السعودية وتركيا.. الحليفان المتشاكسان

عبدالحميد قدس

تبحث الرياض عن حليف مؤقت في المحيط الإقليمي، له مواصفات محددة، ويؤدي أغراضاً محددة، حسب المقاسات السعودية الخاصة.

كان يمكن أن تكتفي الرياض بالحليف المصري، لولا أن الربيع العربي قد أضعفها. فمصر بالنسبة للسعودية بوابة لتمرير سياستها الخارجية في المحيط العربي. وما تريده الرياض، كانت مصر مبارك، والى حد ما مصر السيسي، تقوم به.

لكن مصر تغيّرت.. والرياض ليست على استعداد اليوم لتحمّل أعباء تفعيل دور مصر الإقليمي خشية أمرين:

الأول: أن ذلك منهك لها اقتصادياً. فمصر التي تبحث عن استقرار بعيد المنال، ليست في وارد مساعدة أحد اليوم، بقدر ما هي بحاجة الى من يساعدها. ولا شك أن تخفيف أزمتها الإقتصادية، سينعكس على الوضع الأمني، والى حدّ ما الإستقرار السياسي، بعد سيطرة العسكر وإلغاء الديمقراطية الوليدة. الرياض التي كانت في عهد الملك عبدالله شديدة الحماس لدعم مصر بكل ما تحتاجه فالمهم بالنسبة لها كان اسقاط حكم الاخوان. لكنها باتت اليوم في عهد الملك سلمان تشك في نوايا السيسي من جهة، وأخذت بها الأزمة الإقتصادية ـ بسبب انخفاض أسعار النفط ـ من جهة أخرى، وبالتالي لا تريد أن تتحمل هذا العبء. كل ما يمكن لحكومة الرياض أن تفعله لمصر يدخل في إطار إبقاء الأخيرة حيّة محتاجة بشكل مستمر الى الدول الخليجية، والى الحدّ الذي لا تنفلت فيه الأوضاع فتعود مصر الى حالتها الماضية في عهد الإخوان أو أي حكم ديمقراطي يذكر آل سعود بالربيع العربي الذي استحال خريفاً.

الثاني: ان الرياض لا تثق في حكم السيسي بالقدر الذي كانت تمنحه لحكم حسني مبارك. فهذا الحاكم العسكري، لازال محمّلاً بطموحات (مصر القوية)، والتي قد تخضع مؤقتاً لابتزاز دول الخليج السياسي: السعودية والإمارات بشكل خاص؛ ولكنها تقوم في المقابل بابتزاز هذه الأنظمة أيضاً بطريقة الضغط الإعلامي والنقد لدول الخليج، وكذلك التهديد بفتح علاقات مع ايران، وتوسعة العلاقات مع روسيا، وغيرها. وهكذا، فإن الرياض كما القاهرة يعلمان أنهما يعيشان شهر عسل مطوّل، فقد اتفقا على دفن الربيع العربي، في مصر على الأقل، وقبلت الرياض مرغمة إلحاح السيسي على التمايز السياسي عن السعودية في مواضيع مختلفة في الملف السوري، وحتى في الملف اليمني، حيث لم تبعث مصر سوى قوة رمزية الى التحالف العسكري الذي تقوده السعودية. بل أن الرياض تدرك بأن مصر تتمنى لو أن الأوضاع العسكرية تؤدي الى هزيمة سعودية في اليمن، تحرر مصر ودولاً عربية أخرى من الدولة الوهابية المقيتة.

لهذا، فإن الرياض ليس فقط لا تعتبر مصر مضمونة الولاء، بل يمكن أن تتحول الى عدو إذا ما شعرت بالقوة واكتفت من الدعم السعودي ـ الخليجي، أو إذا فقدت المبرر لاستمرار علاقة متميزة، كأن توقف السعودية دعمها عن مصر كلياً، فحينها ستقلب مصر للرياض ظهر المجن.

ولأن مصر (معوّقة) و(مقيّدة) سياسياً في هذه المرحلة المفصلية من التاريخ العربي، فإن الرياض تراقب عن كثب محاولات إنعاش أخرى للدور المصري إقليمياً من قبل خصومها: إيران، وسوريا، وروسيا، وحتى العراق؛ فأي نهوض للدور المصري الإقليمي، ومهما كان شكله، فسيكون على حساب السعودية، وخلاف مصالحها ورؤيتها الإستراتيجية.

ولأن الرياض تراقب كل هذا، فهي تحاول ان تفعّل أوراقها وقواها داخل مصر، وتوسعة خياراتها، في حال انقلب الحكم المصري في سياساته المستقبلية. ومثال ذلك: الإستثمار السعودي في (الأزهر) حيث قامت بشراء معظم قياداته ورموزه، تحت سمع وبصر حكم السيسي، وهو أمرٌ لم تكن الرياض لتفعله من قبل في عهد حسني مبارك، حتى أصبح الأزهر ولأول مرة في تاريخه مجرد ملحق لهيئة كبار العلماء السعودية.

