبي. وفشلت الداخلية ثانياً في تجفيف منابع العنف، وفي مكافحة آثاره، وفي تقليص حجم الجرائم المسلحة وغيرها، وفي مواجهة التحديات الأخرى التي ظهرت على شكل عنف قاعدي او داعشي، تربّى في حضن الدولة واجهزتها، ثم انقلب عليها.

تفجيرات المحيا بالرياض

اليوم.. تبدو وزارة الداخلية صغيرة في قدراتها في منع الإنهيارات الأمنية المتتالية، وتظهر حلولها الأمنية بائسة في ملاحقة جذور العنف الدموي، الذي لا يمرّ اسبوع أو أقلّ منه، إلا ويضرب داخل البلاد، مدينة او مؤسسة أو شخصاً أو جماعة.

لم تكن مشكلة الرياض تكمن في ثغرة صغيرة يمكن سدّها، بل هناك آلاف الخروق التي اتسعت على الرّاقع، حتى صار من الواضح ان دولة آل سعود تتفكك أمام الناظرين بعين بصيرة، بالرغم من وضوح الأزمة، ووضوح أسبابها، ووضوح حلولها أيضاً. كأن الدولة تساق الى حتفها، حتماً!

عقدان من العنف المحلي!

اذا استثنينا العنف (الجهيماني) في نوفمبر 1979، واعتبرناه خارج السياق، بلا رابطة سابقة، ولا تأثيرات لاحقة ـ نقول ذلك تجاوزاً.. فإن ملامح العنف المحلّي بدت واضحة منذ منتصف التسعينيات الميلادية. لعل أول ما يتبادر الى الذهن تفجيرات العليّا في الرياض 1995 والتي طالت مواقع امريكية لشركة فنيل التي لها عقود كبيرة مع الحرس الوطني، وهذه قام بها كما قيل (العائدون من أفغانستان). ثم تلاها تفجيرات الخبر 1996، التي أودت بأرواح تسعة عشر عسكرياً أمريكياً، وقد نُسبت الى إيران والى الشيعة السعوديين، دون أن يقتنع الأمريكيون بذلك، ولازال هناك تسعة معتقلين شيعة منذ 19 عاماً، دونما إدانة او دليل، فيما كشفت دراسات غربية ان من قام بالأمر هي القاعدة في جزيرة العرب، والتي كان على رأسها الشيخ يوسف العييري الذي قُتل لاحقاً.

في أعقاب تفجيرات سبتمبر 2001، التي شارك فيها بأغلبية ساحقة سعوديون، بدأت موجة عنف قاعدي دموية بإسم قاعدة جزيرة العرب، ولم تجد من تتواصل معه هذه القاعدة ـ أثناء احتلال افغانستان وتواري ابن لادن ونائبه ـ إلا الزرقاوي في العراق، فتبنّت نهجه في القتل والذبح، وبدأت التفجيرات في الرياض وجدة وحتى الدمام والخبر، وأتت على مئات القتلى والجرحى. في تلك الفترة كانت هناك دعوات للإصلاح عالية، تمّ اخمادها بالاعتقالات والتهديد، وبوعود ان الاصلاح سيأتي ولكن بعد (دحر الإرهاب). وفعلا فقد تمّ تخطّي الموجة الأولى من العنف القاعدي، ولكن الضحايا لم يكونوا القاعدة فحسب، بل كل دعاة الإصلاح الذين اتهموا بأنهم قاعديون، او عملاء سفارات، أو غيرها من التهم.

لم يتم القيام بإصلاحات سياسية، ولا إصلاح في الخطاب الديني المفرّخ للعنف، رغم وجود ضغط محلي قوي، وكذلك مع وجود ضغوط غربية لتعديل المناهج التعليمية الدينية، ولتأهيل خطباء الوهابية، ولكن دون جدوى.

ومنذ عامين تقريباً بدأت موجة العنف التالية، ومن أحضان من تمّ مناصحتهم للكف عن العنف، ليجدوهم مقاتلين في اليمن، ولتكتشف السلطات السعودية ان فتح الطريق لتسريب العنف الداخلي الى الخارج العراقي ومن ثم السوري، قد ارتدّ عليها من جديد.

تفجيرات غرناطة بالرياض

اليوم، نعيش مرحلة العنف الثانية، ومن أهم ميزاتها، ان ال سعود يحاربون وحدهم، بدون غطاء شعبي، وبدون حماسة شعبية، لا تضامناً مع العنفيين، ولكن نكاية بالنظام الذي خذلهم، وكسّر أحلامهم في الحياة الكريمة المادية والمعنوية (السياسية).

لم يعد النظام منذ 2004 بإصلاح سياسي هذه المرة، فمعظم طلاّب الإصلاح قد أُخمدت أنفاسهم حتى في الحديث في مواقع التواصل الاجتماعي، فضلا عمّن هم في السجون. ولم يعد النظام بحياة كريمة تنتهي فيها البطالة وتتحسن فيها الخدمات، وبالذات في الإسكان والصحة والتعليم. والأهم، بل الأخطر، هو أن هناك انعدام ثقة بالحكم السعودي ورجاله؛ وهناك فقدان أمل في أي اصلاحات تنموية او سياسية.. وهذا اليأس مترافقاً مع تضعضع هيبة الدولة وشلل أجهزتها، يطلق العنان لقوى العنف ان تنمو وتتوسّع.

وبسبب خيبة الأمل الشاملة لكل الطبقات والمناطق، يقاتل النظام شبه وحيد على جبهات متعددة في الداخل والخارج، حيث لم يتبق له إلا القليل من الأصدقاء الخارجيين، ورجال المباحث والمنتفعين في الداخل. اذن، فليقلع النظام شوكه بنفسه في مواجهة موجة العنف الثانية. فمن يخذل ويتنكّر ويقمع كل الفئات عليه أن يتوقع في الحدود الدنيا أن لا يلقى مناصرة منهم ولو بالكلمة. ويكون الوضع أشبه ما يكون بمسرح يكثر فيه المتفرجون، ويقلّ فيه الممثلون! الذين هم في معظمهم من النجديين الوهابيين، وبعض المنتفعين الإنتهازيين، والموظفين في سلك المباحث (الاستخبارات) الذين وظيفتهم الأساسية القمع بيد، والترويج الاعلامي لسراب النصر والقوة والتمكين، في اليد الثانية.

داعش والقاعدة يضربان في كل الإتجاهات، كل المناطق، وبأساليب مختلفة. بالتفجيرات الإنتحارية كما في مساجد المنطقة الشرقية حيث المواطنين الشيعة، أو حتى بالرصاص الأعمى كما حدث قبل أيام وراح ضحيته خمسة قتلى و 14 جريحاً. أو بالسواطير، فهناك دواعش هاجموا غيرهم بالسواطير، أو بقتل الأقارب بالرصاص، كالداعشي الذي قتل ابنه عمّه، أو الذي قتل خاله. وهناك الهجوم المباشر على مواقع أمنية، كما حدث في الأحساء، او على المنشآت في الدمام والخبر والظهران. أو تفجير المصلين كما في مسجد القوات العسكرية في عسير، وهكذا.

تتنوع الوسائل العنفية، وتتكاثر بشكل مدهش، في حين أن وزير الداخلية يحاول جاهداً أن يظهر عضلات واهية قد تعيد بعض الهيبة للدولة وأجهزتها ولحكامها. وفي أحيان أخرى، تحاول السلطة جاهدة تحويل مسيرة الدواعش من أن يضربوا الأمراء وأجهزة دولتهم، الى ضرب الشيعة فحسب في المنطقة الشرقية، أي تحويلها الى حرب طائفية تلقى اصطفافاً نجدياً مع الحكم في أقل التقديرات. وحتى في هذا فشل الأمراء، رغم استحضار الحس المذهبي الوهابي بشدّة بل بوقاحة، الى حد أن النظام وجد نفسه يصدر أحكاماً بالأعدام على عشرات المواطنين الشيعة، وأكثرهم من المراهقين، لمجرد أنهم تظاهروا ضدّه، في حين انه لم يفعل ذلك مع القاعديين والدواعش لديه من الذين ثبت قيامهم بالقتل وممارسة العنف! كل ذلك، ليستجلب النظام دعماً معنوياً هو في مسيس الحاجة اليه، ولو من الباب الطائفي. لكن الطائفية بحدّ ذاتها، والتي تقمّصها أمراء، كما فعل أمير القصيم الشهر الماضي في مقال مشهور (انظر العدد الماضي من الحجاز)، لا تستطيع أن تستقطب الأكثرية السنيّة في البلاد، ومن المشكوك فيه أن يغيّر الإصطفاف الطائفي الذي هو سمة عهد الملك سلمان، توجه الرأي العام السعودي بمجمله.

لماذا يتصاعد العنف في السعودية؟

تفجيرات مسجد العنود بالدمام

من حيث النوع، أو من حيث العدد، فإن أعمال العنف استوطنت في السعودية، وعدد الحوادث متصاعد (انفجار الخبر، انفجار العليا بالرياض، المواجهات المسلّحة العنيفة في الجنوب، التمرد في السجون، اختطاف الطائرات، اغتيالات واختطاف بشر، ومظاهرات أدّت الى مصادمات، ناهيك عن تصاعد الجريمة المسلّحة في السرقات والإعتداءات، وتصاعد عدد جرائم القتل وغيرها، إضافة الى حالة الإنفلات الأمني التي تظهر بين الفينة والأخرى والتي يقوم بها جمهور من الشباب في مناسبات عامّة «تجمعات كروية مثلاً» أو الشغب الذي يظهر في وجود تجمعات أمام المؤسسات الحكومية، او الإضرابات والإعتصامات وغيرها).. كل هذه الأمور أُعطيت تفسيرات حكومية سريعة سطحية، كالقول بأنها مستوردة من الخارج، إما بتأثير مباشر منه أو محاكاة له، وآل سعود بهذا يدخلون عنصر التآمر الخارجي على الأمن في الداخلي كسبب رئيس. وعادة ما يُتهم الإخوان المسلمون، وإيران، والقاعدة وداعش، وكل هؤلاء بنظر آل سعود يعملون بالتنسيق معاً للإضرار بحكمهم!

وكما أن هناك تعمّداً رسمياً في إساءة تشخيص المشكلة، وإبعاد المسؤولية عن أكتافهم، كذلك هم في التعاطي مع حلولها، وأول الحلول المطروحة: الحل الأمني، ولكن هذا الحلّ وحده، وإن كان ضرورياً بنظر البعض ولو جزئياً، لا يكفي ولا يعالج المشكلة. فهذه الأحداث وقعت في وجود الشدّة والقسوة وعدم التراخي الأمني، مما يجعل الإعتماد الزائد على «الحل الأمني» في معالجة الظواهر الإنشقاقية الإجتماعية والسياسية دون تتبّع الجذور الحقيقية للمشكلات، سبباً اضافياً لإشعال الأوضاع بدل تهدئتها، كما هو واضح من التجربة. فزيادة القمع، وعدم الالتفات للحلول الحقيقية للمشكلة، خرّجت أجيالاً جديدة تؤمن بالعنف في مواجهة النظام؛ كما أن قمع الإصلاحيين أدى الى خلوّ الملعب من الأطراف التي يمكن لها لملمة الأوضاع، وبالتالي اتسعت الحلول الراديكالية التي ترى بأن لا أفق أمام تغوّل النظام إلا مواجهته بأدواته العنفية، وإسقاطه، بدلاً من السعي الى اصلاح متوهم لن يأتي.