ربما يقال بأن السعودية لم تقرّر ذلك في سنوات ما قبل الربيع العربي، ولو أرادت لفعلت ما فعلته اليوم. أيضاً، لوحظ أن الرياض بدأت بتحفيز القوى السلفية، التي استخدمتها لصالح السيسي في ضرب الاخوان المسلمين، ولكن هذه المرة تهيّؤاً لما يخبؤه مستقبل العلاقات المصرية السعودية.

لكن هذا كلّه لا يغير من حقيقة أن مركز الثقل الإقليمي في الشرق الأوسط، لم يعد في القاهرة، ولا في الرياض، ولا حتى في دمشق أو بغداد أو تل أبيب. لقد أصبح مركز الثقل الأكبر في قيادة الشرق الأوسط ـ عملياً ـ في طهران وأنقرة؛ الى جانب واشنطن ولندن.

ومن هنا، فإن الرياض ـ كما يفترض بالقاهرة أيضاً ـ ومنذ عقد كامل تبحث عن حليف بين هؤلاء، وهي تتأرجح بين تل أبيب وأنقرة وإسلام أباد البعيدة عن الشرق الأوسط، والتي تكاد تصبح دولة فاشلة بسبب الفيروسات الوهابية/ السعودية.

بديهي ان الرياض لا تبحث عن تحالف مع طهران، ولا حتى عن تفاهم معها (ربما يحدث التفاهم بعد أشهر من هذا المقال). والسبب ان الرياض ترى طهران عدواً:

اولاً، لأنها وسّعت نفوذها على حسابها في أكثر من بلد عربي.

وثانياً، لما تراه الرياض من تناقض أيديولوجي مذهبي اولاً وثانياً وثالثاً.

وثالثاً، لأن النظام الحاكم في طهران ثوري، كان الغرب ولايزال ينظر اليه كعدو، حتى بعد توقيع الإتفاق النووي. والرياض لا تستطيع أن تقيم تحالفاً إلا مع دولة ضمن المعسكر الغربي، ولتؤدي دوراً في مكافحة النفوذ الإيراني، لتستعيد الرياض مكانتها المتآكلة ونفوذها الذي يكاد يذهب بمجمله.

لم تكن الرياض تفكّر ـ مجرد التفكير ـ في أن تتحالف مع أنقرة. ولكنها تحت وطأة الخسائر المتعددة، تبادر الى ذهنها أن دوراً تركياً يمكن ان يكون محبّذاً لصدّ الهجوم السياسي الإيراني، ولكن بشرط أن ينحصر الدور التركي في مواجهة ايران، مع دعم خلفي سعودي سياسي واقتصادي، كثمن لهذه المهمّة.

تشاء الأقدار، أن تركيا اصطدمت بحائط الإنضمام الى الاتحاد الأوروبي، وأن اسلاميين ذوي ميول إخوانية يقفون على رأس الحكم فيها، وإزاء الإنسداد غرباً، وجد الأتراك ساحة عربية مفتوحة، حيث الدول مفككة، وحيث غياب الرموز الكارزمية عربياً، وحيث الضياع والفشل السياسي والإقتصادي، والإنشغال بالذات عن أيّ همٍّ آخر.

كان للأتراك خططهم الخاصة بهم، دون التنسيق مع الرياض أو القاهرة. فقد أغراهم الوضع العربي المتهالك لأن يتجهوا جنوباً بحثاً عن مكانة سياسية واقتصادية، وبدأوا بالبوابة الفلسطينية ـ المعتادة، وراح اردوغان يهاجم اسرائيل، ثم جاءت احداث سفينة مرمرة، ولم تجد الرياض نفسها إلا منزعجة أشدّ الإنزعاج من أردوغان وصحبه، وظلت الصحف السعودية تهاجمه وتسخر منه.

السعودية لا تستطيع أن تتحالف مع تركيا، حتى في خضم الخسارة المشتركة اليوم التي مُني بها الطرفان، في سوريا، وفي العراق، واليمن.. والسبب واضح في عمق التاريخ:

* فالرياض لا تنسى أن العثمانيين هم من دمّروا الدولة السعودية الأولى، وجاؤوا بالقوات المصرية ـ قوات محمد علي باشا وابنه ابراهيم، وطوسون فيما بعد ـ ليدمر الدرعية، عاصمة الدولة، وليوقع القتل في الوهابيين النجديين الأوائل، بحيث لازال الحدث حيّاً عند النجديين الذين اعتادوا تسمية العثمانيين بـ (الروم) المشركين او الكفرة. وأردوغان بلا شك سليل العثمانيين ويقفو أثرهم، ويتمنى لو أنه يستطيع أن يعيد مجد الامبراطورية الغاربة. هكذا يراه ال سعود، وحاضنتهم النجدية.