وفي المجمل يمكن تحديد مصادر العنف في أربعة أسباب رئيسية، هي حسب التسلسل في الأهمية: سيادة ثقافة التطرّف وعدم التسامح؛ والإنسداد الأفق مع الإصلاح السياسي وغياب قنوات التعبير السياسي والفكري ومواجهة الدعوات الإصلاحية بوسائل عنفية رسمية. ثم هناك الإنحدار السريع للأوضاع الإقتصادية، وتآكل الطبقة الوسطى، وعدم الاستفادة من الوفرة المالية في وقتها لحل المشكلات الاقتصادية والاجتماعية. وأخيراً، هناك تأثيرات خارجية للعنف الداخلي، بالنظر الى أمرين أساسيين: ثورات الربيع العربي ومآلاتها السيئة بسبب الثورة السعودية/ الخليجية المضادة التي قضت على حكم الإخوان في مصر بالذات؛ ونمو الجماعات الأكثر عنفاً ودموية مثل داعش على أنقاض الفشل السياسي العربي، وانحياز من يسمّون بالمعتدلين الى جناح العنف والتكفير، حسب العقيدة الوهابية.

ثقافة التكفير والعنف الوهابي

تفجيرات مسجد القديح في الشرقية

مواصفات هذه الثقافة الوهابية، أنها ثقافة أحادية، بمعنى أنها تفترض إمتلاك الحقيقة المطلقة، وأنها ثقافة إقصائية لمن خالفها، فهي لا تحترم الرأي المخالف حتى ضمن الدائرة الفكرية الواحدة، وضمن المذهب الواحد. وهي فوق هذا ثقافة تميل الى العاطفة أكثر من العلمية، وتنهج الى الشعار والحماسة وإلهاب عواطف الجمهور من أجل حشده وتحريكه، لا من أجل ترشيده، ولذا فهي تميل الى التحريض والتكفير، وهي أخيراً لا تفكّر كثيراً في العواقب السلبية، لا في المدى المنظور ولا البعيد. ولسوء الحظ فإن هذا النوع من التوجه الثقافي موجود لدى الجهاز الحكومي، ولدى المؤسسة الدينية، ولدى المجتمع النجدي الأقلّوي بشكل خاص.

التعليم يعدّ أهم وسائل الدمج الإجتماعي، وإيصال ثقافة التعايش والإعتدال؛ ولأن السياسة القائمة تستهدف (الصهر الديني/ المذهبي) للسكان وليس (الدمج الوطني) الذي يتطلب ثقافة مختلفة، هي فوق المناطقيات وفوق المذاهب.. لذا، فإن التركيز على فرض الرأي الواحد يبدأ مع الطفل الوهابي دون غيره، فهو الوحيد الذي يتأثر بالتعليم أما أتباع المذاهب الأخرى فلا يؤمنون بالوهابية أصلاً وبالتالي يتغذون بنقيضها فكريا في البيئة الخاصة. ثقافة التطرف تبدأ في المدرسة قبل البيت، ونزعة التطرّف تنمو لدى الطفل الوهابي بالشكل (القانوني). فمناهج التعليم تولّد أجواء التطرّف وتغذّيه، وقد باعدت بين المواطنين، وزادت الهوّة بين الجمهور والحكومة، وخرّجت أجيالاً طائفية بالمعنيين المذهبي والمناطقي. لا المناهج الدينية ولا مناهج التاريخ بوضعها الحالي، يمكن أن تساهم في جلب ثقافة معتدلة سواء تجاه الآخر الداخلي، ولا تجاه الآخر الخارجي أياً كان تصنيفه السياسي أو الديني.

كيف يمكن لمناهج وهّابية تعلّم الطلاب منذ نعومة أظفارهم أن الحق المطلق يوجد عند جهة واحدة، وتعلّمهم تصنيف بعضهم البعض على أسس مذهبية ومناطقية، تكفيراً وتفسيقاً وحضاً على العنف تجاه المختلف، كيف لها أن تفضي لاستقرار داخلي ونفسي؟ وكيف يمكن لتغليب ثقافة مناطقية محددة وتجاهل المناطق الأخرى أن تسود ثقافة اعتدال مشتركة تهتم بالقواسم العامّة، وطنية أو دينية؟ إن مناهج التعليم تقدّم مسلّمات لا تراعي مشاعر مواطنين آخرين، وهي من الحدّة بحيث أدت الى (انقلاب) على (الدين) وضعف الوازع الديني خاصة بين الأجيال الجديدة، بل وأدت الى تفشّي العنف الدموي كما هو واضح اليوم داخل البلاد وخارجها. فحتى داعش تدرّس المناهج السعودية، وتعتمد كتب الوهابية، وخاصة كتب محمد بن عبدالوهاب لتربية النشء الذي تحت يدها.

ذات الثقافة الدينية التي قام عليها بنيان المملكة السياسي الموحّد، لم تحتمل الرأي الآخر من أتباع المدرسة، فمن يخرج قيد أنملة على المسلمات والقوالب يخشى على نفسه من التكفير، وقد وصل الأمر بتكفير رؤوس الدعوة السلفية نفسها. والحكومة نفسها، التي استخدمت السلاح الديني ضد مخالفيها وبنجاح، واعتمدت مدرسة واحدة لشرعنة ذاتها، هي نفسها اليوم أصبحت موضع اتهام بالتكفير، وتواجه بدعوات تجيز الخروج عليها. إن التكفير سلاح ذو حدين يبدأ بالآخر أولاً، وينتهي بالذات، في عملية تدمير داخلي.

مجزرة الدالوة العام الماضي

الموضوع الديني أصبح مجرد لبوس يستخدم لشرعنة المطامح السياسية، بمعنى أنه صار وسيلة لشرعنة المعارضة على الحكم السعودي، أو لشرعنة الأخير في احتكار السلطة، وقمع المخالفين. ولذا أصبحت الوهابية محفّزاً قوياً يجري استخدامه للتدمير داخل السعودية وخارجها، بالتعاضد مع عوامل اجتماعية وسياسية وإقتصادية خلقت مناخاً ملائماً لممارسة العنف وليس فقط لتعميمه ثقافياً. العنف والدم ـ كما هو واضح الآن ـ لا يأتي إلا من أتباع المدرسة الوهابية، وهي أكثر من ابتليت به، وفي غياب الإنفتاح السياسي، والإعلامي والثقافي، وغياب الحوار العقلاني في أجهزة الإعلام، وتجريم التلاقي والتحاور بين المختلفين في الآراء الدينية والسياسية، يسهّل بروز وسائل الإحتجاج العنفي ويشرّع استخدامه ضد المختلفين فكراً او مذهباً أو سياسة أو سلوكاً.

ليس التعليم الوهابي وحده مصدر الثقافة الأحادية، بل ما تبثّه أجهزة الإعلام، التي أصبحت أجهزة غريبة عن مجتمعها، بحيث أن قلّة تعتبر ما تبثّه ممثلاً لها. فما يبث من مواضيع دينية لا يعني إلا أتباع مدرسة واحدة هي الوهابية الأقلوية، وما يبث من ثقافات هو في الأكثر أقرب الى تراث وتقاليد منطقة نجدية بعينها، والمشاهد في شرق المملكة وغربها خاصّة، يجد الإعلام العربي الخارجي أقرب اليه والى همومه العامة كعربي وكمسلم، وحتى الى همومه الخاصة. فإذا ما تمّ التنكر للثقافات المتعددة التي يتشكل منها المجتمع، وتمّ الإصرار على ثقافة واحدة، تكون النتيجة أن ما يسمّى بسلطة الإعلام الرسمي تتبدّد.. باختصار لأن قسماً كبيراً من المواطنين لا يتابعونها، وبالتالي لا يتأثرون بها.

والمسؤولون في المملكة ليس فقط يتحملون المسؤولية الكبرى في هذين المجالين: التعليم والإعلام، بل هم مسؤولون بشكل مباشر عما يقال على المنابر من خطب تحريضية على الطائفية والعنف والتكفير؛ كما هم مسؤولون عن الكتب التكفيرية التي تصدر داخل البلاد، وعن فتاوى مشايخ السلطة وغيرهم من أتباع المدرسة الوهابية، وزيادة على ذلك هم مسؤولون عن ترويج الثقافة الواحدة والطائفية التي لا تحترم خصائص المواطنين، وبسلطة القانون يجري التعبير عنها في مختلف مجالات الحياة حتى في البيانات الرسمية، كما في بيانات وزارة الداخلية تجاه أحداث نجران، وأحداث القطيف، حيث الحسّ الوطني الغائب، وحيث الإتهام الجمعي للمواطنين المخالفين للمذهب الرسمي.

إن الإنحياز الواضح لثقافة مذهبية محددة والطعن في غيرها، وتدريس الطعون في الكتب المدرسية، والترويج لثقافة غير جامعة وغير وطنية، يقود الى عنف المسود ضد خصومه بتبريرات وهابية تجاوزت الداخل الى الخارج، حيث شرعنة الذبح والدم، وقد ارتدّ بعضه على النظام، وسوف يصل اليه عاجلاً ام آجلاً، حتى لأولئك الذين أفتوا وشرعنوا الحرب الطائفية وإجازة الذبح والقتل، فسينالهم ما صنعت أيديهم.

من يمتلك حق التكفير لأكثرية المواطنين، وحق الحجر على عقولهم، وحق تعليمهم ما لا يرغبون وما يثير النعرات والحساسيات..

من يحتكم الى ثقافة الحق المطلق، ويحرّض على المخالف.. فإن ما يقوم به قد يؤذي ابتداءً البعيد، ولكنه سينتهي بالوهابيين أنفسهم وسيفعل بهم التكفير والعنف ما فعلوه بغيرهم.

ها هي الدولة السعودية النجدية الوهابية ومنذ تأسيسها، لم تتغير كثيراً في عقلها الديني/ المذهبي، فلا هي تعترف بحقيقة التعدد المذهبي والثقافي بشكل عام، ولا هي قادرة على دفع الثمن المتأتي من غياب هذا الإعتراف. أي العودة الى القديم، بحروبه ودمائه، الى ما قبل الدولة القطرية. لازال هناك، بنظر الوهابيين النجديين، عدد كبير من أصحاب عقيدة التوحيد الصافية كما يزعمون، يبحثون عن رؤوس يُراد (قطافها)، وهي بنظرهم رؤوس من يتهمونهم بأنهم من الملحدين العلمانيين والروافض والمتصوفة.