* والرياض لا ترحب بنجاح أي حركة اسلامية بحيث تصبح موضع مقارنة بالحكم السعودي البائس والفاشل. فلا حكم اسلامي ـ على الصعيد السني ـ الا الحكم السعودي الذي يطبق الكتاب والسنة؛ هذه رسالة الرياض. وإن نجاح التجربة الاسلامية الأردوغانية يعني تلقائياً الطعن في التجربة السعودية، وسوق الجمهور العربي والإسلامي السنّي الى حيث النموذج الناجح والأنصع، وليس نموذج السعودية المتخلف في الحكم، والإدارة، والمشبع بالفساد والجريمة والإرهاب الداعشي والقاعدي.

* ثم إن الرياض ـ كما القاهرة ـ اكتشفتا أن الدور التركي مرحّبٌ به إيرانياً أيّما ترحيب، لإدراك إيران بأن الدور التركي المتعاضد مع ايران ولاحقا مصر، سيضبط وضع المنطقة الأمني والسياسي، ويمنع التدخلات الأجنبية. ومن جانب آخر، سيكون الدور التركي المتعاظم في المنطقة على حساب السعودية ومصر (الراكدة والنائمة أواخر عهد مبارك).

* وفي الخلاصة فإن الدور التركي لم يكن مقدّراً له أن يتحالف مع دور سعودي، حتى وإن كان الطرفان تحت مظلّة امريكية غربية واحدة. والأهم بالنسبة للسعودية، فإن الدور التركي المرحب به هو ذاك الذي يواجه ايران، وتركيا لم تفعل ذلك حتى الان، رغم تصادم مواقف الطرفين الايراني والتركي في الملفين السوري والعراقي، خاصة في هذه الأيام.

جاء الربيع العربي، وتشكل تحالفٌ بين قطر وتركيا اضافة الى قوى الإخوان المسلمين في المنطقة العربية. وقد تلقى هزيمة منكرة بعد نصر بيّن، سواء في مصر او تونس او ليبيا او سوريا أو اليمن.

اختلطت الأوراق، فأضحت تركيا تواجه السعودية في مصر، كما تواجه الحكم المصري الجديد، وهو ما تشير اليه رعونة اردوغان في تصريحاته المتكررة.

واختلطت الأوراق مرة اخرى، فاصطدمت تركيا مع ايران في سوريا وفي العراق.

وفي كلا الحالتين كانت تركيا هي الخاسرة بالدرجة الأولى.

أما السعودية فرهانها كان على تخريب الربيع العربي في ثورة مضادة نجحت بشكل كبير. لكن الرياض خسرت لأنها راهنت على الثورة المسلحة والطائفية في سوريا، وخسرت مرة اخرى حين أجهضت ثورة اليمن، فانقلبت الى ثورة مسلحة شعبية بقيادة الحوثيين (انصار الله) قادت نتائجها ـ في النهاية ـ السعودية الى حرب استنزاف خاسرة بكل تأكيد.

الخاسران تركيا والسعودية، ومعهم قطر، والإخوان المسلمون، يراد لهم اليوم (قطرياً) أن يعاد تحالفهم على الأقل فيما يتفقون عليه، وليس هنالك من مكان يتفقون عليه إلا في سوريا وربما اليمن. لكن الرياض لا تريد شريكاً تركياً في اليمن تدفع له ثمن مشاركته. وتركيا في سوريا لها اليد الطولى ولا تستطيع الرياض فعل ما تريده إلا عبر تركيا، والى حد ما الأردن.

الخاسرون يقلّبون أوراقهم.. وقد روج الاخوان وقطر الى تحالف خليجي ـ عربي ـ تركي ينقذ العرب، ليس من أنفسهم او من الأمريكان أو من اسرائيل، وإنما من القوى المختلفة مذهبياً في اليمن والبحرين والعراق ولبنان وايران. وبعد (عاصفة الحزم) رأينا محاولات اخوانية قطرية لتربيط تحالف سعودي تركي، يكون على حساب مصر. او للضغط على مصر لتتنازل للإخوان ولو قليلاً، لكن هذا لم يحدث.

في زيارته الأخيرة الشهر الماضي الى أنقرة، اجتمع الملك سلمان مع اردوغان، وقد روج الاعلام القطري والإخواني قبل ايام من الاجتماع على هامش لقاء الدول العشرين، مبشراً بتحول في المواقف. لكن شيئاً لم يحدث سوى لقاء عابر بين اردوغان وسلمان.

الآن وبعد أن تدخلت تركيا عسكرياً في شمال العراق، انتفضت السعودية واعلامها للطعن في تركيا، لأنها تريد سرقة العرب السنّة واستمالتهم اليها بدلاً منها! مع ان سنة العراق اقرب روحاً وتاريخا الى تركيا منهم الى السعوديين.

في كل الأحوال، ستخسر تركيا في سوريا ومعها السعودية وقطر.

وستخسر السعودية في اليمن، وتالياً البحرين.

ولربما يعود شيءٌ من العقل لأردوغان فيصحح مواقفه ويرسم دوراً جديداً لتركيا.

وأيضاً لربما يستفيق حكام مصر في المدى المنظور والمتوسط، ليعيدوا لبلدهم شيئاً من الكرامة، ولشعبهم شيئاً من الحرية التي سحقتها أحذية العسكر.

الصفحة السابقة