تدهور الأوضاع الاقتصادية

تفجير مسجد الطوارئ بعسير

الربط بين تدهور الأوضاع الإقتصادية وتدهور الأوضاع الأمنية وعدم الاستقرار السياسي، وازدياد نزعات العنف السياسي، وتصاعد معدلات الجريمة أمرٌ مألوف في الأبحاث السياسية والإجتماعية. جاء تراجع الأوضاع الإقتصادية في السعودية بشكل سريع، في وقت بلغت فيه البلاد قمة إيراداتها المليارديرية. وقد سبب التراجع الذي نحن في بدايته، كما تراجعات سابقة طيلة التسعينيات الميلادية، سبب إرباكات نفسية وسياسية واجتماعية لاتزال تحفر جذورها عميقاً، خاصة وأن الأمراء لم يستفيدوا من النعمة المتوافرة بأيديهم ليوم المحنة. واليوم نسمع الدعوات لشدّ الحزام، وتعطيل المشاريع، والغاء البعثات الدراسية او إيقافها، والاستدانة من البنوك المحلية عبر السندات الحكومية، والسحب المفرط من الإحتياطي وغيرها من الإجراءات؛ وهناك في الأفق تلوح جملة من القرارات الصعبة، وبينها رفع الدعم عن العديد من السلع الأساسية، ورفع اسعار الوقود، وغيرها.

نسبة البطالة تقارب 33% بالمئة؛ ترى ماذا سيكون حال هؤلاء، والى أين ترميهم الأقدار؟ مَنْ لا حياة لديه كريمة، قد يبحث عنها لدى القاعدة أو داعش، وسيكون من السهل عليه التضحية بحياة بائسة، لا يوجد الكثير ليخسره من استمرارها!

وبسبب الأزمات المتراكمة، خاصة الاقتصادية والتنموية منها، وترحيلها من ملك سعودي الى آخر، فإن المتوقع من انكماش الإيرادات المالية أكثر وأكثر خلال الفترة القادمة، أن يزداد الإضطراب الأمني، وتتصاعد حدّة العنف المحلي (الداعشي والقاعدي)؛ وأن تتآكل مشروعية الحكم أكثر فأكثر، وأن تتضعضع سيطرة الدولة على الأوضاع بشكل عام.

كانت الحكومة السعودية تعتقد بأن الوفرة المالية قادرة على أن توفر إشباعاً مادياً للمواطنين يبعدهم عن الإلحاح على حقوقهم السياسية. وقد كان هذا منتظراً من دولة ريعية، شأن دول خليجية أخرى. لكن المواطن لم يحصل حتى على الحدود الدنيا من حقوقه المادية، وكانت الوفرة المالية عاجزة عن امتصاص التشنّجات الاجتماعية والسياسية، فكيف والحال اليوم قد تغيّرت بسبب انهيار اسعار النفط ونضوب الخزانة بسبب الفساد والحروب وغيرها.

نعم.. أدت الوفرة المالية فيما مضى ولو جزئياً الى (تجبين) النخب كما شرائح اجتماعية، من خلال الإستيعاب المتواصل في الجهاز البيروقراطي الحكومي (التوظيف) ولكن الجهاز البيروقراطي غير قادر على حل المشكلات السياسية من خلال استيعاب الملايين من الباحثين عن العمل؛ ولا توفير مواقع مسؤولية لنخب تبحث عن دور تلعبه في صناعة مستقبل البلاد.

في سنوات الرخاء النسبي، كانت أعين الجمهور مغمضة عن كل الأخطاء، وعن الحقوق السياسية.. ولكن التراجع والإنتكاس الاقتصادي، لا يبقي الأعين مغلقة، يصعب أن يتقبل شعب أزمة الحرمان السياسي والحرمان الاقتصادي معاً. المواطنون لا يبحثون عن جهة يعلقون عليها الإخفاقات فهي واضحة المعالم. إنها العائلة المالكة، وليس بطانتها كما يُزعم. والأجيال الشابة التي خسرت وتخسر مستقبلها التعليمي والوظيفي، يستحيل أن تمرّ عليها هذه الأزمة دون أن تكون فرقعات العنف أعلى أصواتها.

التأثيرات الخارجية

صحيح أن المملكة لا تستطيع ان تكون بمنأى عن التأثيرات الخارجية فيما يتعلق بالجريمة والعنف وتهريب المخدرات وما أشبه. التبريرات الرسمية للتفجيرات تشير دائماً الى هذا العنصر، مع إغفال خجول لعناصر التوتر الأخرى. وهذا يتناغم بشكل ما مع تضخّم الهاجس الأمني الخارجي الذي لازم المملكة منذ تأسيسها، فهي مسكونة به الى حدّ بعيد. يمكن تلخيص التأثيرات الخارجية على العنف المحلي في أمرين:

المحور الأول: انعكاسات السياسة الخارجية على الوضع الأمني المحلي، فالعلاقة المتميّزة مع الأميركيين ووجود قواتهم في البلاد، واستخدام طائراتهم الأراضي والأجواء السعودية في احتلال بلدان عربية، أو استهدافها كما في اليمن وسوريا وغيرهما.. كل هذا ينتقص الكرامة الوطنية والدينية ويحفّز بعض المجموعات أو الأفراد على استخدام العنف ضد الأميركيين وضد آل سعود وجيشهم. ومن الإنعكاسات ما له علاقة بدعم الرياض وجسدها الديني الوهابي.. الجهات المتطرفة وهابياً، ودفع شباب السعودية للحرب في سوريا والعراق، وهو ما أدّى الى عودة بعضهم وتأسيس خلايا كثيرة لضرب النظام نفسه، خاصة بعد نمو داعش، واستقلالها الفكري عن حاضنتها الوهابية النجدية، وكذلك استقلالها المادي من خلال بيع النفط العراقي والسوري وغير ذلك.

المحور الثاني: التأثيرات الإيجابية المفترضة، فطالما شكلت التجارب الديمقراطية حافزاً للدعوات السلمية المحلية المطالبة بالإصلاح السياسي. التجربة البرلمانية الكويتية كانت شديدة الحضور في البلاد منذ الستينات، وهو ما دفع بالمملكة لتضغط على الكويت (وعلى البحرين لاحقاً) لإنهائها، ولأسباب عديدة لم تعد هناك تجربة خليجية يستمدّ منها الجمهور الحافز للمواصلة، خاصة وأن الرياض قد ساهمت بشكل كبير في تخريب التجربة الكويتية الحالية؛ في حين تحولت البحرين بسبب التدخل السعودي العسكري المباشر لقمع الحراك المحلي.

الداعشي منفذ هجوم مسجد سيهات 17 الشهر الجاري

حين جاء الربيع العربي، ارتفعت الآمال داخل السعودية، فالقناعة بأن النظام سيقدم على اصلاحات تلقائية صار بحكم المعدوم، ما لم يتوافر ضغط شعبي، وقد قمعت الرياض نواة الحراك في 11 مارس 2011، فيما استمر الحراك الشيعي في المنطقة الشرقية رغم القتل والإعدامات الميدانية حتى اليوم. ونظراً لإدارك الرياض لتأثيرات الثورات العربية على الوضع المحلي، عمدت الى تخريب تلك الثورات بشتى الوسائل. فثورتا ليبيا وسوريا تحولتا الى محرقة أهلية، لازال ال سعود يذكرون المواطنين: (وهل تريدون أن تكون بلادكم مثل سوريا وليبيا)؟ وأما اليمن، فعبر مبادرتها (الخليجية) ارادت الرياض أن تعيد انتاج النظام القديم، ما أدّى الى الثورة عليه والإطاحة به، وهو ما قاد لاحقاً الى التدخل العسكري السعودي المباشر عبر حرب لازالت مستمرة منذ أواخر مارس الماضي.

في مصر حيث تأثيرها الهائل على مجمل البلدان العربية، تآمرت الرياض والإمارات مع العسكر، وتمت الإطاحة بحكم الإخوان الفاشلين، ونجحت الرياض في النهاية في إعادة حكم العسكر. وهكذا.. لم تبق ثورات عربية، اللهم إلا تونس التي نجت من المأزق في اللحظات الأخيرة، وانعدم بالتالي تأثير الخارج الإيجابي على الوضع الداخلي السعودي.

لكن الرياض وكما حصدت منجزاً، خاصة في مصر، فإنها حصدت أيضاً سُمّاً زُعافاً. فانسداد الوضع السياسي في البلدان العربية والانقلاب على خياراتها، دفع بالمعتدلين الإسلاميين ـ أو بكثير منهم ـ الى أن يتحولوا الى داعش، وخيار القاعدة. حتى داخل السعودية والخليج، صار صوت داعش مرتفعاً، وتبيّن ان خيار الديمقراطية والإصلاح التدريجي غير ممكن مع هكذا انظمة، ولا يوجد بديل إلا النهج الداعشي، خاصة في بلد مثل السعودية التي تحتضن الفكر الداعشي ورجال الدواعش وتمويل الدواعش المالي.

ونلاحظ أنه منذ سقوط حكم الإخوان، ازداد نفوذ داعش في السعودية والخليج وأماكن أخرى. وبعد سقوط الموصل، انتظر القواعد والدواعش قواتٍ تأتي من الشمال العراقي، والجنوب اليمني، لتدخل البلاد المُسعودة، وقد ظهرت محاولات عديدة كما هو معلوم، خلفت ضحايا في الجيش السعودي وحرس الحدود.

باختصار شديد.. فإن نهج الرياض السياسي خارجياً، أدى الى ترجيح كفّة التطرف في الداخل، وكذلك فإن الانحباس السياسي امام الاصلاحات الجزئية التدريجية، اوصل الجميع الى قناعة بأن النظام السعودي لن يتغير إلا بالقوة، إما داعشية، أو قاعدية، أو انقلاب، أو حرب خارجية يخسرها، أو جمهور عارم يكتسح النظام من أساسه.

العنف المستقبلي حتميّ

إن محاولة استقراء المستقبل لتحديد أشكال العنف السياسي والإجتماعي المتوقعة تستلزم استقراء ثلاثة عناصر؛ أولها: سياسات الحكومة المتعلقة بالإصلاح الإجتماعي والسياسي والإقتصادي، ومقدار نجاحها في توفير الظروف الملائمة والبيئة المناسبة للسلم المجتمعي الداخلي. فحجم العنف ونوعه يعتمدان على مقدار النجاح المتوفر في إزالة جذور المشكلات. وثانيها: في طبيعة الردّ الأمني، سواء استخدم كعنصر مساعد في الحلّ، أو كعنصر وحيد له. ذلك أن طبيعة الردّ الأمني تفرز نوعاً مختلفاً من العنف من حيث الإستجابة له. وثالثها: طبيعة المجتمع السعودي المختلفة في الثقافة والمذهب والقبيلة والمنطقة، فالقوى الإجتماعية المختلفة تفرز أنواعاً مختلفة من العنف، حسب خصوصياتها، وحسب نوعية وحجم التحديات التي تواجهها.

فيما يتعلق بالعنصرين الأوليين، تبدو الحكومة عاجزة عن القيام بأي علاج للمشكلات القائمة سياسية او اجتماعية او تنموية او أمنية او فكرية وثقافية وغيرها، نقول ذلك من خلال التجربة الطويلة، ولهذا ـ وبعيداً عن مناقشة أسباب الفشل ـ فإن آل سعود يميلون الى الحلول الأمنية تعويضاً عن الفشل، فالعنف الرسمي بنظرهم قادر على إسكات الأصوات وإخماد الأنفاس. ويلاحظ، ان الحلول المتّبعة ـ الفاشلة تنموياً وسياسياً، تميل الى (منهج المسكّنات) أي الحلول السطحية المؤقّتة، ربما نظراً لكلفة الحلول الجذرية، أو عدم القدرة الفعليّة ضمن الحسابات داخل دائرة الحكم على حسمها. كل ما هو موجود من مشاكل وقضايا لم توضع له حلول جذريّة وخطط للحل تستلزم سنوات قادمة. يجري في العادة ترحيل المشاكل الى (المستقبل) بمجرد أن تهدأ على السطح بفعل (المسكّنات) فإذا ما انتهى مفعول المسكّن، أضيف إليه (مسكّن) جديد، حتى أن بعض القضايا مضت عليها عقود عديدة ولا نقول سنوات قليلة. من بين المسكّنات مثلاً، مجلس الشورى المعيّن نفسه؛ الذي مضى عليه أكثر من عشرين عاماً بالتعيين دون أن تتخذ خطوات لجعله برلماناً منتخبا، أو وضع دستور للبلاد، أو تفعيل نظام المقاطعات حقيقة لا على الورق. وهناك مشكلات لم تحلها الوفرة المالية كالإسكان (80% من الشعب يعيش في بيوت مستأجرة) ولم توفر في هذا المجال حتى المسكنات، اللهم إلا الوعود. وهناك مثلاً الأعطيات التي راجت بعد إفشال المظاهرات في مارس 2011، وقد كان تأثيرها مؤقتاً، بما فيها منح العاطلين عن العمل مساعدات شهرية. وهناك في التعليم نظام الإبتعاث الذي أدى الى مفاقمة البطالة من جهة، وانتهى به الأمر الى التوقف نهائياً بسبب الأزمة المالية. هذه كلها مسكّنات، التي تكاد تنفذ من يد العائلة المالكة، ومعظمها يعتمد على المال.

عملية اعدام قام بها داعشي بحق ابن عمه

في الأعوام الأربعة الماضية شهدنا نزوعاً متزايداً لاستخدام العنف الرسمي في حدوده القصوى حدّ الإجرام، ليس فقط تجاه المعتقلين، ولا تجاه أهليهم، بل الى حد اختراق محرمات اجتماعية ودينية، من اعتداءات على النساء، والقتل في الشوارع بلا مبالاة. ونظن أن أفضل مختبر يمكن من خلاله كشف هذا النوع من التجاوزات المجنونة لنظام يكاد يفقد عقله، إنما يوجد في المنطقة الشرقية، وتحديداً في القطيف.. فالقتل الرسمي خارج القانون صار أمراً اعتيادياً، واستباحة المدن أمراً يتكرر، واطلاق النار في وضح النهار من قبل السلطات على المارة وفي الهواء وعلى البيوت يبعث على التقزّز والإستهجان.

لكن العنف الزائد وغير المبرر قبال الإحتجاجات السلمية ذات المضامين السياسية كالمظاهرات والإعتصامات والإضرابات عن العمل، قادرٌ كما هو واضح وثابت بالتجربة في المنطقة الشرقية على إخمادها لفترة تطول وتقصر حسب قسوتها، ولكن هذا العنف الرسمي يجعل خيار الإحتجاج العنفي أكثر جاذبية وبنفس الثمن (القتل والإعدام من قبل الحكومة). إذا لم تتساوى العقوبة مع الجريمة (أياً كان تعريفها حكومياً) وإذا تساوت العقوبة مع عدد مختلف من الجرائم من حيث النوع والتأثير، فإن أعنفها سيكون أكثر جاذبية ومنطقية.

نقول هذا وأمامنا تجربة المعارضة في المملكة منذ احتلال الحجاز عام 1926 ونشأة الحزب الوطني الحجازي، مروراً بالإخوان أواخر العشرينات، وتمرد قبائل بلي في الحجاز في الثلاثينات وحركات المعارضة الوطنية والقومية في الخمسينات والستينات، الى محاولات الإنقلاب العسكري المتكررة في الستينات والسبعينات، وانتهاءً بالإسلاميين في السبعينات وحتى الوقت الحاضر، فإنها جميعاً (باستثناء الحركة الإصلاحية الشيعية في سنواتها الأخيرة من منتصف الثمانينات وحتى 1993 حين حلّت نفسها) لم تطرح هدفاً إصلاحياً ديمقراطياً، وكان البرنامج الوحيد اليها، إنفصالياً أو/و تغييراً عنفياً، وليس هناك من تفسير منطقي وراء هذا كله إلا ما كان يدور بخلد القائمين على تلك الأعمال أن ثمن (إصلاح) النظام، كان يساوي ثمن (إقتلاعه).

ملخص القول، بأن العنف استوطن المملكة، وهي مقبلة على مراحلة متطورة منه، بالنظر الى الانسدادات السياسية والإخفاقات الخارجية، والقمع، والإنهيارات الإقتصادية بسبب تراجع الإيرادات والحروب. لا توجد آفاق اصلاح سياسي، فهذا موضوع خارج النقاش بين امراء العائلة المالكة المبتلاة هي الأخرى بصراع على السلطة. لا توجد قوة قادرة على ضبط الأمن في حال كانت أجهزة الدولة ومؤسساتها ووزاراتها عامة غير قادرة على ايفاء المواطنين بمتطلباتهم الأولية. وكلما تمّ الإعتماد على الخيار الأمني كلما تعقّدت المشكلة، واقتربت مملكة آل سعود الى الإنهيار.

كان المؤمل الخروج من المأزق قبل خمسة عشر عاماً على الأقل، أما اليوم فحتى الإصلاح السياسي المتأخر غير قادر على حفظ كيان الدولة المُسعودة. الإصلاح السياسي اليوم ـ غير المحبذ اليوم ـ هو بمثابة معالجة السرطان المنتشر في كامل الجسد بكبسولة أسبرين. قبل سنوات كان هناك حديث او تساؤل: لماذا تعطى أهمية في الأساس للإنفتاح السياسي كواحد من مجموعة الأدوية لعلاج التأزم الأمني ونزع فتائل العنف؟ ألا يمكن حل موضوع العنف بوسائل أخرى أقلّ كلفة لآل سعود من الناحية السياسية؟

السعودية هي أقلّ دول الخليج والجزيرة العربية في منح مواطنيها حق حرية التعبير، وهي الأقل أيضاً في مجال الحريات السياسية (المعدومة حقيقة)، ويتبع ذلك أنها تحتضن مخزوناً هائلاً من التشنّج والعنف والعصبيات والتطرف الديني الوهابي، لم يجر التعبير عنه بعد إلا في الحدود الدنيا، وحين ينفجر كما يتوقع الكثيرون، فستسيل الدماء الى الرُّكَب، كما يقول المثل.

لا حلّ أمني لأزمات البلاد المتراكمة.. فقد انتهى مفعول هذا الحل؛ لكن في حال وجد من يعتقد بهذا الحل، فيجب عليه أن يدرك التالي:

أولاً ـ لم يعد بالإمكان اليوم إلغاء دور المواطنين في تقرير مصيرهم، عبر المشاركة السياسية أو على الأقل عبر التأثير على السلطة السياسية وتوجهاتها. كما لا يمكن بأي حال قتل الطموحات السياسية للنخب (أياً كان تعريفها) فذلك يستلزم تغيير الخلقة البشرية. أيضاً لا يمكن وقف الصراع على السلطة ولأمد بعيد بوسائل القمع وحدها، أو عبر غرس قناعات (الحق الإلهي) أو (حق القوة: أخذناها بالسيف) أو حكاية (ملك الآباء والأجداد).

المفترض: هو تنظيم مشاركة الجمهور، واستيعاب الطموحات، على الأقل ضمن الحدّ الممكن الذي لا يؤدي الى موت الذئب ولا إفناء الغنم، أملاً في الوصول الى أكبر قدرٍ من الإستقرار السياسي، الذي يبعد عن البلاد شبح المفاجآت غير السارّة، ويزيل عن الحكام هاجس الخوف.

ثانياً ـ إن التوسّع في استخدام العنف لا يحلّ المشكلة من جذورها، رغم كلفته من الناحية الإنسانية، إذ لا بد أن يكون العنف متواصلاً زمانياً وشاملاً مكانياً وحاداً في عمقه، ولا أحسب أن طبقة حاكمة يمكنها توفير مثل هذا النوع من الحل لفترة طويلة، وقد تمّت تجربة هذا الحلّ في أماكن عديدة من العالم وفشل، وإلاً لما قامت حكومات وسقطت دول.

ونحسب أن الحكومات تسعى لشرعنة نفسها باستخدام القدر الأدنى من العنف ضد السكان، ولكن قد يغيب عن الذهن أحياناً، حقيقة أن التوسع في استخدام العنف يؤدي الى نقصان في (شرعية) الحكم. فهو ليس مؤشراً على عدم الرضا الشعبي فحسب، ولكنه يفقد الحكومة قواعدها الشعبية، بحيث يصبح تغييرها ضرورة ملحّة. وأقصى ما يفعله العنف الحكومي أو بالأحرى الحل الأمني هو الاكتساح الظاهري للمشكلة، ولكنه يعمّقها في الوجدان الشعبي، فإذا ما جاءت أي فرصة انقلب الناس على (أسيادهم) وبعنف. إن من أهم مقاييس (شرعية) أي حكومة النظر الى حجم استخدامها للعنف ضد مواطنيها.

ثالثاً ـ إن التوسع في استخدام الحل الأمني، يأتي بردّ فعل عنفي مماثل، حيث تنشط الحركات السريّة، وتتعمّق ثقافة التطرف بعيداً أن أعين السلطات، وتتجه الأنظار الى الحلول الراديكالية (على شاكلة حلول الإستئصال الأمني الرسمي) فتغيب عن ساحة المواجهة وجوه الإصلاح ودعوات التدرّج في التغيير. ومما لا شكّ فيه، أن كثيراً من العنف السائد في السعودية، يعود في جذوره الى عنف السلطات الأمنية، والى تيبّس القنوات السياسية.

رابعاً ـ إن الحلّ الأمني يخنق البلاد برمّتها، حاكميها ومحكوميها. إنه يختطف مستقبل أجيالها، ويشلّ حركة الإبداع والتطوّر فيها في شتى المجالات. وكما رأينا فإن الحل الأمني الذي يستهدف في الأصل عدم تقديم تنازلات سياسية، يتحول هو بحد ذاته الى حل مكلف يثقل كاهل من يمارسه حتى يطيح به.

الصفحة السابقة